38/03/19


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 28 ) الاجارة على الواجبات - المكاسب المحرمة.

وفيه:-

اولاً:- إن المناط الاستطاعة أن يملك الانسان بالفعل زاداً وراحلة أو ثمن ذلك أما أنه لا يملك ذلك بالفعل وانما يملكه بالقوة يعني بمعنى أنه لو عمل أو لو مات مورثه أو لو أهدى له شخص مالاً .... وهكذا فيملك مقدار الاستطاعة هذا لا ينفع ، بل المهم أن يملك ذلك بالفعل إما عين الزاد والراحلة أو ثمنهما ، ومستند ذلك صحيحة هشام بن الحكم:- ( عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله " ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا " ما يعنى بذلك ؟ قال:- من كان صحيحاً في بدنه مخلى في سربه له زاد وراحلة )[1] ، إنه عليه السلام فسّر الاستطاعة بمجموعة أمور ثلاثة ، ومن الواضح أن فتوى الفقهاء على هذا وهي أن الاستطاعة تحتج الى هذه الأمور الثلاثة استناداً إلى هذه الرواية ، وقوله عليه السلام ( له زاد وراحلة ) ظاهره أنه له زاد وراحلة بالفعل ، وبإلغاء الخصوصية عرفاً نتعدّى الى ثمن ذلك ، لأنّنا إذا لم نرد أن ندخل هذه الارتكازات العقلائية والمتشرعية نخرج بفقه جديد يعني أن هذه المرتكزات كنز ثمين فهنا أيضاً هكذا فإنه لو أردنا أن نتعامل مع النص فلازمه أنه له زاد وراحلة فيلزم أن يكون له زاد وراحلة أما لو كانت عنده طائرة فلا تنفع بل لابد من الراحلة وإن كان يمكن أن يقال إنّ الراحلة يعمّ ما يركبه فيشمل الطائرة لكن لازمه أنّ الزاد والراحلة موجودان بالفعل ، فإذا لم يكن عنده زاد وراحلة ولكن توجد عنده أموال كثيرة يلزم أن نقول هذا ليس بمستطيع ، ولكن الارتكاز العرفي يلغي خصوصية أن يكون له عين الزاد والراحلة ، بل المقصود إما نفس الزاد والراحلة موجود أو ثمنهما يعني توجد مكنة على الزاد والراحلة هذا حسب الارتكاز العرفي.

إذن الصحيحة دلت على أنه يلزم أن يكون مالكاً للزاد والراحلة أو لثمنهما بالفعل.

فإذا عرفنا هذا حينئذٍ نأتي ونقول:- ما المقصود من أنه يلزم أن يكون الحر مستطيعاً حتى إذا لم يكن عنده زاد وراحلة ولا ثمن ذلك ؟ هل لأجل أنه عنده طاقة على العمل بالفعل فيلزم أن يكون مستطيعاً ؟ أو أن المقصود ليس الطاقة فقط وإنما المقصود هو أنه لو تكسّب واشتغل وعمل كان مستطيعاً ؟

فإن قصد الأول فيردّه:- أنا هذا اليوم عندي طاقة هذا اليوم أما طاقة اليوم البعدي فلم تحصل بعد وإنما إذا بقيت حياً فسوف تكون تلك الطاقة تحت حوزتي بالفعل لكن في هذا اليوم هذا المقدار من الطاقة موجود وهذا المقدار من الطاقة لا يعادل مقدار الاستطاعة.

وإذا حلّ غد نقول إنّ طاقة أمس قد انتفت وزالت وانعدمت وصارت سالبة بانتفاء الموضوع وحصلت في هذا اليوم طاقة جديدة وهي طاقة هذا اليوم وهي وحدها أيضاً لا تساوي الاستطاعة ، وهكذا في اليوم الثالث ، وكل يوم يتجدد يتملك الانسان ويكون تحت حوزته طاقة ذلك اليوم لا طاقة ما مضى فإنه قد فنى وانعدم ، ولا طاقة ما يأتي من اليوم البعدي لأن تلك الطاقة يملكها بالتقدير يعني إن بقي الى غد لا أنها موجودة بالفعل إذ أن غد لم يحل بعدُ فطاقته ليست موجودة ، فالاستطاعة بالفعل لا تكون متحققة ، فإذن هذه الطاقات ليست موجودة بالفعل فإذن لا تتحقق بذلك الاستطاعة بالفعل.

