33/03/18


تحمیل
 (بحث يوم السبت 18 ربيع الأول 1433 ه 72)
 قال (قده) في المسألة العاشرة : " إذا ادّعى شخص مالاً على آخر فالآخر لا يخلو من أن يعترف له أو ينكر عليه أو يسكت بمعنى أنه لا يعترف ولا ينكر ، فهنا صور ثلاث : (الأولى) : اعتراف المُدّعى عليه فيحكم الحاكم على طبقه ويؤخذ به " .
 لعل الوجه في تخصيص هذه المسألة بالدعوى المالية - كما هو الظاهر من قوله : (إذا ادّعى شخص على آخر مالاً) - أن الأدلة الآتية والأحكام المترتّبة عليها التي تُذكر في كل صورة من الصور الثلاث التي يكون عليها المنكر [1] واضحة الجريان في الدعوى المالية وهذا بخلاف الدعوى غير المالية - سواء تعلّقت بالعين أو بغيرها - فبعض الأدلة والأحكام لا يجري فيها فعُقدت هذه المسألة في ما هو محلّ اتّفاق في جريان الأدلة فيه بغضّ النظر عن مدى الالتزام بمقتضى هذه الأدلة وإثبات الأحكام التي تترتّب عليها .
 هذا .. وقد ذُكر في المتن ثلاث صور للمنكر عندما توجّه إليه الدعوى هي الاعتراف والإنكار والسكوت ، وأضاف بعضهم صورة رابعة وهي قول المنكر : (لا أدري) - وهو غير السكوت - ، وأضاف السيد صاحب العروة (قده) في ملحقاتها صوراً أخرى مثل قول المنكر : (أدّيتُ) أو (رددتُ) أو (أنت أبرأتني) ونحو ذلك مما يكون منافياً لدعوى المدّعي .. ونحن نتعرّض لما ذكره في المتن من الصور الثلاث بالترتيب :
 الصورة الأولى :

اعتراف المُدّعى عليه .. وهو ما يُسمّى بالإقرار وهو لغة من قَرّ الشيء يَقِرّ إذا ثبت فالمدّعَى عليه يُثبت ما يدّعيه المدّعِي عليه واصطلاحاً عُرّف بأنه إخبار عن حقّ لازم له وهو صحيح لأن الإقرار يدخل في باب الإخبار لا الإنشاء ، والمراد به الإذعان بالشيء ، وهو من طرق الإثبات في باب القضاء على حدّ البيّنة واليمين وعلم القاضي المباشر عن حسّ - كما تقدّم - .
 ومن المناسب قبل البحث عن الأحكام المترتبة على الإقرار البحث عن مدى حجيته ونفوذه وكيف تثبت الدعوى به فأقول :
 قد ذُكرت أدلة على نفوذ الإقرار وحجيته من جملتها روايات نتعرّض لبعضها :
 الرواية الأولى :

النبوي المشهور : (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) .
 ودلالة هذه الرواية على نفوذ الإقرار واضحة لأن المراد بالجواز فيها هو الجواز الوضعي أي النفوذ لا الجواز التكليفي كما هو ظاهر .. ولكن الكلام في سندها فإن هذه الرواية وردت في كتب الأحاديث مرسلة إلا أنها وردت كثيراً في كلمات الفقهاء في مقام الاستدلال وادّعى في الجواهر استفاضتها أو تواترها ومن المحتمل قوياً أن مقصوده الاستفاضة والتواتر المعنويين وهذه الدعوى ليس ببعيدة كما سيأتي فإن هناك روايات كثيرة ظاهرة في نفوذ الإقرار ، وأما احتمال أن يكون مقصوده الاستفاضة والتواتر اللفظيين فبعيد جداً لأن هذه الرواية ليس لها طريق وسند غاية الأمر تأتّي القطع بمضمونها .
 هذا .. وقد يُدّعى جبرها بعمل الأصحاب بالرغم من كونها مرسلة ومن المعلوم أن عملهم جابر لضعف السند فتصحّ الرواية حينئذ اعتماداً على قاعدة الجبر .. ولكن لو سُلمت هذه القاعدة كبرىً فهناك تشكيك في كون المقام صغرى لها وذلك من جهة أن الفقهاء وإن ذكروا هذا الحديث في مقام الاستدلال إلا أنه ليس من الواضح أنهم قصدوا الاستدلال به باعتباره حديثاً بل من المحتمل أنهم أرادوا الاستدلال به من حيث مضمونه ومعناه فيكون ذلك منهم إشارة إلى قضية ارتكازية عقلائية مفادها أن إقرار العاقل على نفسه نافذ .
 الرواية الثانية :

خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : " لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه " [2] .
 والكلام في هذه الرواية يقع في سندها وفي دلالتها :
 أما من حيث السند فهي ضعيفة برجلين أحدهما القاسم بن سليمان والآخر جرّاح المدائني فإنهما لم يُوثّقا في كتب الرجال .
 نعم .. ربما يقال بإمكان الاعتماد على المدائني من جهة أن النجاشي ذكر بشأنه أنْ : (له كتاب يرويه عنه جماعةٌ منهم النضر بن سويد) والتعبير بالجماعة ينصرف إلى الكثير والظاهر أنها روايةُ كتابةٍ لا رواية وجادة فلا يبعد أن يحقق هذا إكثار الرواية عنه [3] .
 وأما من حيث الدلالة فالمستفاد من منطوق القضية الواردة فيها أن شهادة الفاسق تُقبل على نفسه فبالأولوية القطعية يثبت أن شهادة غير الفاسق - وهو العادل - على نفسه تكون مقبولة [4]
  [8] فيتحصّل أن شهادة الإنسان مطلقاً - عادلاً كان أو فاسقاً - على نفسه تكون مقبولة وقبول الشهادة يساوق نفوذها وحجيتها فالنتيجة أن شهادة الإنسان على نفسه تكون نافذة ومقبولة وعلى ذلك فتكون شهادة المنكِر واعترافه على نفسه نافذاً في حقّه فيثبت المطلوب .
 والحاصل أن الرواية تامة الدلالة ولكن سندها ليس بتام .
 الرواية الثالثة :

