33/04/06


تحمیل
  (بحث يوم الأربعاء 6 ربيع الثاني 1433 هـ 86)
 تقدّم ذكر روايتين استدركنا بهما مسألة عدم جواز التقاصّ بعد يمين المنكر إحداهما صحيحة سليمان بن خالد [1] والأخرى معتبرة الحضرمي [2] وقلنا بأن بينهما تعارضاً في موردهما وهو الحلف خارج المرافعة - بقطع النظر عن محلّ الكلام [3] - فإن مفاد الصحيحة ترتّب الأثر على الحلف من حيث كونه قاطعاً للخصومة ومانعاً من التقاصّ من جهة نهي الإمام (عليه السلام) عن أن يأخذ من مال الحالف مكان ماله وأنه (عليه السلام) جَعَلَ ذلك من الخيانة ، ومفاد المعتبرة عدم ترتّب الأثر على الحلف فلا تنقطع به الخصومة ولا يكون مانعاً من التقاصّ .
 وذكرنا أن الاستدلال بالصحيحة - مع الغضّ عن المعارضة - إنما هو بحسب مدلولها الالتزامي بالأولوية أو بإلغاء الخصوصية ، وأما مع ابتلاء منطوقها بالمعارض [4] فيكون الاستدلال بها مبنيّاً على التفريق بين مدلوليها المطابقي والالتزامي - في الحجية بأن يُلتزم بحجية المدلول الالتزامي حتى بعد فرض سقوط المدلول المطابقي بالمعارضة .
 وأما بالنسبة إلى تعارضهما في موردهما وهو الحلف خارج المرافعة فقد ذكر الشيخ الأنصاري (قده) في مقام رفع التنافي بينهما أنه يُحمل الحلف في المعتبرة على الحلف غير المعتبر في حين يُحمل الحلف في الصحيحة على الحلف المعتبر .
 وأقول : إن كان المقصود من الحلف غير المعتبر هو الحلف خارج المرافعة ففيه أنه لا فرق بين الروايتين في ذلك إذ ليس في أيّ منهما ما يشير إلى كون الحلف داخل المرافعة ليتأتّى رفع التنافي بينهما بمثل هذا التغاير بل الظاهر منهما أن المفاد فيهما واحد وهو الحلف خارج المرافعة .
 وإن كان المقصود هو الحلف غير الجامع للشرائط المعتبرة في اليمين ففيه أنه لا قرينة عليه في الرواية .. اللّهم إلا أن يُجمع بينهما تبرّعياً بمثل هذا بدعوى أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح .
 هذا ما يرتبط بالبحث السابق .
 وأما ما يرتبط بما شرعنا فيه من البحث وهو في ما إذا أكذب المنكر نفسه حيث ذكر في المتن أنه يجوز للمدعي حينئذ المطالبة بالمال كما يجوز له التقاصّ فقد ذكرنا أنه استُدلّ له كما في الجواهر - بقاعدة الإقرار [5] ومعتبرة مسمع بن عبد الملك وما ذُكر من الإجماع المعتضِد بنفي الخلاف ، وقلنا بأنه يشكل الاستدلال برواية مسمع من جهة عدم كونها ناظرة إلى محلّ الكلام من الحلف داخل المرافعة فهي كالروايتين المتقدّمتين ناظرة إلى وقوع الحلف خارج المرافعة فلا يمكن الاستدلال بمفادها [6] في ما نحن فيه .
 وعلى ذلك فينحصر الاستدلال على المدّعى في المقام بقاعدة الإقرار والإجماع المذكور .
 يبقى هنا شيء وهو أنه كيف تُرفع المنافاة بين هذه الأدلة [7] التي مفادها جواز المطالبة بالحقّ والتقاصّ بعد تكذيب المنكر لنفسه وما تقدّم من أن اليمين ذهبت بالحقّ كما دلّت عليه رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة [8] وغيرها فما وجه رجوع الحقّ بالتكذيب بعد ذهابه باليمين .
 والصحيح في مقام الجواب الالتزام بأن نظر النصوص المتقدّمة الدالة على أن اليمين ذهبت بالحقّ والدعوى إنما هو إلى اليمين التي يلتزم بها المنكر ويبني عليها حتى انتهاء الدعوى ولا تشمل اليمين التي تراجع عنها صاحبها وأكذبها كما هو الحال في محلّ الكلام فلا تنافي بينها أصلاً حتى نحتاج معه إلى وجه لرفعه .
 الصورة الثالثة [9] : وهي سكوت المُدّعى عليه بمعنى عدم إقراره أو إنكاره .
 وأفاد في المتن بأن الحاكم هنا يطالب المدّعي بالبينة لما ذُكر في الصورة الثانية وهي الانكار من أن البينة على من ادّعى واليمين على ادُّعي عليه فإن أقام المدّعي البينة وإلا ألزم الحاكم المُدّعى عليه باليمين فإن هذا مُدّعى عليه وإن سكت .
 نعم .. استحلاف الحاكم للمدّعى عليه مشروط بما إذا رضي المدّعي به وطلبه منه ، وأما إذا لم يرض به ولم يطلبه منه فليس للحاكم حينئذ أن يستحلف المُدّعى عليه ولا أن يتبرّع المُدّعى عليه بالحلف .
