33/04/18


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 18 ربيع الثاني 1433 هـ 94)
 الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سكوت المدعى عليه / فروع متعلقة بقضية لزوم كون إحلاف الحاكم للمنكر بموافقة المدّعي وطلبه / حال البيّنة والإقرار واليمين من حيث صحة الاستناد إليها من دون حكم الحاكم في سقوط الدعوى / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 تبيّن مما تقدّم أن الأقرب عدم جواز العمل بالبيّنة لغير الحاكم لأجل فصل الخصومة ولو بمعزل عن عنوان الحكومة الاصطلاحية وأن العمل بها إنما يجوز لأجل ترتيب الآثار التي لا علاقة لها بفصل الخصومة كباب الطهارة والنجاسة وباب الأمور الوضعية كالزوجية والملكية ونحو ذلك بل يمكن أن يقال إن الإقرار أيضاً كذلك بمعنى أن العمل به لأجل القضاء وفصل النزاع فصلاً شرعياً قضائياً مختص أيضاً بالحاكم ولا يجوز لغيره أن يستند إلى الإقرار في الفصل القضائي بالمعنى الاصطلاحي وإنما يفترق الإقرار عن البيّنة في صورة فصل الخصومة بالتوافق أي لا على أساس الحكومة الاصطلاحية فيجوز في الإقرار دون البيّنة ، وقلنا إن الظاهر من الأدلة أن البيّنة طريق شرعي جعله الشارع المقدّس للحاكم في مقام فصل الخصومة فمن المشكل جداً تعميمها للفصل بين المتنازعين على سبيل التوافق خارج إطار المحاكمة .
 وأما الإقرار فالحال فيه يختلف فإن الإقرار لمّا كان بنفسه يُنهي الخصومة ويرفع موضوعها من رأس - لا أن العمل به والاستناد إليه يكون منهياً لها حتى يقال بأن هذا أيضاً عمل بطريق شرعي لإنهاء الخصومة فيختص بالحاكم - جاز العمل به في صورة فصل الخصومة بالتوافق ، نعم .. الاستناد إليه في الحكم والقضاء بالمعنى المصطلح لا يكون جائزاً لغير الحاكم كما قلنا بذلك في باب البيّنة .
 هذا حال البيّنة وحال الإقرار وتبيّن أن الاقرب هو التفريق بينهما باللحاظ المتقدّم .
 وأما اليمين فيختلف حاله عنهما فإن ظاهر النصوص والفتاوى أن الأثر من سقوط الدعوى والحقّ يترتب على مجرّد اليمين ولا يتوقف على حكم الحاكم .
 وأهمّ النصوص التي ظاهرها ذلك روايتان :
 الأولى : معتبرة ابن أبي يعفور التي استندنا إليها في جملة من الأحكام المتقدّمة ففيها يقول الإمام (عليه السلام) : " إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه [1] فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له " [2] .
 فإن ظاهر هذه المعتبرة أن ذهاب الدعوى وسقوطها يترتب على مجرد يمين المنكر وهذا في الحقيقة تمسّك بالإطلاق [3] فإن مقتضاه أنه يترتب عليه مطلقاً [4] وهذا معناه أن سقوط الحقّ وذهاب الدعوى يترتب على يمين المنكر وإن لم ينضم إليه حكم الحاكم وهذا هو المطلوب في المقام .
 الثانية : صحيحة سليمان بن خالد : " قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثم وقع له عندي مال فآخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلِفُ عليه كما صنع ؟ فقال : إن خانك فلا تخنه ولا تدخل في ما عبته عليه " [5] .
 فالإمام (عليه السلام) يُعبّر في هذه الرواية عن أخذ المال بعد اليمين بالخيانة وهو ظاهر في سقوط الحقّ باليمين .