وأما إذا المقصود هو الثاني فجوابه واضح:- فإنّ هذا استطاعة تقديرية أي معلقة على أنه لو عمل وتكسب لحصل على المال وليست استطاعة فعلية وقد قلنا في المقدمة أنّ صحيحة هشام دلت على أنّ المعتبر هو الاستطاعة الفعلية دون التقديرية - أو بالقوة إن صحّ التعبير-.

نعم ينبغي الالتفات الى الفرق بين باب الحج وبين باب الخمس والزكاة ، فإنه في باب الحج دلت الصحيحة على أنّ المدار على الاستطاعة الفعلية وليس على الاستطاعة التقديرية والمعلقة ، وهذا بخلافه في باب الخمس والزكاة فإنّ المدار في الاستحقاق على أن يكون الشخص ليس بغني بالفعل ولا بالقوّة ، والمقصود من بالقوة يعني حتى لو أراد أن يعمل لا يستطيع أن يحصل على المقدار الذي يكون غنياً بواسطته فيكون فاقداً للغنى الفعلي وللغنى التقديري ، فموضوع الاستحقاق هناك شيئاً آخر ، بينما في باب الاستطاعة لصحيحة هشام موضوع وجوب الحج هو الاستطاعة الفعلية.

ثانياً:- بغضّ النظر عمّا أشرنا إليه من جواب يمكن أن نجيب بجوار آخر ونقول:- نعم المناسب ثبوت الاستطاعة إذا كان الانسان يملك طاقة وقدرة على العمل تساوي مقدار الاستطاعة بحيث لو عمل حصل على مقدار الاستطاعة - لو سلمنا ذلك - ولكن نقول يوجد ما يخرجنا عن هذا ويمنعنا بالأخذ به فإنّ سيرة المتشرعة جارية على أن المدار على الاستطاعة الفعلية دون هذا المقدار من الاستطاعة.

فإذن ما تقوله صحيح ولكن يوجد ما يخرجنا عما تقتضيه القاعدة فإنه لو كان عمل الحر مالاً فالقاعدة تقتضي وجوب الحج على الانسان الذي يستطيع أن يعمل ولكن خرجنا عن هذا بأن السيرة المتشرعية القطعية على أن الذي يستطيع العمل رغم أنه كذلك لا يحكمون بوجوب الحج عليه وإنما يحكمون بوجوب الحج والسيرة جارية فيما إذا كان الانسان عنده مال بالفعل ، أما إذا كانت عنده طاقة فقط فلا أحد يحتمل أنه يجب عليه الحج . فإذن الذي يخرجنا هو سيرة المتشرعة أو قل الارتكاز المتشرعي.

الوجه الثاني:- لو كان عمل الحر مالاً يلزم أنه لو حبس للزم الضمان له ، فلو فرض أن شخصاً حبس بغير حق مدة يوم أو يومين أو أكثر فبعدما يخرج من السجن إذا كان عمله مالاً يلزم أنه يستحق ما يقابل عمله فهو يتمكن أن يقول أنا صاحب طاقة وهي مالٌ وانتم بحبسي قد فوّتم علي مقداراً منها فهذا لا يقبل منه ولا يوجد عندنا شخص يقول ذلك ، غير الكسوب فإنّ الكسوب فيه مجال أما الانسان العادي ففي مثل هذه الحالة يلزم أنه لو حبس بغير حق يلزم ضمان ما يقابل العمل وهل يلتزم بذلك ؟ كلا ، وهذا إن دل على شيءٍ فهو إنما يدل على أنّ عمل الحر ليس مالاً إذ لو كان مالاً لثبت الضمان على هذا العمل الذي فاته.