 والظاهر أن هذا الأمر محلّ وفاق بين الأصحاب وقد نُقِل اتفاقهم على عدم ترتّب الأثر على يمين المُدّعى عليه من غير طلب من المدّعي ، واستُدلّ له مضافاً إلى ذلك [10] بمعتبرة ابن أبي يعفور - كما سيأتي - وبروايات أُخَر ، وقد علّله في الشرايع بأنه [11] : " حقّ للمدّعي فيتوقف استيفاؤه على مطالبته " ، قال في المسالك في تعليل هذا الحكم [12] : " فإن الإحلاف يُسقط الدعوى التي قد يتعلّق غرض المدّعي ببقائها إلى وقت آخر " ومراده أن إحلاف المُدّعى عليه يترتب عليه إنهاء الدعوى وإسقاط الحقّ والحكم لصالح الحالف [13] مع أن هذا قد لا يكون لصالح المدّعي [14] فإنه قد يتعلّق له غرض بتأخير إنهاء هذه الدعوى كما لو لم تكن له بينة حاضرة وقت الدعوى ولكن يتوقع قريباً الحصول عليها أو أنه قد ينتظر وقتاً معيّناً يتهيّب المُدّعى عليه من الحلف كاذباً فيه ونحو ذلك فلا معنى لإلزام المدّعي بإنهاء الدعوى بطلب الحاكم اليمين من المُدّعى عليه ولو لم يرضّ به المدّعي .
 والذي يظهر من عباراتهم أن الكلام يقع في أن الحاكم هل يمكنه أن يستقلّ في إحلاف المُدّعى عليه أم أن ذلك يتوقف على إذن المدّعي ولتحقيق الأمر لا بد من استعراض الأدلة التي أُشير إليها في كلماتهم :
 الدليل الأول : ما ذكره المحقق في الشرايع من " أن الإحلاف حقّ للمدّعي فيتوقف استيفاؤه على المطالبة " .
 وهذا الكلام بظاهره الأوّلي لا يخلو من مصادرة فإن كلامنا في الأساس هو في أن هذا حقّ للمدّعي أو ليس حقّاً له فإذا كان حقّاً له فلا يجوز للحاكم استحلاف المُدّعى عليه إلا بعد أخذ الإذن منه [15] وإن لم يكن حقّاً له فيجوز للحاكم أن يستقلّ بالإحلاف .
 ولعل مقصوده (قده) ما أشار إليه صاحب المسالك من أنه قد يتعلّق غرض المدّعي بتأخير الدعوى والبتّ فيها فيكون في إعطاء الحقّ للحاكم مستقلاً في إحلاف المُدّعى عليه وبالتالي إنهاء الدعوى تفويتٌ لهذا الغرض .
 ولكن هذا أيضاً لا يخلو من مصادرة لأنه يستبطن أيضاً افتراض أن إنهاء الخصومة هو حقّ للمدّعي مع أنه أول الكلام إذ لو ثبت أنه حقّ له لم يجز للحاكم الاستقلال بالإحلاف إلا بعد أخذ الإذن منه وإلا كان ذلك جائزاً له .
 الدليل الثاني : معتبرة ابن أبي يعفور المتقدّمة حيث ورد في صدرها : " إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي " .
 وتقريب الاستدلال بها أن يقال إن الظاهر منها أن سقوط حقّ المدّعي وبالتالي إنهاء الخصومة والدعوى مترتب على استحلافه للمدّعى عليه ورضاه بحلفه لا على استحلاف الحاكم له فإنه لم يُرُتّب عليه هذا الأمر فيها فيثبت ما هو المدّعى من أن اليمين الذي يُنهي الدعوى ويجوز للحاكم أن يحكم على طبقه يتوقف على رضا المدّعي به وإلا فلا يترتب عليه أثر .


[1] " قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثم وقع له عندي مال فآخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأَحْلِفُ عليه كما صنع ؟ فقال : إن خانك فلا تخنه ولا تدخل في ما عبته عليه " .
[2] " قال : قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قِبَلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي ؟ قال : فقال : نعم ، ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو ؟ قال تقول : اللهم لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزدد شيئاً عليه " .
[3] وهو الحلف داخل المرافعة .
[4] وهو مفاد منطوق معتبرة الحضرمي .
[5] أي إقرار العقلاء على أنفسهم جائز .
[6] وهو جواز التقاصّ لصاحب الحقّ حتى بعد حلف من عليه الحقّ .
[7] قد علمت أن معتبرة مسمع أبي سيّار لم تدخل في المعارضة لكونها غير ناظرة إلى محلّ الكلام من كون الحلف داخل المرافعة والدعوى . (منه دامت بركاته)
[8] " قال : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت اليمين بحقّ المُدّعي فلا دعوى له " .
[9] بعد صورتي الإقرار والإنكار المتقدّمتين .
[10] أي وفاق الأصحاب واتّفاقهم .
[11] أي إحلاف المُدّعى عليه .
[12] أي توقف إحلاف الحاكم للمُدّعى عليه على إذن المدّعي .
[13] وهو المُدّعى عليه هنا .
[14] الذي هو صاحب الحقّ في الاستحلاف .
[15] أي من المدّعي .