 وهذه الصحيحة وإن كانت معارضة بمعتبرة الحضرمي التي ورد فيها : " رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي ؟ قال فقال : نعم " [6] فإن ظاهر هذه المعتبرة جواز التقاصّ بعد الحلف وهو يعارض ما دلّت عليه صحيحة سليمان من النهي عن الأخذ بعد اليمين ولكن يرتفع التعارض بينهما بحمل الحلف في المعتبرة على الحلف التبرّعي فلا يسقط به الحقّ ولذا حكم الإمام (عليه السلام) بجواز التقاصّ بعده وحمل الحلف في الصحيحة على الحلف بعد الاستحلاف فتكون هذه الصحيحة دليلاً على أن الحلف بعد الاستحلاف الواجد للشرائط يكون موجباً لسقوط الحقّ ولذا لم يجوّز الإمام (عليه السلام) له التقاصّ بعده .
 
 ويؤيّد هذا المعنى [7] بعض الروايات الأخرى التي وإن كانت ضعيفة السند إلا أن لها ظهوراً في المعنى المتقدّم :
 منها : مرسلة الصدوق : " من حلف لكم بالله على حقّ فصدّقوه ومن سألكم بالله فأعطوه ذهبت اليمين بدعوى المدّعي ولا دعوى له " [8] .
 فإنها ظاهرة أيضاً في أن اليمين بما هي يمين توجب ذهاب الدعوى فلا دعوى للمدّعي بعدها وهذا يعني أن جميع الآثار التي تترتب على الدعوى لا تترتب في المقام فلا تجوز له المطالبة بالمال ولا إقامة الدعوى عند حاكم آخر إلى غير ذلك من الآثار .
 ومنها : رواية النخعي : " قال : الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال : إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه " [9] .
 وظاهرها أن سقوط الحقّ يترتب على يمين المنكر ومقتضى إطلاقها أنه يترتب عليه مطلقاً وإن لم ينضم إليه حكم الحاكم .
 ومنها : رواية ابن وضّاح : " قال : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف يميناً فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة فأردت أن اقتصّ الألف درهم .. فكتب (عليه السلام) : لا تأخذ منه شيئاً إن كان قد ظلمك فلا تظلمه ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذها من تحت يدك ولكنك رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها .. " [10] .
 وهي واضحة في أن سقوط الحقّ الذي ترتب عليه الحكم بعدم جواز التقاصّ إنما ترتب على يمين المنكر وليس في الرواية ما يشير إلى اعتبار حكم الحاكم بل مقتضى إطلاقها أن سقوط الحقّ يترتب على يمين المنكر مطلقاً .
 ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله : " قلت للشيخ (عليه السلام) : خبّرني عن الرجل يدّعي قِبَل الرجل الحقّ فلا يكون له بينة بما له ، قال : فيمين المدعى عليه فإن حلف فلا حق له " [11] .
 وهذه الرواية ظاهرة أيضاً في أنه لا يتوقف سقوط الحقّ على حكم الحاكم بل على مجرد يمين المُدّعى عليه .
 فظهر ممّا تقدم أنه لا يوجد في شيء من النصوص ما يشير إلى اعتبار حكم الحاكم .
 ولكن بالرغم من ذلك فإن جماعة من الفقهاء (رض) خالفوا في ذلك واشترطوا لذهاب الدعوى باليمين وسقوط الحقّ به حكم الحاكم منهم الشيخ صاحب الجواهر (قده) - كما تقدّم - حيث جزم بأن اليمين وحده لا يكفي لإسقاط الدعوى بل لا بد من انضمام حكم الحاكم إليه وقد ذكر دليلاً تأمّلنا فيه سابقاً .
 ثم إن الشيخ الأنصاري (قده) استشكل في التمسّك بإطلاق الروايات القاضية بعدم التوقف على حكم الحاكم بعد أن اعترف بأن ظاهرها ذلك وقد ذكر ما يمنعه من الالتزام بمفادها من عدم التوقف حيث قال : " لأن الاطلاقات مسوقة لبيان أسباب الحكم لا أسباب نفس قطع الدعوى " [12] .
 ومقصوده (قده) إن التمسّك بإطلاق الروايات ممنوع لأنها ليست مسوقة لبيان ما يتحقق به قطع الدعوى حتى يقال إنها في مقام البيان من هذه الجهة فإذا ذكرت اليمين وسكتت عن حكم الحاكم فمقتضى الإطلاق المقامي أن حكم الحاكم ليس دخيلاً في سقوط الدعوى بعد اليمين وإنما هي مسوقة لبيان أسباب الحكم التي منها اليمين .