وقبل أن نعلق عليه نشير الى مطلبين جانبيين:-

المطلب الأوْل:- إنّ كلا هذين الوجهين قد أشار إليهما السيد اليزدي(قده) في حاشيته على المكاسب حيث قال:- ( الثاني أن يقال إنه ليس بمال فعلاً ولذا لا تتعلق به الاستطاعة إذ لا يجب الحج على من كان قادراً على الكسب في طريق الحج أو إجارة نفسه وصرف الاجرة في الحج ، وأيضا لو حبسه الظالم لا يكون ضامنا لما يمكنه ان يكتسب في ذلك اليوم مثلاً بخلاف ما إذا حبس العبد أو الدابة فإنه ضامن لمنافعهما وإن لم يستوفهما )[2] .

إذن السيد اليزدي(قده) يظهر منه البناء على أن عمل الحر ليس بمال ويتمسّك بهذين الوجهين.

المطلب الثاني:- إنّ هذا المورد وهو ضمان عمل الحر وقع محلاً للخلاف بين الفقهاء بين قائلٍ بأنه لا يضمن وبين قائلّ بأنه يضمن ، ومن جملة القائلين بأنه يضمن المحقق في الشرائع حيث قال:- ( ولو حبس صانعاً[3] لم يضمن أجرته - ما لم ينتفع به[4] - لأن منافعه في قبضته ) ، وعبارة ( لأن منافعة في قبضته ) تعليل الى ( لم يضمن أجرته ) لأنّ منافع الصانع في قبضته ، يعني يريد أن يقول إن هذا الشخص منافعه كملابسه فكما أن ملابسه موجودة معه كذلك منافعه هي موجودة معه وفي قبضته فإذن نحن لم نفوت عليه مادامت هي كذلك.

وهل نقبل هذا أو لا فإنّ هذه قضية ثانية ، وقياسه على الثياب صحيح أو لا فهذه قضية ثانية أيضاً ، ولكن المقصود هو أن صاحب الشرائع(قده) قال إن منفعة الصانع الحر اي الكسوب لا تضمن وعلل بأن منافعه لم تفوّت لأنها موجودة في قبضته كملابسه ، فإذن هو حكم بعدم الضمان.

وتعال الى الملا أحمد الاردبيلي(قده)[5] فإنّ العلامة في متن الارشاد كانت عبارته هكذا:- ( ولو استخدم الحر ضمن اجرته ولا يضمن بدونه وإن كان صانعاً ) وكلام العلامة نستفيد منه التفصيل بين ما إذا استخدمته فهذا استيفاء للمنافع فيوجد ضمان ، وبين ما إذا لم يستخدمه فلا ضمان وإن كان صانعاً - أي كسوباً - ، فالعلامة حكم بعدم ضمان عمل الحر.

وجاء الاردبيلي(قده) فقال:- إنه يمكن أن نقول بالضمان ، وذلك لقاعدة نفي الضرر وللآيتين الكريمتين ، يعني قوله تعالى﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾[6] ، وقوله تعالى ﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾[7] .

فإذن الاردبيلي ذهب الى الضمان لهذين الوجهين.


[1] وسائل الشيعة، العاملي، ج11، ص35، ابواب وجوب الحج وشرائطه، ب8، ح7، آل البيت.
[2] الحاشية على المكاسب، السيد اليزدي، ص55.
[3] ومقصوده من صانعاً يعني كسوباً كما فسره صاحب الجواهر(قده)، يعني الكسوب لا تضمن أجرته فضلاً وبالأولى غير الكسوب، هذا هو المقصود فهو يبين الفرد الخفي الذي هو محل النزاع وهو أنه الكسوب يرد ان يقول لا تضمن له.
[4] يعني إذا انتفع بالفعل فحينئذٍ يكون ضامناً وهذا يسمونه استيفاء المنافع لا تفويت المنافع وفي استيفاء المنافع يوجد ضمان.
[5] مجمع الفائدة والبرهان، الاردبيلي، ج10، ص513.