11-01-1436


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

36/01/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- مسألة ( 436 )/ الواجب الثالث عشر من واجبات حج التمتع ( رمي الجمار ).
هذا وقد يشكل ويقال:- إن ظاهر الأوامر هل هو اعتبار المباشرة بخصوصها - أي مباشرة الشخص بنفسه للواجب كالرمي مثلاً - أو أن ظاهر الأمر هو اعتبار الانتساب الذي يتحقق بالمباشرة ويتحقق بالإذن فالانتساب الأعم من المباشرة هو ظاهر الأمر أو أنّ ظاهر الأمر هو اعتبار المباشرة عند القدرة والإذن عند عدم القدرة ؟ هذه احتمالات ثلاثة.
أما الاحتمال الأوّل - وهو اعتبار المباشرة بخصوصها -:-فلازمه أنّه عند تعذّر المباشرة يسقط الرمي ولا حاجة إلى أن يأذن المكلف في الرمي عنه لأن الانتساب ليس بمطلوبٍ وإنما المطلوب هو المباشرة وهي غير ممكنة، نعم لو دل دليلٌ على اعتبار النيابة أخذنا به - كما قد دلّ بالفعل - أما الإذن في النيابة فليس بمعتبرٍ إذ المفروض أنّ ظاهر الأمر هو المباشرة بخصوصها فالإذن لا دور له في هذا المجال، فالنتيجة إذن سوف تصير هي أنّ الأذن ليس بمعتبر.
وأما على الاحتمال الثاني - يعني أن المعتبر هو الانتساب - فنقول:- لو كان الانتساب هو المعتبر فاعتبار الإذن في النيابة شيءٌ وجيهٌ كي يتحقّق بذلك الانتساب، ولكن الانتساب بهذا المعنى الأعمّ ليس هو ظاهر الأمر وليس معتبراً وإلّا فلازمه أنّ المكلف يصير مخيّراً من البداية بين المباشرة وبين النيابة عن إذنٍ إذ المطلوب هو الانتساب وهو لا يتوقّف على المباشرة فتكفي النيابة عن إذنٍ، وهذا شيءٌ لا يمكن الالتزام به - يعني في حالة الاختيار تجوز النيابة عن إذنٍ - فهذا الاحتمال لو تمّ اعتبر الإذن في النيابة لكن هو في نفسه ليس بتام ولا يمكن أن نأخذ به.
وأما الاحتمال الثالث - يعني أن نقول بأنه عند تمكنه تعتبر المباشرة وعند عدم المكنة يكفي الاذن - فيرد عليه:- إنّ ظاهر الدليل لا يفي بهذا التفصيل وأنه إن كنت ممكنا فلابد من أن ترمي بالمباشرة وإن لم تكن متمكّنا تكفي النيابة عن إذنٍ، إنّ هذا التفصيل لا يدلّ عليه ظاهر الأدلّة جزماً فيتعيّن بذلك أن يكون الاحتمال الوجيه هو الأوّل ولازمه عدم اعتبار الإذن؛ إذ على الأوّل تكون المباشرة هي المعتبرة والمفروض أنها ليست ممكنة فحينئذٍ يسقط الرمي ولكن دلّت الأدلة على اعتبار النيابة فنلتزم بذلك - يعني على اعتبار النيابة للدليل الخارجي - أمّا الإذن فليس بمعتبرٍ إذ المفروض أنّ الانتساب لا يلزم تحقّقه ولا تدلّ عليه الأدلة . هكذا قد يشكل على ما ذكرناه سابقاً.
