33/06/24


تحمیل
  (بحث يوم الأربعاء 24 جمادى الثانية 1433 هـ 135)
 الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التي وقع الكلام في نفوذ الحكم فيها وعدم نفوذه / المورد الثالث : في ما إذا كان حكم الحاكم مستنداً إلى علمه الشخصي / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده).
 
 كان الكلام في استعراض الموارد التي وقع الكلام في نفوذ حكم الحاكم فيها وعدم نفوذه وجواز نقضه وعدم جوازه ووصل البحث إلى المورد الثالث وهو ما إذا كان حكم الحاكم مستنداً إلى علمه الشخصي لا إلى بيّنة أو يمين أو إقرار فهل يجوز لحاكم آخر نقض حكمه وإصدار حكم آخر مستند إلى البيّنة - مثلاً - وهل يجوز للمحكوم عليه في القضية أن يترافع إلى حاكم آخر أم لا ؟
 ذكرنا في البحث السابق أنه يمكن أن يقال إن حكم الحاكم المستند إلى علمه الشخصي إنما يكون حجة في حقّه ولا يكون حجة في حقّ الحاكم الثاني ولذا يُمكن للحاكم الثاني أن ينقض ذلك الحكم استناداً إلى ميزان آخر في باب القضاء كالبينة أو يمين المُدّعى عليه بخلاف ما إذا كان مستنده في حكمه هو البيّنة فإنها كما هي حجة في حقّ الحاكم الأول كذلك هي حجة أيضاً في حقّ الحاكم الثاني فلا مبرّر حينئذ للحاكم الثاني في نقض حكم الحاكم الأول لأنه استند فيه إلى ما هو حجة بنظره أيضاً .
 ولكن يمكن أن يُجاب بأنه بعد البناء عن كون علم الحاكم من طرق الإثبات في باب القضاء فلا فرق حينئذ في أن يُستنَد في الحكم إلى البيّنة أو إلى العلم الشخصي للحاكم إذ بالنتيجة يكون الحكم قد صدر على طبق الموازين المقرّرة شرعاً فيشمله دليل النفوذ وقول الإمام (عليه السلام) أنه : (إذا لم يُقبل منه بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ) فعدم تجويز نقض الحكم من قبل الحاكم الثاني إذا كان الحاكم الأول مستنداً فيه إلى البيّنة ليس مرجعه في الحقيقة إلى كون البيّنة حجة عند الطرفين حتى يقال بأن هذا لا يشمل العلم الشخصي لأنه إنما يكون حجة عند صاحبه فقط وليُفرّع عليه جواز نقض الحكم من قبل الحاكم الثاني بل مرجعه إلى دلالة الدليل الخاص على أن الحكم المستند إلى أحد الموازين المقررة شرعاً للإثبات القضائي يحرم نقضه ولا يجوز ردّه ، وهذا الدليل كما يشمل الحكم المستند إلى البيّنة يشمل كذلك الحكم المستند إلى علم القاضي بعد البناء عن كونه من وسائل الإثبات في باب القضاء فلا فرق بينهما في الحقيقة من هذه الجهة .
 وأما التفريق بينهما بما ذُكر من كون البيّنة حجة عند الطرفين وكون العلم الشخصي مختصاً بصاحبه فهو وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أن الكلام في حدود دليل النفوذ وأنه هل يختصّ بالحكم المستند إلى البيّنة أم يشمل كل حكم يصدر من الحاكم إذا كان مستنداً إلى أحد الموازين الشرعية المعتبرة ؟
 الصحيح بحسب ما يُستفاد من المقبولة وغيرها هو الثاني بمعنى أن الدليل لا يختص بالحكم المستند إلى خصوص البيّنة بل هو يشمل جميع طرق الإثبات القضائي فإذا بُني على أن علم القاضي منها كان لا ريب داخلاً في عمومها .
