39/05/24


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حرمة الاحتكار ، مسألة ( 46 ) - المكاسب المحرّمة.

وربما توجد روايات أخرى تدل على حرمة الاحتكار وقد يأتي بعضها إنَّ شاء الله تعالى ، إلا أنها ليست مهمة كما سوف يتّضح ، والمهم هو هذه الروايات وقد عرفنا حالها.

إذن نحن نبني على حرمة الاحتكار بلا كلام ولكن في خصوص الحالتين ، وقد قلنا إنَّ هذا ثابت من دون حاجة إلى رواية.

ثم إنَّ هناك رواية استعانت بلفظ الكراهة:- يعني هي توحي بأنَّ الاحتكار مكروه ، فماذا نصنع في مقام الجمع بينها وبين تلك الروايات ، وهي:- علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( سألته عن الرجل يحتكر الطعام ويتربّص به هل يصلح ذلك ؟ قال:- إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به وإن كان الطعان قليلاً لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام )[1] وهي صحيحة السند ، وهي قالت في ذيلها:- ( وإن كان الطعام قليلاً فإنه يكره أن يحتكر الطعام ) فيكره الاحتكار لا أنه يحرم ، فماذا نصنع ؟

والجواب:- إنَّ كلمة الكراهة في مصطلحنا وفي زماننا صارت مقابلة للحرمة ، ولكن لا يبعد في أصل اللغة وفي استعمال الروايات أنها للجامع بين الكراهة المصطلحة وبين الحرمة ، فإذن لا يبعد أن يكون المقصود من الكراهة هنا هو الحرمة ، فإذن لا إشكال من هذه الناحية.

وبهذا ننهي حديثنا عن الحكم الأوّل من الأحكام الأربعة التي تشتمل عليها المسألة.

الحكم الثاني:- حاجة المسلمين وعدم وجود باذل.

وهذا الحكم مقبول عندنا ، والدليل عليه:- هو أنه إذا قلنا في اللغة قد أخذت الحاجة وعدم الباذل في مفهوم الاحتكار أو شككنا في ذلك فيكفينا هذا المقدار لنفي الحرمة ، باعتبار أنَّ المفهوم سوف يصير مجملاً فيصير من التمسّك بالعام أو بالمطلق في مورد إجمال المفهوم وهو لا يجوز ، فإنَّ دليل الحكم يصبّ الحكم إذا تحقق الموضوع فإذا لم تحرز الموضوع كيف تتمسّك بدليل الحكم لإثبات الحكم ؟! إنه لا يجوز ذلك في مورد اجمال المفهوم.

ولكن كلمات أهل اللغة لا تساعد على أخذ عنصر الحاجة ، وإما المذكور في كلماتهم هو أنه يحبس الطعام تربصاً به للغلاء أما أزيد من ذلك فلا ، فإذا شككنا في اعتبار ذلك في المعنى اللغوي كفانا هذا المقدار لاعتبار الحاجة ، إذ لا يجوز التمسّك بالعام أو بالإطلاق في غير مورد اجمال المفهوم ، وإذا فرضنا أنه لم يكن معتبراً في المعنى اللغوي جزماً فنقول إنه رغم ذلك لا تثبت الحرمة إلا عند الحاجة وعدم وجود الباذل ، فرغم أنَّ معنى الاحتكار وسيع في اللغة ولكن رغم هذا نقول إنَّ الحكم الشرعي أضيق ولا يشمل كلّ احتكارٍ فإنَّ الحرمة لا تثبت إلا في وجود الحاجة ، والمستند في ذلك أمران:-

الأوّل:- الجزم من الخارج ، يعني لا يحتمل متفقّه فضلاً عن فقيه أنه مع وجود الباذل يكون احتكار الطعام حرام ، فارتكاز عدم الحرمة ثابت في أذهان المتشرعة بما فيهم الفقهاء ، فيصير نفس هذا الارتكاز قرينة متصلة بدليل الحرمة تضيّق الحرمة.