والجواب:- يمكن أن يقال بأنّ الانتساب هو المعتبر دون المباشرة ولكن نقول إنَّ الانتساب يصدق عرفاً في حقّ القادر على الرمي بنفسه إذا باشر وأمّا إذا لم يكن قادراً فسوف يصدق الانتساب بالإذن . إذَن المعتبر هو الانتساب دون خصوص المباشرة ولا يلزم من ذلك محذور أن المكلف سوف يصير مخيّراً، كلّا بل نقول إنّه مادام يمكنه المباشرة فالعرف يرى أن الانتساب يتوقّف على المباشرة وإذا لم يكن متمكّناً فالانتساب يتحقّق بالإذن . إنّه بناءً على هذا لا يرد شيء من الاشكالات المتقدّمة، وهذا شيءٌ وجيهٌ إلّا أنه يحول شيء دون الالتزام به وهو أنَّ لازم هذا هو عدم الحاجة إلى دليلٍ يدلّ على النيابة، يعني إذا كان الشخص ليس بقادرٍ على المباشرة فلا نحتاج إلى دليلٍ يدلّ على اعتبار النيابة بل يكون وجوب النيابة ثابتاً بلا حاجة إلى دليل، ولماذا ؟ لأن ظاهر الأمر ( إرمِ ) الانتساب على ما فرض والانتساب في حقّ غير القادر يتحقّق بالنيابة عن إذنٍ فلا نحتاج إلى دليلٍ يقول إنّ الكسير أو المبطون ينيب شخصاً عنه بل نفس الدليل الاوّلي - أي ( ارمِ ) - يتكفّل إثبات اعتبار النيابة عن إذنٍ بلا حاجة إلى دليلٍ، وهل يلتزم بذلك ؟ إنّه شيءٌ مخالفٌ للوجدان - يعني لا يمكن لفقيهٍ أن يقول إنَّ الدليل الأوّلي هو بنفسه يدلّ على اعتبار النيابة بلا حاجة إلى دليلٍ خاص على ذلك
وبهذا ننتهي إلى هذه النتيجة:- وهي أن ظاهر  أمر ( ارمِ ) اعتبار المباشرة لا الانتساب بعرضه العريض بل خصوص المباشرة، وبناءً عليه لا وجه لاعتبار الإذن لكي يتحقّق الانتساب إذ الانتساب ليس هو المعتبر بل المعتبر هو المباشرة والمفروض أنّها قد تعذّرت فإذا تعذّرت تسقط بل المناسب سقوط وجوب الرمي من الأساس، لكن حيث دلّ الدليل على النيابة فنلتزم بذلك وأمّا الإذن فلا حاجة إليه وهذا هو المناسب بمقتضى القاعدة على ما اتضح.
وأقول شيئاً آخر:- إنَّ هذا الكلام - وهو أنّ ظاهر الأمر المباشرة - ليس تامّاً على الاطلاق بل ينبغي التفصيل بين المواد وهذه نكتة ظريفة، فبعض المواد لا تقبل النيابة وعند تعذّر المباشرة يلزم سقوط الواجب والنيابة تحتاج إلى دليلٍ فإن دلّ الدليل عليها التزمنا بذلك تعبّداً وهذا من قبيل الأكل والشرب والنوم والمطالعة والسفر فإن هذه المواد لا تقبل التوكيل والنيابة فإذا قيل ( كُلْ ) فلا معنى لأن أنيب شخصاً مكاني في الأكل فإن الأكل لا يقبل النيابة بالنظر العرفي، نعم إذا دلّ دليل خاص على أنّه إذا لم تتمكن من أن تأكل فلابد وأن يأكل عنك شخص آخر فإذا دلّ دليل هكذا فنلتزم به ونلتزم به بحدوده فإن قال مع الإذن نلتزم بذلك مع الإذن وإن قال يكفي مطلقاً فيكفي مطلقاً، بينما بعض المواد الأخرى تقبل النيابة في حدّ نفسها عرفاً وعقلائياً وهذا من قبيل البيع والقبض والحلق والتقصير وما شاكل ذلك فإنه يصدق عرفاً أنّي بعت داري بنحو الحقيقة لو أذنت لشخصٍ أن يبيعها بلا حاجة إلى أن اتصدّى بنفسي للبيع، وهكذا بالنسبة إلى القبض فيصدق عرفاً أنّي قبضت إذا أذنت لشخصٍ أن يقبض عنّي بلا حاجة إلى دليلٍ خاص فعرفاً ينتسب القبض لي مادمت قد أذنت لشخصٍ به، وهكذا التقصير فيصدق أنّي قصّرت شعر رأسي إذا أذنت لشخصٍ أن يقصّره ولا يلزم أن آخذ المقص وأقصّر بنفسي . إذن مثل هذه المواد لو كانت هي المطلوبة والواجبة يثبت التخيير من البداية بلا حاجة إلى دليلٍ خاص فالمكلف مخيّر - إذا قيل له بع دارك أو اقبض الثمن أو احلق أو قصّر - بين أن يتصدّى للبيع هو مباشرة أو يوكل ويأذن بذلك لشخصٍ، بينما في المواد الأولى يكون المطلوب هو المباشرة وإذا لم تمكن المباشرة يسقط الأمر ولا تصل النوبة إلى النيابة إلّا إذا دلّ دليل خاص وتكون القضية تعبديّة آنذاك، والرمي من أي القبيلين فهل هو من القبيل الأوّل أو الثاني ؟ الظاهر أنّه من القبيل الأوّل فهو لا يقبل النيابة ولذلك لو قلت لشخص أنا لا أتمكن من الرمي فارم عنّي فرمى عنّي فلا أتمكن أن أقول أنا رميت بل اقول رمى عنّي شخص آخر بخلافه في البيع فيقال أنا بعت داري رغم أنّي لست المتصدّي لصيغة البيع ولكن يصدق عرفاً أنّي بعت داري فينتسب البيع لي.
