38/07/18


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/07/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

الرواية السادية:- ما في الفقيه:- ( وكان أمير المؤمنين يقول:- ألا فاصدقوا إن الله مع الصادقين وجانبوا الكذب فإنه يجانب الايمان الا وأن الصادق على شفا منجاة وكرامة الا وأن الكاذب على شفا مخزاة وهلكة .. )[1] ، ثم بعد أن نقل صاحب الوسائل(قده) هذه الرواية عن الفقهي قال ( ورواه في العلل أيضاً ) وذكر سند الصدوق في العلل ، وقال ( ورواه أيضاً البرقي في المحاسن ).

أما من حيث السند:- فقد ينمكن التأمل في صحته ، باعتبار أنها مرسلة ، وما في العلل من سند يوجد فيه ضعف ، وأيضاً سند المحاسن كذلك ، فهي من حيث السند يمكن التأمل والتوقف فيها.

يبقى أنه هل يمكن أن يدعم طريق ما في العلل ثم نضمه إلى طريق المحاسن فربما نحصل على اطمئنان ؟ والجواب:- إنَّ تطبيق هذا في هذا المورد محل تأمل ، باعتبار أنَّ الرواية يرويها الشيخ الصدوق(قده) مرسلة فهذا الطريق بحكم العدم لأنَّ هذا لا يعدّ طريقاً فالمدار إذن على الطريق الثاني والثالث يعني يوجد طريقان لا أنه يوجد ثلاث طرق ، فإذن من حيث الطريق يمكن التأمل والمناقشة فيه.

وأما من حيث الدلالة:- فيمكن أن يقال إنَّ الرواية ناظرة إلى حكم ارشادي ، فهي تريد أن ترشد إلى آثار الصدق والكذب وأنَّ الصادق على نجاة وأنَّ الكاذب على شفا جرفٍ هار ، فلا يبعد أن يقال إنَّ لسانها لسان الارشاد.

الرواية السابعة:- علي بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان عن أبي مخلّد السرّاج عن عيسى بن حسّان قال:- ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كلّ كذبٍ مسؤول عنه صاحبه يوماً إلا كاذباً في ثلاثة رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه ، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يردي بذلك الاصلاح بينهما ، أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتم لهم )[2] .

وهي من حيث السند محل تأمل:- فإنَّ عيسى بن حسّان لم يوثق ، نعم أبو مخلّد ربما يقال بإمكان توثيقه من طريق صفوان بناء على كبرى وثاقة كل من روى عنه أحد الثلاثة ، أما عيسى فلا يوجد توثيق في حقه.

وأما من حيث الدلالة:- فربما يقال إن الوارد فيها ( كل كذب مسؤول عنه صاحبه ) و ( مسؤول عنه ) ليس خاصاً بالعذاب والتعذيب وإنما يعمّ المكروه أيضاً فالمكروه يسأل ويعاتب عليه ولكنه سؤال مخفّف ، فربما يقال إنَّ كلمة ( مسؤول ) أعمّ من الحرمة ، إلا إذا فسّرنا عبارة ( مسؤول عنه ) يعني معذّب عليه ، فإذن ربما يتردّد في دلالتها.

الرواية الثامنة:- رواية الأعمش عن جعفر بن محمد عليه السلام:- ( ..... قال:- والكبائر محرمة وهي الشرك بالله وقتل النفس اليت حرم الله ... والكذب )[3] .

وهي ضعيفة من حيث السند:- فإنَّ الأعمش لم يوثق ، وهكذا كل الطريق فإنه ليس بثابت.

وأما من حيث الدلالة:- فربما يقال إنَّ كلمة ( الكذب ) هنا مطلقة وقد عُدّ من الكبائر فإنَّ الكبائر هي الشرك بالله والكذب و ..... فهي ناظرة إلى التحريم ، واحتمال الارشاد هنا ليس بموجود ولا تأمل في دلالتها على التحريم ، وقد جاءت كلمة ( الكذب ) مطلقة فدلالتها تكون جيدة حينئذٍ.