الثاني:- تقييد بعض الروايات بذلك ، كما في صحيحة الحلبي فإنه جاء فيها:- ( الحكرة أن يشتري طعاماً ليس في المصر فيحتكره فإن كان في المصر طعام أو يباع غيره [ متاع غيره ] فلا بأس بأن يلتمس بسلعته الفضل ) ، فهي واضحة في أنه إذا كان يوجد غيره يبيع الطعام فلا يحرم عليه ابقاء سلعته يلتمس بذلك الفضل - أي زيادة الأسعار - ، فإذن على هذين الأمرين نشترط الحاجة ، هذا على مذاق الأعلام ، أما بناءً على ما سرنا عليه من اختصاص دليل الحرمة بالحالتين السابقتين - لأنه لا يوجد اطلاق والقدر المتيقن هو خصوص الحالتين - فليس مجرّد الحاجة تكفي بل الحاجة زائداً توفّر الحالتين السابقتين ، يعني يلزم تضرّر الناس لا أنه توجد حاجة فقط وإنما توجد حاجة شديدة وأيضاً إذا فرض الخوف على النظام الاقتصادي للبلاد الاسلامية ، فنحن نضيّق أكثر ، ومدركنا في ذلك - كما قلنا سابقاً - القصور في المقتضي ، يعني لا يوجد في الروايات اطلاق يمكن التمسّك به لأكثر من القدر المتيقن أعني الحالتين.

الحكم الثالث:- الاحتكار يختص بخمسة أو ستة أشياء الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والأحوط اضافة الزيت.

والمدرك في ذلك تقييد الروايات بهذه الخمسة وبعضها قد أضافت السادس ، فلاحظ رواية الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن )[2] ، وتوجد روايات أخرى بهذا المضمون أيضاً[3] ، بل جاء في رواية السكوني[4] اضافة الزيت لذلك ، فمن هذه الناحية قد يضاف الزيت.

إذن النتيجة هي أنَّ حرمة الاحتكار تختص بهذه الأمور الخمسة أو الستة ، هكذا ذكر الفقهاء والسيد الماتن(قده).

ولكني أقول:- إنَّ عنصر الزمان والمكان لا بدّ من تحكيمه هنا ، فإنَّ الفقيه يتمكن أن يقول: صحيح أنَّ المذكور في الروايات هو خمس أو ست موارد ولكن لا نحتمل الخصوصية لهذه الخمسة أو الستة ، بل هذه حرم الاحتكار بلحاظها لأجل أنَّ الحاجة العامة كانت في تلك الفترة لها ، مثل الزبيب فنحن الآن لا نستعمله ولكن يظهر أنهم كانوا يستعملونه كثيراً في ذلك الزمان ، فلابد من حملها على ذلك ، فلو فرض في زمانٍ آخر تبدلت هذه الأشياء أو ازدادت كالرز فإنه المادّة الأساسية للطعام في زماننا أما الزبيب فليس بمهم عندنا فهل نقول يتحقق الاحتكار في الزبيب ولا يتحقق في الرز ؟!! إنَّ هذا ليس مقبولاً ، فعلى هذا الأساس نعمّم لكل حاجةٍ ماسّة للناس في معيشتهم من دون خصوصية لهذه العناوين الخمسة أو الستة.

وهناك قضية أخرى:- وهي أنَّنا لا نحصر الفترة الزمنية بمقدار معيّن ، يعني قد تحدّد بعض الروايات الحكرة المحرّمة بأربعين يوما ًأما نحن فلا نبقى نسير وراء عنوان الأربعين يوماً ، وإنما نقول إنَّ هذا يختلف باختلاف الزمان والمكان ، فقد ترى أن ناس بلدٍ يحتاجون إلى طعام دائماً ولو فرغ السوق لمدّة يومين فسوف يصير هرج ومرج ويسقط النظام ، أما في بلدٍ آخر تراه مستقراً ولا مشكلة ، فالمقصود هو أنه يلزم أن نأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار ، فإنَّ رواية السكوني التي تأخذ عنصر الزمان حيث قالت:- ( الحكرة في الخصب أربعون يوماً وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام ، فما زاد على الأربعين يوماً في الخصب فصاحبه ملعون وما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون )[5] ، لا من حملها على تلك الفترة الزمنية لا أنَّ لها خصوصية.

وقد تسأل وتقول:- كيف نقول إنَّ هذه القضية تختلف باختلاف الزمان والحال أنَّ الرواية لم تشر إلى ذلك ، فهي لم تقل إنَّ هذه القضية تتبع الزمان والمكان ، فمن أين أتيت بهذا فإنَّ هذا تحميلٌ على النص ؟

الجواب:- نحن من الواضح عندنا أنَّ هذه العناوين إنما اعتبرت من باب أنها حاجة أساسية وإلا لا نحتمل أنَّ الاحتكار يتحقق بلحاظها ، فجزماً حكم الشرع بأنَّ الاحتكار يتحقق فيها لابد وأن يكون لأجل كونها حاجة أساسية ، فإذا اختلف الزمان وصارت الحاجة الأساسية شيئاً آخر فيلزم تغيّر الحكم ، فالمدرك هو اطمئنان الفقيه ، فإنَّ الفقيه يطمئن بأنَّ النكتة هي الحاجة الأساسية ، فمادامت هذه هي النكتة فالحكم يدور مدارها ولا يختصّ بهذه العناوين الستة وإنما يتّسع الأمر.

