27-03-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/03/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- مسألة (408 ) / الحلق والتقصير / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
الحكم الثالث:- لزوم الحلق في مكانه.
إذا فرض أن بإمكان الناسك الذي نسى الحلق أو التقصير في منى العود فهذا ما تقدّم في الحكم الثاني وأن عليه ذلك ولو على سبيل الاحتياط، والآن نفترض أنه لا يتمكن من العود إلى منى فما هو حكمه ؟ إنه يحلق ويقصّر في مكانه بقطع النظر عن مسألة إرسال الشعر فإن ذلك حكم آخر وسيأتي بعد ذلك انشاء الله تعالى - أي في الحكم الرابع - والآن نتكلم عن نفس الحلق والتقصير وأنه هل يلزم بعد فرض تعذّر العود إلى منى ؟ وواضحٌ أنه يلزم ذلك في مقابل السقوط مطلقاً أو أنه يلزمه أن يعود وإن تعذّر عليه ولكن لزوم العود مفروغٌ عن سقوطه لقاعدة نفي الحرج أو نفترض أنه لا يتمكّن نم العود فالمسألة أكثر من الحرج فحينئذٍ هل يسقط رأساً أو لا ؟ والجواب:- إن الحكم هو أنه يبقى عليه ذلك - أي يلزمه أن يحلق أو يقصّر في محلّه - وقد قال صحب الجواهر(قده):- ( بلا خلاف ولا اشكال )[1].
ولكن كيف التخريج النفي لوجوب الحلق أو التقصير في مكانه في مقابل السقوط رأساً ؟
إنه بناءً على ما سلكه الأعلام من التمسك بصحيحة مسمع المتقدمة فإنه ورد فيها ذلك حيث جاء فيها:- (  سألت أبا عبد الله عن رجل نسي أن يحلق رأسه أو يقصّر حتى نفر، قال:- يحلق في الطريق أو أي مكان )، وحملها الشيخ وجماعة على من تعذّر عليه العود . إذن من سلك الروايات تكون صحيحة مسمع مستنداً له ولا إشكال في وجوب الحلق في مكانه.
وأما بناءً على ما سلكناه في اثبات وجوب الحلق في منى وأن المسألة عامة البلوى فيلزم أن يكون حكمها واضحاً فغاية ما يثبت بهذا الوجه هو أن من يمكنه الحلق في منى يلزمه ذلك فإن جنبة ابتلائية المسألة هي في هذه المساحة - أي في مساحة من يكون ملتفتاً وهو في منى - أما من نسي ذلك فهو فردٌ نادرٌ وليست المسألة من هذه الناحية عامّة البلوى حتى يمكن التمسك بهذا الوجه . إذن غاية ما يثبته هذا البيان هو أن أصل الحلق أو التقصير للمتمكّن يلزم أن يكون في منى أما من نسي فهو لا يثبت ذلك،
فكيف المخرج وما هو المستند الذي يمكن التمسك به ؟
يمكن أن يقال:- إنه بعدما فرض أن احتمال سقوط الحلق رأساً شيءٌ بعيدٌ فيتعيّن آنذاك الحلق في مكانه فأنه لا يوجد آنذاك احتمال آخر أو نحكم عليه بالعود إلى منى والمفروض أنه لا يمكنه ذلك - كما لو منعت السلطة من ذلك - . إذن إذا تمّ هذا المطلب - وهو الأصل الموضوعي وهو استبعاد أن يسقط الحلق أو التقصير رأساً - فيتعيّن الحلق في مكانه . إذن هذا البيان يعتمد على هذا الأصل الموضوعي.
وإذا أردت أن تتأمل في ذلك وتقول كلّا بل يحتمل في هذه الحالة سقوط الحلق أو التقصير فيسقط هذا البيان، ولأجل هذا نصير إلى الاحتياط الوجوبي لاحتمال وجاهة هذا البيان وتماميّة الأصل الموضوعي المفروض فيه فالأحوط وجوباً أن يحلق في مكانه.
هذا وقد يتمسك لإثبات وجوب الحلق في مكانه بالبيانين التاليين:-
البيان الأول:- قاعدة الميسور، فإن المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:- ( الميسور لا يسقط بالمعسور )[2]، وعنه أيضاً:- ( ما لا يُدْرَك كلّه لا يُتْرَك كلّه )[3]، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:- ( إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم )[4]، إنه قد يتمسك بقاعدة اليسور التي مستندها أحد أو مجموع هذه الأمور الثلاثة فيقال إن الواجب هو الحلق في منى والمفروض أنه ليس ميسوراً بل هو معسورٌ – أي هذا المجموع - ولكن المقدار الميسور وهو الحلق في مكانه لا موجب لأن يسقط بتعذّر ذلك المعسور فالمقدار الميسور - وهو الحلق في مكانه - لا يسقط بتعسّر ذلك المعسور - وهو الحلق في منى -، وهكذا بالنسبة إلى الحديثين الآخرين.