 هذا من جهة .. ومن جهة أخرى فإنه لو جاز للحاكم الثاني أن ينقض حكم الحاكم الأول ويحكم بحكم مخالف له فمع الالتزام بعموم دليل النفوذ لكل مستند سواء كان هو البيّنة مثلاً أو علم القاضي بعد الفراغ عن كونه من طرق الإثبات في باب القضاء يكون كل من حكم الحاكم الأول المستند إلى علمه الشخصي وحكم الحاكم الثاني المستند إلى البيّنة نافذاً ، ورفع اليد عن الحكم الأول والالتزام بنفوذ الحكم الثاني ترجيح بلا مرجّح فإن كلاً منهما حكم صدر من الحاكم الجامع للشرائط على طبق الموازين المقررة فحينئذ يقع التعارض بين الحكمين فيتبيّن أنه على كل تقدير لا يسقط حكم الحاكم الأول عن الاعتبار والنفوذ وينفرد حكم الحاكم الثاني بهما [1] بل في الحقيقة أن المنفرد بالاعتبار والنفوذ هو الأول ولا مجال للثاني بإزائه .
 المورد الرابع : ما إذا عُلم بمخالفة حكم الحاكم للحكم الواقعي النفس الأمري .
 وقد يُمثّل لهذا المورد بما إذا حكم الحاكم بزوجية الأخت الرضاعية أو حكم بزوجية الربيبة المدخول بأمّها أو حكم بصحة البيع الربوي ففي جميع هذه الأمثلة يحصل علم بمخالفة حكم الحاكم للحكم الواقعي النفس الأمري .
 ولكن هذا غير وجيه لأن الحكم في مثل هذه الأمثلة في درجة من الوضوح والضرورة عادة بحيث لا يُتصوّر أن يحكم به إلا من لم يكن مجتهداً أصلاً أو كان ولكن لم يكن عادلاً ، وأما المجتهد العادل فلا يمكن افتراض أن يحكم بمثل هذه الأحكام في تلك الأمثلة المذكورة مع أن من الواضح عدم صحتها بمجرد المراجعة اليسيرة إلى أدلتها .
 والمناسب أن يُطرح مثالاً لهذا المورد ليكون مقابلاً للمورد الأول تماماً بما إذا كان الحكم غير داخل في ضمن الأحكام الضرورية الواضحة كما لو فرضنا أنه حكم بعدم زوجية المرأة التي تربطها بزوجها رضاعة بمقدار عشر رضعات الذي هو محلّ خلاف في كونه ناشراً للحرمة لكونه يرى كفاية ذلك المقدار في نشر الحرمة بين المرتضعين وفرضنا أنه قد حصل العلم لغيره بمخالفة حكمه للحكم الواقعي النفس الأمري لكون ذلك الغير قد جزم بأن الحكم الواقعي النفس الأمري هو عدم كفاية ذلك المقدار وإنما لا بد في نشر الحرمة من أن تكون الرضعات خمس عشرة رضعة .
 والحاكم في هذا المورد - كما في المورد الأول - افتُرض فيه كونه جامعاً للشرائط وهو قد حكم على طبق الموازين ولم يكن ثمة تقصير في اجتهاده غاية الأمر أن اجتهاده أدّى إلى أن يرى كفاية العشر رضعات في نشر الحرمة فحكم على وفقه وهذا في نظر الغير حكمٌ مخالف للحكم الواقعي النفس الأمري ، نعم .. الفرق بين الموردين أنه في المورد الأول كان الاختلاف بين الحاكم الأول والثاني في واقع الموضوع المحكوم به فحكم الحاكم الأول بأن الدار لزيد - مثلاً وكان الحاكم الثاني يرى أنها لعمرو واقعاً ، وأما في المورد الرابع فالاختلاف بينهما في واقع الحكم الشرعي فكان الحاكم الأول يرى - مثلاً - كفاية عشر رضعات في نشر الحرمة بين المرتضعين في حين أن الحاكم الثاني كان يرى عدم كفاية هذا المقدار ومن ثم يتأتّى السؤال هنا - كما قيل في المورد الأول في أنه هل يجوز للحاكم الثاني الذي يعلم بالخلاف أن ينقض حكم الحاكم الأول ويُصدر حكماً آخر أم أن حكم الحاكم الأول نافذ غير قابل للنقض .
 والذي ينبغي أن يقال في المقام ما قيل في المورد الأول من نفوذ حكم الحاكم الأول وعدم جواز نقضه وإن عُلم هنا بمخالفته للحكم الواقعي النفس الأمري استدلالاً بنفس الدليل المذكور في المورد الأول .