إلا أن يقول قائل:- إنها ناظرة إلى الكبائر ، فإنه توجد قرينة ارتكازية متصلة ، يعني من المحرّمات ما يكون محرّماً والكبائر منه كذا وكذا ، فهي ناظرة إلى ما هو محرّم ، فما فرض أنه محرّم متى يكون كبيرة ؟ هي تقول: المحرّم إنما يكون كبيرة إذا كان شركاً أو إذا كان قتلاً للنفس أو إذا كان كذباً ، فلابد في المرحلة الأولى من فرض كونه محرّماً حتى تأتي الرواية وتقول هو من الكبائر ، فهذه الرواية تدل على أنَّ الكذب من الكبائر في فرض حرمته ، يعني إذا فرض في المرتبة السابقة أنه حرام فهو حينئذٍ يكون من الكبائر فكلّ أفراده من الكبائر ، والمفروض أنَّ الكذب في الهزل لم تثبت عندنا حرمته في المرحلة السابقة ، فعلى هذا الأساس تكون الرواية قاصرة عن شموله ، فمن المحتمل أنَّ الرواية ناظرة إلى ذكر الكبائر ولكن أيّ كبائر ؟ هي الكبائر من المحرّمات فلابد في المرتبة السابقة يثبت أنه محرّم ثم تأتي هذه الرواية وتقول هو من الكبائر ، وحيث إنَّ الكذب في مقام الهزل لم يثبت في المرتبة السابقة أنه من المحرّمات فلا تكون ناظرة إلى اثبات أنه كبيرة حتى نتمسّك بالإطلاق ، نعم الكذب المحرّم هو بجميع أفراده ومصاديقه هو من الكبائر لكن بشرط أن يثبت في المرحلة السابقة أنه حرام والمفروض في مقامنا أنَّ الكذب في مقام الهزل لم يثبت كونه من المحرّمات فكيف نتمسّك بالرواية لإثبات أنه كبيرة على وجه الاطلاق.

الرواية التاسعة[4] :- عدة من اصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن عثمان بن عيسى عن ابن مسكان عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:- ( إنَّ الله عز وجلّ جعل للشر اقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرٌّ من الشراب )[5] .

وهي من حيث السند موثقة.

أما دلالتها:- فنحتاج إلى مقدمتين حتى تتم الدلالة على المطلوب:-

المقدمة الأولى:- إنَّ الرواية جعلت الكذب شرّ من الشراب وشرّ بمعنى أشرّ أي صيغة تفضيل فالكذب إذن مبقتضى الرواية أشد شراً من الشراب وحيث إنَّ الشراب – أي الخمر – محرّم جزماً فالكذب الذي هو أشد شرّاً من الشراب سوف يصير محرّماً بالأولوية – أو أنه محرم من دون أولوية – وهذا لا كلام فيه ، فلا تقل: إنَّ الرواية ليس فيها صيغة نهي حتى نستفيد من ذلك التحريم ، فنقول: نحن نستفيد التحريم بهذه القضية وهي أنه حيث إن الشراب من الخارج نعرف بمقتضى الآية الكريمة حيث حرمت الخمر فإذا كان الكذب اشد شراً من الشراب فيلزم أن يكون محرّماً.

المقدمة الثانية:- إن الرواية جاءت بلمة الكذب مطلقة ولم تقيد يعني الكذب بما هو كذب أشد شراً من الشراب فيستفاد من ذلك حرمة الكذب على سعته ودائرته الوسيعة والمطلقة وبذلك يتم المطلوب.

اللهم إلا أن يقال:- إنَّ الرواية هي في صدد وفي مقام البيان من ناحية أن هذا أشد شراً من ذاك يعني في الجملة الكذب أشد شراً من الشراب اما أنه بجميع افراده أو لا فهي ليست في مقام البين من هذه الناحية وإنما هي في مقام البيان من تلك الناحية فقط وهي أن الكذب أشد شراً من الشراب أما المتكلم فهو ليس في مقام البيان أنه جميع أفراد شرّ أو لا فهو ناظر في الجملة لا بالجملة ، فإذا فرضنا انه ناظر في مقام البيان من تلك الناحية فقط فعلى هذا الأساس لا يمكن أن نحصل على الاطلاق والأمر إليك ، وإني أرى أن هذا شيئاً محتملاً وهي أنها في مقام البيان من تلك الناحية ونحن في تعابيرنا العرفية أحينا نكون بهذا الشكل ، وبناءً على هذا سوف يصير استفادة الاطلاق أمراً مشكلاً[6] .