 ولكن يمكن التأمل في ما ذكره (قده) وإثبات نظر الروايات إلى بيان ما يتحقق به قطع الدعوى فإن عمدتها كما تقدّم - معتبرة ابن أبي يعفور وقد ذُكر فيها شرط هو : (إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فأحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله) وجواب هو : (ذهبت اليمين بحقّ المدّعي ولا دعوى له) وظاهر هذه العبارة أنها مسوقة لبيان ما تسقط به الدعوى ويتحقق به قطعها فليست قضية ذهاب الدعوى مسوقة عرضاً حتى يُدّعى أن الرواية ليست في مقام البيان من هذه الجهة بل الكلام أساساً كان مسوقاً لأجلها فإنها وقعت جواباً للشرط لا أنها ذُكرت كمتعلق من متعلقاته وحالها في ذلك حال قوله (عليه السلام) : (إذا خفي الأذان فقصّر) حيث لم يستشكل أحد في التمسّك بإطلاق ترتب الجزاء على الشرط في كفاية مجرد خفاء الأذان في التقصير وعدم توقفه على شيء آخر ، والاستدلال بالرواية كان على هذا الاساس فإنه حيث لم يُذكر مع اليمين حكم الحاكم فمقتضى إطلاق ترتب ذهاب الدعوى على اليمين الذي يرضى به المستحلِف بالشرائط المعتبرة أن حكم الحاكم غير معتبر في إسقاط الحقّ .
 والحاصل أن الاستشكال في الإطلاق لا يبدو وجيهاً .
 وكيف كان فالذي يظهر من بعض الفقهاء (رض) كالمحقق الأردبيلي المفروغية عن عدم التوقف على حكم الحاكم في باب اليمين حيث ذكر في مقام الاستدلال على عدم احتياج ثبوت الحقّ باليمين المردودة [13] إلى حكم الحاكم ما نصّه : (ولأن سقوط الدعوى بيمينه [14] لا يحتاج إلى حكم الحاكم فكذا يمين المدّعي فإنها ليست بأضعف من ذلك بل أقوى) [15] فاستدلّ على عدم الاحتياج إلى حكم الحاكم في ثبوت الحقّ بيمين المدّعي المردودة بأن يمين المنكر في إسقاط الحقّ لا تتوقف على حكم الحاكم فيظهر أن هذه القضية مفروغ عنها عنده (قده) حتى تأتّى له أن يستدلّ بها في محل الكلام .
 هذا .. واحتمل السيد صاحب العروة (قده) في ملحقاتها تعميم عدم التوقف إلى الإقرار بل ترقّى واحتمل التعميم إلى البيّنة ثم قال : (والإنصاف أنه [16] ليس كلّ البعيد [17] إن لم يكن الإجماع على خلافه) [18] ، ولكن الظاهر أنه ليس ثمة إجماع بل مقتضى إطلاق عبارات الفقهاء (رض) كقولهم : (باليمين تسقط الدعوى) هو عدم التوقف على حكم الحاكم .


[1] أي استحلف المدّعي المنكر أو طلب من الحاكم إحلافه .
[2] الكافي مج7 ص417 .
[3] أي إطلاق ترتب ذهاب الحقّ على يمين المنكر .
[4] أي سواء انضم إليه حكم الحاكم أو لم ينضم إليه .
[5] الكافي مج5 ص98 .
[6] التهذيب مج6 ص348 .
[7] أي في سقوط الحقّ بمجرّد اليمين وعدم توقّفه على حكم الحاكم .
[8] الفقيه مج3 ص63 .
[9] الكافي مج7 ص418 .
[10] الكافي مج7 ص431 .
[11] الكافي مج7 ص416 .
[12] القضاء والشهادات ص211 .
[13] وهي اليمين التي يردّها المنكر على المدّعي (منه دامت بركاته) .
[14] أي المنكر .
[15] مجمع الفائدة والبرهان مج12 ص140 .
[16] أي عدم الاحتياج وعدم التوقف على حكم الحاكم .
[17] هكذا عبّر ومراده أنه ليس كل ذلك ببعيد .
[18] العروة الوثقى مج6 ص505 .