 المورد الخامس : ما إذا تبيّن خطأ الحاكم في اجتهاده ، من دون افتراض القطع بمخالفة حكمه للواقع أو للحكم الواقعي النفس الأمري [2] .
 وهذا المورد هو الحالة الشائعة في باب القضاء ، وتبيُّن الخطأ في الاجتهاد يُتصوّر على انحاء :
 النحو الأول : أن يتبيّن الخطأ فيه على نحو القطع واليقين كما لو كان قد اعتمد في حكمه على رواية ضعيفة - مثلاً قد اتّفق الكل على ضعفها لا أنه قد اجتهد في العمل بها - مثلاً - بأن كان يرى جواز العمل بالروايات الضعيفة فإن هذه مسألة سيأتي بحثها .. ولكن مع ذلك لا يُقطع بأن حكمه هذا مخالف للواقع إذ قد يكون في الواقع مطابقاً له فعلاً .
  ولهذا النحو صورتان :
 الصورة الأولى : ما إذا كان الخطأ في نفس الميزان الذي طبّقه كما لو اعتمد في حكمه على يمين المدّعي أو بينة المُدّعى عليه - مثلاً فهو في الحقيقة استند إلى ما لا يصلح أن يكون ميزاناً مع افتراض أنه قد أدّى نظره اشتباهاً إلى جواز الاعتماد عليه فيُقطع هنا بخطئه في اجتهاده من جهة خطئه في الميزان .
 وفي هذه الصورة لا ينبغي الشك في عدم نفوذ حكمه وجواز نقضه لعدم كون هذه الصورة مشمولة لما استُدلّ به على النفوذ وحرمة النقض إذ لا يصدق على من حكم بغير الميزان الشرعي أنه حكم بحكمهم (عليهم السلام) فلا يكون عدم قبوله حينئذ استخفافاً بحكم الله ولا ردّه ردّاً على الأئمة (عليهم السلام) فإن موضوع النفوذ الذي تترتب عليه هذه الآثار إنما هو الحكم على طبق الموازين المعتبرة التي نصّت عليها الأدلة الشرعية وقد ثبت أن الشارع المقدّس جعل بينة المدّعي ويمين المُدّعى عليه هما الميزان لا بينة المُدّعى عليه ويمين المدّعي فالحكم المستند إلى غير الميزان المجعول يجوز نقضه ولا يحرم ردّه لأن الأدلة الدالة على النفوذ لا تشمله .
 الصورة الثانية : أن يتبيّن الخطأ على نحو القطع واليقين في تطبيق الميزان لا في نفس الميزان كما لو فرضنا أنه اعتقد اشتباهاً - عدالة الشهود وأصدر حكمه استناداً إلى شهادتهم ولكن عُلم من قبل غيره أن الشهود كانوا فسّاقاً بحيث لو أُلْفِت نظر الحاكم إلى هذا الأمر لرأى ذلك أيضاً وتبيّن له اشتباهه ولم يُصرّ على موقفه ، وكما لو وصلت النوبة أمام القاضي إلى يمين المنكر فحلف واعتقد القاضي أنه حلف بالله وأصدر حكمه استناداً إلى يمينه ولكن عُلم من قبل غيره أنه حلف بغير الله تعالى - والحلف بغير الله تعالى ممّا لا يترتب عليه أثر في مقام الدعوى - ففي هذين المثالين ونحوهما هل يجوز نقض حكم هذا الحاكم أم لا ؟
 الظاهر أن هذه الصورة كسابقتها في عدم نفوذ حكم الحاكم وجواز نقضه لعدم كون هذه الصورة أيضاً مشمولة لما استُدلّ به على النفوذ وحرمة النقض إذ أنه حكم بغير الميزان الشرعي فلا يصدق أنه حكم بحكمهم (عليهم السلام) فالأدلة الدالة على النفوذ لا تشمل هذه الصورة كما لم تشمل سابقتها .
 وبقية الكلام تأتي إن شاء الله تعالى .


[1] أي بالاعتبار والنفوذ .
[2] فإن افتراض القطع بخطأ الحاكم في اجتهاده لا يستلزم افتراض القطع بمخالفة حكمه للواقع أو للحكم الواقعي النفس الأمري فقد يتّفق موافقة حكمه للواقع وإن كان قد أخطأ الطريق في الوصول إليه .