ولكن عرفنا أكثر من مرّة أن هذه القاعدة ضعيفة السند لما أشرنا إليه لأنها من المراسيل.
وقد يقول قائل:- إن هذه القاعدة لا تحتاج إلى مستند بل هي عقلائية قبل أن تكون شرعيّة، فلو فرض أني كنت مدعّواً في ثلاث مجالس وكان من الضروري الحضور فيها ولكن لم أتمكن من الحضور في مجلسٍ أو مجلسين فهل يسقط حينئذٍ الحضور في المجلس الآخر والذي يمكنني الحضور فيه ؟ إن هذا لا موجب لسقوطه . إذن هذه القاعدة بديهية عقلائية واضحة من دون حاجة إلى دليلٍ حتى يقال إنه مرسل.
وفي الجواب نقول:- إن الواجب على نحوين، فتارةً يكون واجباً بنحو الاستقلاليّة، وأخرى يكون واجباً بنحو الارتباط، والمقصود من الوجوب بنحو الاستقلاليّة هو أنه توجد وجوبات ثلاثة بعدد المجالس فهذا دعاني فوجب الحضور لدعوته مثلاً وذاك دعاني وهذا وجوب ثانٍ فيجب الحضور لدعوته، إن هذا الوجوب غير ذلك الوجوب ففي مثل هذا تتم هذه القاعدة فإذا تعذّر الحضور في ذاك المجلس فلا موجب لعدم الحضور في الثاني، ولذلك نقول فيمن فرض أنه ترك صيام شهر رمضان وكان مطالباً بالقضاء ولكنّه لم يمكنه قضاء ثلاثين يوماً وكان بإمكانه أن يقضي عشرة أو خمسة أيام أو يوماً واحد فنقول له ائت بهذا اليوم، وهذا على طبق القاعدة لأن هذه وجوبات متعدّدة وتعذّر امتثال ذاك لا يوجب سقوط وجوب هذا . وهكذا بالنسبة إلى صاحب الكفارة فلو فرض أن شخصاً كان مطالباً بكفّارة ستين مسكيناً - كما لو لم يصم في بداية بلوغه - فإذا قال إن هذا يتعذّر عليّ دفعة واحدة بأجمعه فهنا نقول له ( أنت كم تستطيع أن تدفع ؟ ) فإذا قال استطيع دفع يومين أو يوماً واحداً فنقول له عليك الإتيان بهذا المقدار الذي يمكنك وإما الباقي فكفارته الاستغفار حينئذٍ، وهذا على طبق القاعدة ولا يحتاج إلى دليل، فإذا كان الواجب من هذا القبيل - يعني واجباتٍ بوجوب استقلالي - فهذا صحيحٌ حينئذٍ فالميسور لا يسقط بالمعسور، أما إذا كان الواجب ارتباطيّاً كإطعام ستين مسكيناً عن إفطار اليوم الواحد وكان إطعام الستين مسكيناً هو واجبٌ بنحو الارتباط - يعني لا يوجد وجوب إطعام الفقير الأوّل بنحو مستقل والفقير الثاني بنحوٍ مستقل بل هو وجوب واحد متعلق بالمجموع من حيث المجموع - فهنا إذا لم يمكنه إطعام الستين وأمكنه إطعام تسعة وخمسين فهل يجب ذلك ؟ كلّا فإن الحكم يحتاج إلى مدرك وإلا فالقاعدة والعقل والعقلاء لا تقتضي ذلك لأن المطلوب منك هو المجموع ووجوب المجموع قد سقط جزماً أما وجوب الباقي - وهو التسعة والخمسين - فيحتاج إلى دليلٍ ولا دليل عليه.
إذن قاعدة الميسور صحيحٌ أنها عقلائية ولكنّها عقلائيّة وبديهيّة في الوجوبات الاستقلالية دون الارتباطية والمفروض أن مقامنا وجوباً ارتباطياً يعني ليس المطلوب هو أصل الحلق بوجوبٍ وكونه بمنى بوجوبٍ آخر وإلا فلازمه أن من أتى بالحلق في غير منى يكون ممتثلاً للوجوب الأوّل غايته أنه عصى من ناحية الوجوب الثاني فيضرب العصى مرّة أو مرتين لأجل أنه خالف الوجوب الثاني لكن يصير له امتثالٌ إلى الوجوب الأوّل.