بل نضيف أكثر:- ففي زماننا هذا من المناسب اضافة الأدوية ، فإنَّ البعض يحتكر الدواء مع حاجة الناس إليه حاجة شديدة ، فهنا أيضاً نعمم ونقول إنَّ هذا من موارد الاحتكار ، لأنَّ الدواء أصبح حاجة أساسية في زماننا.

فإذن دليلنا على ذلك هو أنَّ هذه الأمور اعتبرت لا لخصوصية فيها بل لأنَّ ذلك حاجة أساسية ، وهذه الفكرة نعممها ونسرّيها إلى الموارد الأخرى ، من قبيل ما جاء في باب المحرَّم فإنه ورد أنه يحرم عليه أربعة أشياء ، حيث جاء في صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إنما يحرم عليك من الطيب أربعة أشياء المسك والعنبر والورس والزعفران )[6] ، فعله في زماننا لا نستسيغ المسك والعنبر لكن ظهرت عطور أخرى جذّابة فهل يحتمل أننا نبقى نقول إنَّ المحرّم هو المسك والعنبر فقط أما هذه العطور فليست بحرام ؟!! إنَّ هذا غير مقبول ، بل جزماً هذه العطور القديمة اعتبرت باعتبار أنها ذات رائحة طيبة في تلك الفترة الزمنية ، وحينئذٍ هذا يختلف باختلاف الزمان ، ففي زماننا نقول إنَّ الروائح الأخرى التي هي أحسن من العطور القديمة أيضاً تصير محرَّمة ولا نقتصر على تلك العطور القديمة.

ومن هذا القبيل ما ورد في باب السبق والرماية ، حيث ورد أنَّ المسابقة تصير في أربعة أشياء في الخف والحافر ، وهذا لا يناسب زماننا ، فإنه في زماننا يلزم أن يكون السبق بالدبابات والطائرات مثلاً فنقول لا سبق إلا في هذه الأمور التي هي الوسائل الحربية الحالية أما الخف والحافر فالحروب لا تصير بها الآن ، وهي صحيحة حفص عن أبي عبد الله عليه السلام :- ( لا سبق إلا في خُفّ أو حافر أو نصل )[7] .

يبقى شيء:- وهو أننا قلنا نحن نتعدّى ونحكّم الزمان ، يبقى أنَّنا نحكّم الزمان بأي مقدار ؟ ، فأنت قد تحكّمه بدرجةٍ أوسع ، وهذه صغريات ليست مهمة ، ولكن أصل هذه القضية وهي أن نقول إنَّ المصاديق تختلف والحكم قد يختلف باختلاف الزمان بهذا المقدار الذي أشرنا إليه ، فلعل أغلبكم يستسيغه ويقبله ولكن قد يوجد شخص آخر يقول إنَّ النص عبّدنا بهذا فنحن نسير وراء النص.

فإذن هذان خطتان موجودان ولا توجد عندي وسيلة علمية إلى ردّه ، بل أقصى ما هناك أن أقول له: هل تحتمل أنَّ النص يقتصر على المسك والعنبر أما العطور الحديثة التي هي أطيب من المسك والعنبر جائزة ؟!! فيقول:- نعم نحن أبناء النصّ لا أكثر من ذلك ، وهذا ذوقٌ ، ولعل هذا من مصاديق ما قيل إنَّ الفقه أو الفقيه يحتاج إلى ذوق ، فهذا ذوقٌ وليس قضية علمية ، فلا توجد عندك أدلة حتى تثبت بها هذه القضية غير الوجدانيات ، فهو قد يقول إنا لا أقبل بهذه الوجدانيات.

إذن هذه نكتة يجدر الالتفات إليها ، فنحن حينما نقول إنَّ الزمان يؤثر على بعض الأحكام فنحن لا نقبل أنَّ الزمان له تأثيره بشكلٍ مطلق ، كلا بل في حدود مثل هذا المورد ، وهذا ليس لنا دليل إلا الذوق والوجدان وإلا فلا يوجد دليل علمي ، فالتفتوا إلى ذلك.