وبالجملة:- إنَّ تحصيل رواية تركن إليها النفس سنداً ودلالةً وهكذا بالنسبة إلى الآيات فتحصيل آية كريمة تامة فيها اطلاق دلالةً ليس أمراً سهلاً.

نعم هناك طريق آخر وذلك بأن يقال:- نتمسّك بإلغاء الخصوصية عرفاً ، بمعنى أنه إذا ثبت بالدليل حرمة الكذب في غير مقام الهزل - الذي هو القدر المتيقن - ثبتت حرمته في مقام الهزل أيضاً لعدم الفرق بينهما في النظر العرفي من هذه الناحية ، وذلك ببيان: أنَّ الكذب في مقام الهزل ماذا يقصد منه ؟ إذا فسّرنا الكذب في مقام الهزل يعني أنه ينصب قرينة على أنه هازل فإذا كان المقصود هو هذا فسوف يأتي أنه محلّل ولا مشكلة فيه وقد أشرنا إليه سابقاًً ، أو يفترض أنه يدخل علينا وهو يضحك ويلقي عيلنا خبراً فيقول اليوم نحن مدعوون في بيت فلان فهنا ضحكته قرينة على أنه هازل ، أما لو دخل من دون ضحك وقال لي أنت اليوم مدعوّ في بيت فلان وأنا ذهبت إليهم ثم قال لي بعد ذلك إني كنت هازلاً معك فهو يقصد الهزل ولكن لا يبرزه فمفروضنا هو هذا ، فهذا النحو من الكذب مع الكذب الذي يصدر لا بقصد الهزل عرفاً لا يبعد أنهما من وادٍ واحد ولا فرق بينهما في الخطيئة وغيرها ، فمجرّد أنه قاصد الضحك على الطرف الآخر لعلّه من المناسب أن تكون حرمته أشد ، فإنّ سلّمنا هذا فنحكم بالحرمة نحو الفتوى ، وأما إذا فرض أننا لم نقبل بهذا فنصير إليه على مستوى الاحتياط الوجوبي من حيث وجاهة المساواة بينهما من دون بلوغ درجة الجزم ولأجل الرواية الرابعة المتقدّمة التي عن أبي ذر والتي تقول ( إنَّ الرجل يتكلم بالكلام ليضحك به القوم فيهوي إلى النار ما بين السماء والأرض ) ، أما إذا جزم بالمساواة فحينئذٍ نفتي بالحرمة.

لكن قد يقول قائل[7] :- نحن نحتاج إلى دليلٍ لفظي يحرّم الكذب عن جدّ حتى حينئذٍ بضم إلغاء الخصوصية عرفاً فيثبت بذلك التعميم.

قلت:- إنَّ الدليل على حرمة الكذب في الجدّ هو قوله تعالى ﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون ﴾[8] ونحن قلنا فيما سبق ان هذه الآية لا يمكن أن نستفيد منها الاطلاق لنها قضية في واقعة فإنها ناظرة إلى اليهود ، فإنها قالت لهم عذاب اليم بسبب كذبهم يعني هناك كذباً قد صدر منهم أما ما هو الكذب الصادر منهم ؟ لعله كذب خاص ، فلا نتمكن حينئذٍ استفادة الاطلاق لأنها قضية في واقعة ، ولكن بالتالي هي تثبت حرمة الكذب في الجملة والقدر المتيقن منه الكذب الجدّي الذي لا يقصد به الهزل ، فإذا كان هذا هو القدر المتيقن فبضمّ إلغاء الخصوصية حينئذٍ نستفيد التعميم ، ولعله من بعض الآيات والروايات الأخرى يمكن أن نستفيد آية أو رواية من هذا القبيل وأنا فقط أردت أن أتي بمثال لذلك[9] .

