38/07/20


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

انتهى حديثنا إلى النقطة الخامسة أعني الموارد التي يجوز فيها الكذب ، المورد الأوّل ما إذا خاف الشخص الضرر على نفسه أو على مؤمن آخر فحينئذٍ يجوز الكذب بل يجوز الحلف كاذباً ، والكلام يقع في وجه ذلك: وقد قلنا يمكن التمسّك بعدّة أدلة الدليل الأوّل الكتاب الكريم كقوله تعالى ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ز

والاستدلال بهذه الآية الكريمة يحتاج إلى أن نلغي خصوصيتين:-

الخصوصية الأولى:- كون الضرر ناشئاً من الاكراه ، فإنَّ الضرر هنا قد نشأ من الإكراه ونحن حديثنا في مطلق الضرر ولا يختص بالناشئ من الإكراه فلابد وأن نقول إنَّ العرف لا يرى خصوصيةً للإكراه ، إنما الاكراه له دور بما أنه يسبّب الضرر بالنظر العرفي ، فحينئذٍ أيّ ضررٍ يجوز لأجله الكذب سواء نشأ من الإكراه أو من غيره ، فنلغي هذه الخصوصية ، وإلغاؤها عرفاً ليس ببعيد.

الخصوصية الثانية:- هي كون المورد هو الكفر ، فإنَّ الآية الكريمة وردت في الكفر فحينئذٍ كيف نجوّز الكذب في غير الكفر ؟ هنا يمكن التمسّك بفكرة الأولوية فيقال: إذا فرضنا أنَّ الضرر جوّز الكفر كذباً فبالأولى يجوز الكذب لشيءٍ آخر غير الكفر مادام هناك خوف الضرر ، فإذن لا نحتاج إلى إلغاء الخصوصية عرفاً بل للأولوية القطعية.

إذن إذا تم إلغاء هاتين الخصوصيتين كما هو ليس بالشيء البعيد فحينئذٍ يتم الاستدلال بالآية الكريمة.

ولكن قد يشكل ويقال:- إنَّ الآية الكريمة خارجة موضوعاً عن الكفر ، والوجه في ذلك: إنَّ من يُكرَه على الكفر ماذا سوف سيصنع لأجل أن يتخلص من ضرر المكرِه ؟ إنه ينشئ الكفر لا أنه يُخبِر عن كفرٍ سابق ، بل من الآن هو ينشئ الكفر فيقول مثلاً كفرت بكذا وكذا وهذا إنشاءٌ ، فهم يطلبون منه أن يفكر وهو الآن ينشئ الكفر ، فإذا كانت المسألة مسألة إنشاء وليس مسألة إخبار عمّا مضى فلا يكون المورد من الكذب آنذاك تخصصاً ، إذ الكذب لا يتصوّر إلا في باب الإخبار ولا يتصوّر في باب الإنشاء ، فإذن الآية الكريمة وإن جوّزت الكفر ولكنه على مستوى الإنشاء ، ومن الواضح أنَّ الكذب لا يصدق في مورد الإنشاء وإنما يصدق في مورد الإخبار فإنَّ الإخبار يتّصف يكونه صادقاً أو كاذبا أما الإنشاء فلا يتّصف بذلك ، فإذن الآية الكريمة لا تنفعنا لإثبات جواز الكذب فإنَّ موردها خارج عن الكذب تخصّصاً باعتبار أنه مورد الإنشاء . وهو شيء ظريف.

وجوابه:- إنّا لا نحتمل الخصوصية لإنشاء الكفر بل إذا جاز إنشاء الكفر جاز الإخبار عنه وإن كان الطرف يريد الإنشاء ولكنه لا نحتمل الخصوصية للإنشاء بل يجوز الإخبار.

بل نقول أكثر:- وهو أنه إذا جاز إنشاء الكفر جاز في صورة الإخبار بالأولوية العرفية ، لأنَّ إنشاء الكفر أشد من الإخبار عنه ، فالمحذور في إنشاء الكفر أشد من الإخبار بالكفر فإذا جوّزت الآية الكريمة إنشاء الكفر جاز الإخبار عن الكفر كذباًً بالأولوية ، وعلى هذا الأساس يكون التمسك بالآية الكريمة شيء جيد.