وعلى أيّ حال الوجوب في مقامنا ليس وجوباً استقلالياً وإنما هو وجوبٌ ارتباطيّ أو لا أقل نحتمل أنه ارتباطي فدعوى البداهة وأنها قاعدة بديهيّة في مثل ذلك أمرٌ مرفوضٌ ن بل لعل هذه الروايات الثلاث ناظرة إلى هذا المورد - أي هي ناظرة إلى الوجوبات الاستقلالية دون الوجوبات الارتباطية - ومحلّ كلامنا هو الوجوبات الارتباطية . إذن قاعدة الميسور لا يمكن التمسّك بها.
البيان الثاني:- ما أفاده الشيخ النراقي(قده)[5] حيث ذكر ما محصّله:- إن دليل وجوب الحلق مطلقٌ فنتمسك بإطلاقه ودليل وجوب كون ذلك الحلق في منى حيث إنه ناظر إلى حالة الإمكان فتعذّر الحلق في منى لا يوجب سقوط ذاك بل نبقى نتمسّك بإطلاقه، ونصّ عبارته:- ( لإطلاقات وجوب أحدهما، ووجوب كونه بمنى مع التمكّن لا يوجب سقوطه مع عدمه وتؤيده حسنة مسمع .. )، فهو إذن بقطع النظر عن رواية مسمع يريد أن يقول إنه عند تعذّر الواجب الثاني - وهو أن يكون في منى - يبقى الواجب الأوّل على حاله.
وفيه:- إن ما ذكره يتم فيما إذا كان عندنا دليلان مستقلان وكلّ دليلٍ يبيّن واجباً مغايراً للواجب الآخر بأن كان أصل الحلق واجباً وهناك وجوبٌ آخر بيّنه الدليل الثاني وهو أن يكون في منى فيصير المورد أشبه بالواجب ضمن الواجب، إنه في هذه الحالة يتمّ ما ذكره ولكن المفروض في المقام أنه حتى لو فرض وجود دليلين أحدهما يبيّن أصل وجوب الحلق والآخر يبيّن حيثية كونه في منى فنحن لابد وأن نلاحظ هذين الدليلين هل هما يبيّنان واجباً واحداً أو يبيّنان واجبين مستقلّين وما أفاده(قده) يتمّ لو كانا يبيّنان واجبين مستقلّين أما لو كانا يبيّنان واجباً واحداً غايته أن الدليل الأوّل بيّن جزءاً من ذلك الواجب والدليل الثاني بيّن الجزء الثاني من قبيل عتق الرقبة المؤمنة في الكفارة فإن الواجب واحدٌ حسب الفرض ولكن يأتي دليلٌ يبيّن وجوب عتق الرقبة ويأتي دليلٌ ثانٍ يقول يلزم أن تكوزن الرقبة مؤمنة ولكن لا بنحو الوجوب المستقل الآخر بل كلّه واجباً واحداً ولكن بعض أجزاءه تُبيَّن في الدليل الأوّل وبعضها الآخر تُبيَّن بالدليل الثاني، إنه إذا فرضنا أن المورد كان من هذا القبيل فلا يأتي ما أفاده(قده)، والمدّعى هو أن موردنا من هذا القبيل بدليل أن من الحلق في غير منى في حالة الالتفات والتمكن لا يجزيه ولا نقول بأنه سقط عنه الوجوب غايته حيث لم يمتثل الوجوب الثاني فيكون آثماً، كلّا ثم كلّا  بل هو لم يمتثل الأوّل أصلاً وهذا معناه أن المطلوب هو شيءٌ واحدٌ بنحو الارتباطيّة، فعلى هذا الأساس لا معنى لتطبيق ما ذكره من أنه نتمسك بإطلاق دليل الواجب الأوّل بعد كون دليل الواجب الثاني محمولاً على حالة التمكّن، إنما هذا يتمّ في الواجبين المستقلين.
ومن خلال هذا كلّه اتضحت النتيجة:- وهي أن المناسب هو الاحتياط الوجوبي بالحلق في مكانه لأجل ما أشرنا إليه من أن احتمال سقوط الحلق رأساً بعيدٌ جداً، مضافاً إلى دعوى عدم الخلاف في المسالة، إن هذا صالح للاحتياط الوجوبي.