نحوان للكذب هزلاً:-

يمكن أن نقول إنَّ الكذب هزلاً له ثلاثة مصاديق ، ونذكر هذه المصاديق حتى نعرف المحرّم منها ونميّزه عن غيره:-

النحو الأوّل:- ما أشرنا إليه الآن ، وهو أنَّ يكذب الشخص من دون أن يبرز قرينة على أنه هازل ولكنه قلباً يكون قاصداً بذلك المزاح مع الطرف من دون ابراز قرينة ، وهذا هو الذي قلنا على الأقل الأحوط وجوباً حرمته ، وهذا أيضاًَ لا يبعد أن يكون هو مقصود السيد الماتن حيث قال:- ( ولا فرق في الحرمة بين ما يكون في مقام الجدّ وما يكون في مقام الهزل ) ، والذي قلنا من المناسب أن يكون محرّماً.

النحو الثاني:- أن يقصد الإخبار هزلاً وينصب قرينة على أنه هازل ، كأن يفترض أنه كان يضحك - والضحك نفسه قرينة - وهو يقول نحن اليوم مدعوون عند بيت فلان ، فهو يقصد الإخبار بذلك لكنه مبرز للقرينة على كونه هازلاً ولو كانت القرينة هي الضحك أو غيره ، وهذا النحو قد أشرنا إليه في بداية هذه النقطة وقلنا من المناسب أنه عند نصب قرينة على أنه هازل في كلامه لا يبعد خروجه عرفاً عن موضوع الكذب.

القسم الثالث:- أن يفترض أنه لا يقصد الإخبار أبداً ، كما لو كان يتكلّم وحده في الشارع أو أنه يتكلّم مع الأطفال ولكنه لم بقصد الإخبار رأساً ، ومن الواضح أنه لابد أن تكون القرينة واضحة عرفاً على أنه لا يقصد الجِد كقصص جدّتي فإنها من هذا القبيل فإنه لا يقصد الإخبار بها والقرينة أيضاً معها ، فهذا خارجٌ تخصّصاً لأنه ليس بإخبارٍ أصلاً فحينئذٍ لا يعدّ كذباً.

إذن اتضح أنَّ محلّ الكلام حينما نتكلّم ونبحث هل الكذب في الهزل حلال أو حرام ينبغي أن يكون بالنسبة إلى القسم الأوّل الذي فيه إخبار ولا تكون هناك قرينة واضحة على أنَّ المقصود هو الهزل ، أما إذ كان هناك إخبار والقرينة على الهزل موجودة أو ليس بإخبارٍ أصلاً فهذا يمكن أن يقال بأنه خارج موضوعاً عن الكذب ، وقد أشار إليه السيد الماتن في عبارته حيث قال:- ( نعم إذا تلكم بصورة الخبر هزلاً بلا قصد الحكاية والإخبار فلا بأس به ) ، وهذه العبارة تلتئم مع النحو الثاني والنحو الثالث ، وكان من المناسب أن يفصَّل كما أوضحنا.

وعلى أي حال نحن نوافقه في كلا النحوين سواء كان المقصود هو الثاني أو كان المقصود هو الثالث فالمناسب كما أفاد(قده) هو أنه ليس بحرام وقد بيّنت النكتة.

وللشيخ الأعظم(قده) عبارة في المكاسب في هذا المجال أيضاً تشير إلى ذلك حيث قال:- ( ثم إنَّ ظاهر الخبرين الأخيرين خصوصاً المرسلة حرمة الكذب حتى في الهزل ويمكن أن يراد به الكذب في مقام الهزل[10] ، وأما نفس الهزل وهو الكلام الفاقد للقصد إلى تحقق مدلوله فلا يبعد أنه غير محرّم مع نصب القرينة .... )[11] .

إذن نحن قلنا هو جائز في النحو الثاني والثالث لخروجه موضوعاً أو لعدم صدق الكذب ، ويوجد دليلاً ثانياً وهو السيرة فإنَّ سيرة المتشرعة والمتدينين جارية عليه وهذا غير قابل للتشكيك.


[4] هذا ما استدركه الشيخ الاستاذ في المحاضرة التالية / المقرر.
[6] انتهى القسم الأول من الاستدراك ؟ المقرر.
[7] هذا هو القسم الثاني مما استدركه الشيخ الاستاذ في المحاضرة التالية / المقرر.
[9] انتهى ما استدركه الشيخ الاستاذ / المقرر.
[10] يعني هو في مقام الهزل قلباً لكن من دون أن يبرز قرينة.