الوجه الثاني:- التمسّك بالقاعدة الفقهية التي تقول:- ( ما من شيء إلا وقد أحلّه الله عند الاضطرار إليه ).

وهذه القاعدة قد دلت عليها أكثر من وراية ، من قبيل موثقة سماعة:- ( سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع منها فيستلقي على ظهره الأيام الكثيرة الأربعين يوماً أو اقل أو أكثر فيمتنع من الصلاة الأيام إلا إيماءً وهو على حاله ، فقال: لا بأس بذلك وليس شيء مما حرّم الله إلا وقد أحلّه لمن اضطر إليه )[1] ، وعلى منوالها موثقة أبي بصير[2] .

والذي أريد أن أقوله في موثقة سماعة:- هو أنه يلزم أن نحفظ هذه الرواية من ناحيتين ، الناحية الأولى هي أنها قالت ( الرجل في عينيه الماء فينتزع منها ) وهذا معناه أنَّ الطبّ في تلك الفترة كان متقدّماً إلى هذه الدرجة التي يمكن فيها سحب الماء من العين ، ومن باب الكلام يجرّ الكلام توجد رواية أخرى مشابهة لها يسأل فيها السائل الامام فيقول ( وقع سني فأخذت عظماً من عظام الموتى أتجوز الصلاة فيه ؟ ) ونحن نعلم أنَّ عملية إنبات السنّ عملية حديثة وإلا فهي قبل فترة لم تكن موجودة ولكن تبيّن أنهم كانوا يفعلون ذلك في تلك الفترة الزمنيّة وهذا شاهد على تطوّر الطب في تلك الفترة.

والخصوصية الثانية في موثقة سماعة أنها أعطت قاعدة وهي ( ما من شيء حرّمه الله إلا وقد أحلّه لمن اضطر إليه ) ، وهذه القاعدة موجودة في رواية سماعة وفي رواية أبي بصير ، أما عبارة ( ينتزع الماء ) فهي موجودة في موثقة سماعة فقط.

والشاهد هو قوله عليه السلام ( وليس من شيءٍ مما حرّم الله إلا وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه ) ، فالكذب حرّمه الله فإذا اضطررنا إليه لسببٍ وآخر والذي منه خوف الضرر فحينئذٍ يجوز بمقتضى هذه الرواية.

الوجه الثالث:- حديث رفع التسعة ، وهي رواية حريز ، وقد رواها الشيخ الصدوق(قده) في الخصال ونصها:- ( رفع عن أمتي تسعة ..... وما اضطروا إليه ) ، فهذه الفقرة بعمومها تدل على أنَّ كلّ شيء اضطررت إليه فالقدر المتيقن أنَّ العقوبة والمؤاخذة مرفوعة من جهته ، فإذن أنا اضطررت إلى الكذب خوف الضرر فحينئذٍ ترتفع العقوبة ولازم ارتفاعها جواز هذا الفعل ، فالرواية أيضاً واضحة في ذلك.