إذن النتيجة التي نخرج بها من خلال هذا البيان كلّه:- هي أنّ المواد على نحوين فبعضها لا تقبل النيابة فإذا تعذّرت المباشرة يسقط الأمر ولا تصل النوبة إلى  النيابة إلّا إذا دلّ دليلٌ خاص، بينما بعض المواد الأخرى تقبل النيابة ويكون المكلف مخيّراً من البداية، والرمي ليس من البعيد أن يكون من القبيل الأوّل، فعلى هذا الأساس تكون المباشرة هي المعتبرة فإذا لم يمكن المباشرة فيسقط الأمر ونلتزم آنذاك بالنيابة إذا دلّ الدليل على اعتبارها وحيث إنّ الدليل لم يدلّ على اعتبار الإذن فنتمسّك بالاطلاق إن كان وإن لم يكن إطلاقٌ نتمسّك بالأصل العملي.
ورب قائل يقول:- هذا كلّه لو كان عندنا أمر ( أرم ) موجوداً  ونتعامل معه ولكن نحن فيما سبق ذكرنا - أي في مبحث رمي جمرة العقبة وفي رمي اليومين الحادي عشر والثاني عشر - أنّ وجوب الرمي في هذه الأيام لا يمكن استفادته من الأدلّة اللفظيّة وإنما الدليل على وجوب الرمي في هذه الأيام هو أنّ المسلمين كانوا يأتون بالرمي جميعاً في اليوم العاشر وباقي الأيام ولم يتخلّف البعض وهؤلاء حينما كانوا يأتون بهذا الرمي يأتون به إمّا بنحو الوجوب أو بنحو الاستحباب أو أن النصف كان يأتي به بنحو الوجوب والنصف الآخر يأتي به بنحو الاستحباب والمناسب هو الأوّل - يعني كانوا يأتون به بنحو الوجوب - والاحتمالان الاخيران باطلان، أما الاحتمال الثاني باطل فباعتبار أنه لا يحتمل أنّ الجميع كان يأتي به بنحو الاستحباب إذ لا أقل كان يتركه بعض المسلمين فلو أُخبِرنا الآن أنّ رمي جمرة العقبة يوم العاشر ليس بلازمٍ لتركه البعض لشدّة الزحام أو لعوارض وموانع أخرى فمن المناسب أن يتركه بعض المسلمين فعدم تركهم والالتزام به جميعاً يدلّ على وجوبه، وأيضاً لو كان مستحباً كيف انقلب الآن إلى وجوب عند الفقهاء بأجمعهم ؟!! فهذه النقلة من الاستحباب إلى الوجوب ظاهر ملفتة للنظر وتستحق النقل لو كانت ثابتة، فإذن هذا الاحتمال باطل.
وهكذا الاحتمال الثالث هو باطل لأن هذه ظاهرة يرد عليها نفس ما يرد على الاحتمال الثاني.
والذي أريد أن أقوله:- نحن تمسيكنا سابقاً بهذا البيان ولم يكن لدينا دليل لفظيّ بلسان ( إرمِ ) حتى نقول إنَّ ظاهره اعتبار المباشرة أو أنّ الرمي لا يتحقّق إلا بالمباشرة وتحتاج النيابة إلى دليل ونرجع إلى ذلك الدليل ونلاحظه، فكلّ هذا الكلام يأتي بناءً على أن المستند هو دليلٌ لفظيّ والمفروض أنّه ليس لدينا دليل لفظي.
وجوابه:- صحيحٌ أنه لا يوجد عندنا دليل لفظي يدلّ على الوجوب لكن نفس تلك الأدلة التي استدل بها على الوجوب ونحن لم نرتضِها فهي بضمّ هذا البيان الذي أشرنا إليه تصير دالة على الوجوب، من قبيل صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إرم في كلّ يوم عند زوال الشمس وقل كما قلت حين رميت جمرة العقبة )[1]، إنّ هذا لم نقبل دلالته على الوجوب وقلنا أنّ هذا ناظر إلى أن الرمي يكون عند الزوال أمّا أنه واجب أو ليس بواجبٍ فهو ليس بصدده بل في هو في صدد بيان شرطية الزوال من قبيل ( اقنت قبل الركوع ) فإنه بيان لموضع الركوع أمّا أنه واجب أو ليس بواجبٍ فهذا لا يستفاد منه، مضافاً إلى أنّ الرواية مقترنة بمجموعة من المستحبات، فإذن نحن لم نرتضِ دلالتها على الوجوب، ولكن بعد أن فرض أنّ البيان الذي أشرنا إليه قد قبلناه فبواسطته يثبت أنّ ( إرم ) هنا يقصد منها الوجوب ونستفيد الوجوب لا من نفس هذا اللفظ وظاهر هذه الرواية بل بالاستعانة بذلك الدليل الخارجي، فبالتالي تكون كلمة ( إرم ) دالة على الوجوب ولكن بواسطة غيرها وليس بنفسها وما دامت دالة على ذلك فنتعامل معها معالة الدليل اللفظي ولا يتغيّر  أيّ مطلب من المطالب التي أشرنا إليها.