مرسلة العطار عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه " [9] .
 وهذه الرواية ليست موجودة في الكتب الحديثية المعروفة وإنما رواها الشيخ الصدوق في كتاب صفات الشيعة عن محمد بن الحسن بن الوليد عن الصفّار عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن العطّار.
 وفي بعض النسخ بدل (محمد بن الحسن العطّار) ذُكر (محمد بن يحيى العطّار) وهو شيخ القميين في زمانه وبناءً على هذا يمكن إخراج الرواية عن حدّ الإرسال وعدم الاعتماد بملاحظة أن نسبة من يروي عنه محمد بن يحيى العطّار من الثقات والأجلاء كبيرة جداً فحينئذ يكون احتمال أن يكون الشخص المعبّر عنه بقوله (عن بعض أصحابه) من المجاهيل أو الضعاف احتمالاً ضعيفاً مما يورث الوثوق أو الاطمئنان بصحة الرواية سنداً .
 وأما من حيث الدلالة فهي تامة بتقريب أن المقصود بها أن الإنسان إذا شهد على نفسه فإن شهادته عليها تكون أصدق وأقرب إلى الواقع من شهادة سبعين مؤمناً يشهدون عليه فتكون شهادته على نفسه مقبولة ونافذة .
 الرواية الرابعة :

ما ورد في أبواب متفرّقة مثل باب الغصب والإقرار والعتق وغيرها - مما يدلّ على أن الشارع المقدّس حكم في مواردها بنفوذ إقرار الشخص على نفسه :
 منها : ما رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان لأحدهما عندي ألف درهم ثم مات على تلك الحال [10] ، فقال : أيهما أقام البيّنة فله المال فإن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان " [11] .
 ودلالتها على ما نحن فيه واضحة وذلك من جهة المفروغية عن نفوذ الإقرار وإنما الكلام فيها وقع في تحديد المقرّ له بمقتضى ما ذكره الإمام (عليه السلام) من الضابطة في ذلك وهي أن المال لمن أقام البيّنة وإلا فهو بينهما نصفان .
 ومنها : ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول : إن الناس كلهم أحرار إلا من أقرّ على نفسه بالعبودية وهو مُدْرِك من عبد أو أمة ومن شُهِد عليه بالرقّ صغيراً كان أو كبيراً " [12] .
 هذه الرواية وإن لم يكن موردها الدعوى المالية التي هي محلّ الكلام ولكنها تُشير بلا إشكال إلى أن إقرار الإنسان على نفسه بالعبودية يكون نافذاً فتدلّ على نفوذ الإقرار في ما نحن فيه من الإقرار بالمال بالأولوية .
 هذا .. وسيأتي الكلام على بقية الروايات إن شاء الله تعالى .


[1] وهي الاعتراف والإنكار والسكوت .
[2] الكافي مج7 ص395 ، الوسائل الباب السادس من أبواب الإقرار الحديث الأول مج23 ص186 .
[3] أقول تتميماً لهذا الوجه : أن إكثار الرواية عن الشخص يجعله من المعاريف والمشهورين فإذا ضُمّ إليه أنه ممن لم يرد بحقّه تضعيف فينتج توثيقه بناءً على كبرى توثيق الشخص إذا كان من المعاريف ولم يرد بشأنه تضعيف .. ولكنْ في تمامية هذه الكبرى كلام مذكور في محلّه من علم الرجال .
[4] إذ لا يُحتمل البتة اختصاص الفاسق بقبول شهادته في حقّ نفسه دون العادل بل قبول شهادة العادل في حقّ نفسه أولى .
[5] أقول : تطرّق (دامت بركاته) في مجلس بحثه الشريف في بيان الدلالة هاهنا إلى مفهوم الحصر فذكر أن الفاسق لا تُقبل شهادته على غيره فيُفهم أن غير الفاسق - وهو العادل - تكون شهادته على نفسه وعلى غيره مقبولة ، والملاحظ عليه أمران :
[6] الأول : إن عدم قبول شهادة الفاسق على غيره - وهو المستفاد من مفهوم الحصر أجنبي عن المطلوب فإن الكلام في إقرار الشخص على نفسه وأما شهادة الشخص على غيره فتدخل في باب البينة وهي غير محلّ الكلام .
[7] الثاني : إن الانتقال من قبول شهادة الفاسق على نفسه إلى قبول شهادة العادل على نفسه لا بد أن يكون بتوسّط الأولوية القطعية وكأنه (دامت بركاته) أضمرها فلم يتبيّن وجه الانتقال .
[8] ومن هنا آثرنا ذكر الأمر الثاني وعدم ذكر الامر الأول معتمدين على استبيان ما ذُكر في مجلس البحث بما ذكرناه في هذا الهامش توخّياً للأمانة في التقرير فليُلاحظ .
[9] صفات الشيعة للصدوق ص37 ، الوسائل أبواب الإقرار الباب الثالث الحديث الأول مج23 ص184.
[10] أي من غير أن يُشخّص من هو الدائن منهما .
[11] الكافي مج7 ص58 ، الوسائل أبواب الإقرار الباب الثاني الحديث الأول مج23 ص184 .
[12] الكافي مج6 ص195 ، الوسائل أبواب العتق الباب التاسع والعشرون الحديث الأول مج23 ص54 .