ومن باب الفائدة العلمية نقول:- إنَّ حديث رفع التسعة الذي هو من الأحاديث المهمة جداً حيث يتمسّك به في الأصول وفي الفقه أيضاً ، فيتمسّك به في الأصول لإثبات أصل البراءة وفي الفقه أيضاً نستفيد منه في موارد متعدّدة ، ولكن سنده فيه قليلاً من التأمل ، فقد رواه الصدوق في الخصال والتوحيد وقد ذكره صاحب الوسائل هكذا:- ( أحمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حمّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام:- قال النبي صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي ... )[3] ، وكلّ رجال السند ثقات إلا أحمد بن محمد الذي يروي عنه الشيخ الصدوق(قده) فإنه واحدٌ من الأحمدين إما أحمد بن محمد بن يحيى الأشعري القمي أو أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد القمّي وكلاهما من مشايخ الاجازة ولكن لا يوجد توثيق في حقهم ، فآباؤهم يوجد توثيق في حقهم لكن الأولاد لا يوجد توثيق في حقهم ، وهما قد شكّلا لنا مشكلة في طرق الحديث ، ومن أحد الموارد المشكلة هو أنَّ الشيخ الصدوق(قده) يروي عن أحمد بن محمد بن يحيى وهو لا يوجد توثيق في حقة ، ولا يستطيع الفقيه والأصولي أن يردّ هذا الحديث وحينئذٍ يقع الفقيه في حيصٍ وبيص من هذه الناحية ، نعم من يبني على وثاقة مشايخ الاجازة سوف لن تكون عنده مشكلة ، ولكن من لا يبني على هذا فسوف يقع في مشكلة حينئذٍ ، وقد تضارب كلام السيد الخوئي(قده) ، ففي مستند العروة الوثقى في كتاب الصوم[4] بمناسبةٍ ذكر هذا الحديث وصرّح بأنه ضعيف لأجل أحمد بن محمد بن يحيى ، ولكنه في مصباح الأصول ذكر هذا الحديث وقال:- ( إنه مروي في الخصال بسند صحيح عن حريز )[5] ، هذا تضارب في رأيه(قده) ونحن الآن لسنا بصدد حلّه.

ومن الواضح أنه يوجد عندنا حديث رفع التسعة ، وعندنا حديث رفع الثلاثة أو الستة ، لأنَّ هذا الحديث في بعض طرقه وردت فيه تسع فقرات والذي هو حديث حريز ، وفي بعض طرقه الأخرى الوارد فيه ستة فقرات ، وفي البعض الآخر الوارد فيه ثلاثة فقرات ، ولعل تلك الأحاديث معتبرة لكن حديث رفع التسعة مبتلٍ بهذه المشكلة وهي أنه يوجد في سنده أحمد بن محمد ، وقد صارت هذه المشكلة سبباً إلى التفكير في إيجاد حلولٍ لها.

ومن أحد الحلول أن نقول:- صحيحٌ أنَّ أحمد بن محمد بن يحيى فيه مشكلة ولكن يمكن أن نغضّ النظر عنه ونذهب إلى بقيّة أفراد السند وننتخب واحداً منهم[6] بين أحمد وبين الامام عليه السلام بحيث نترك أحمد ، كما لو انتخبنا سعد بن عبد الله الأشعري ، ثم نذهب إلى الفهرست فإذا قال الشيخ الطوسي:- ( حدّثنا بكته ورواياته فلان عن فلان عن فلان ) وكان الطريق معتبراً ومن حسن الحظ يوجد طريق معتبر فنقول إنَّ هذه الرواية واحدة من تلك الروايات التي يرويها سعد بن عبد الله فتثبت بذلك صحتها ، وهذا بحث رجالي قد أشرنا إليه فالتفت إليه.

أما إذا كنت بانياً على وثاقة مشايخ الاجازة وأنه من البعيد أنَّ هؤلاء المشايخ المشاهير ليسوا بثقات مثل أغا بزرك الطهراني أو السيد شهاب الدين المرعشي فإنهم كانوا يُقصَدون لأجل ذلك فاذا بنيت على أنه من البعيد أنَّ أمثال هؤلاء المشاهير الذين يقصدون لكسب الاجازة يكونون ضعفاء ولا يوجد في حقهم توثيق أو أنهم مجاهيل فلا تكون هناك مشكلة.

الوجه الرابع:- روايات خاصّة تدل على جواز الحلف كاذباً ، من قبيل صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري وهي:- محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى أحمد بن محمد عن إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام:- ( سألته ...... عن الرجل يخاف على ماله من السلطان فيحلف لينجو به منه ، قال:- لا جناح عليه . وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله ؟ قال:- نعم )[7] .


[4] مستند العروة الوثقى( كتاب الصوم )، الشيخ مرتضى البروجردي، ج2، ص381.
[5] مصباح الأصول، تسلسل47، ص298.
[6] وهذا قد ذكرته في آخر كتاب دروس تمهيدية في القواعد الرجالية حيث ذكرت جملة من الطرق هناك.