جلسة 29

المفطرات

قلت: لو سلّمنا صدق عنوان الطعام والشراب على الرطوبة القليلة الموجودة على الخيط ونحوه فبالإمكان أن نجيب: بأنّ هناك كلمة مقدّرة في الحديث؛ إذ الطعام بذاته ليس من المفطرات، وهل يُحتمل أنّ النظر إليه أو نقله من مكان إلى آخر أو ما شاكل ذلك هو من المفطرات؟ كلا بل بقرينة مناسبات الحكم والموضوع يكون المقدّر هو الأكل، أي لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أكل الطعام، وبالتالي يتحد مفاد الصحيحة مع مفاد الآية الكريمة، هذا كله في الجهة الاُولى.

وأما الجهة الثانية ـ عموم الحكم بالمفطريّة للطعام والشراب غير المعتادين ـ فالمشهور ذلك على ما ذُكر في (مدارك الأحكام) [1] و (الجواهر)[2] ولم ينسب الخلاف إلاّ إلى الإسكافي والسيد المرتضى رضوان الله عليهما، حيث  خصصا المفطريّة بتناول المعتاد على  ما ذكره العلاّمة في (المختلف)[3].

ومن الغريب أنّ السيد المرتضى ـ رضوان الله عليه ـ نفسه في المسائل الناصرية المذكورة ضمن (الجوامع الفقهية)[4] نفى الخلاف في مفطريّة غير المعتاد، وقال: لا خلاف في مفطريّة غير المعتاد أيضاً إلاّ من الحسن بن صالح وأبي طلحة، وأضاف قائلاً: إنّ خلافهما لا يضرّ لأنّهما مسبوقان ولمحقان بالإجماع. وعلى أي حال المشهور كما قلنا هو التعميم.

والكلام يقع تارةً من حيث تمامية المقتضي للتعميم واُخرى من حيث المانع.

أما من حيث التعميم فلم نعثر على من شكّك في ذلك. وقد تداول في الكلمات الاستدلال على التعميم بإطلاق ما دلّ على النهي عن الأكل والشرب، إذ من الواضح أنّ عنوان الأكل والشرب كما يصدق على تناول المعتاد يصدق أيضاً على تناول غيره، بل قد يُستشهد لذلك بما دلّ على جواز أكل التربة الحسينية ـ على مشرفها آلاف التحية والسلام ـ لأجل الاستشفاء بمقدار قليل، هكذا قيل.

ويمكن التأمّل في ذلك بأنّ الدال على ذلك إما الآية الكريمة: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّواْ الصِّيَامَ إلَى اللّيْلِ) [5]، أو صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة[6]، وكلاهما لا يصلح لإثبات التعميم.

أما الآية الكريمة فلأنّ التمسك بها إما من حيث منطوقها أو من حيث مفهومها، وكلاهما ليس بممكن.

أما المنطوق فلأنّه ناظر إلى ما قبل الفجر ويقول كلوا ولا يقول لا تأكلوا، ولا إشكال في أنَّ كلوا يراد به أكل المعتاد وإلاّ فلا يحتمل كون المقصود كلوا التراب والطين وما شاكل ذلك أيضاً، فالأمر بالأكل الذي قصد به بيان الترخيص مختص جزماً بالمعتاد ولا يحتمل عمومه لغيره.

وأما المفهوم فدلالته سعةً وضيقاً متفرعة على دلالة المنطوق، وحيث إنّ المنطوق ناظر إلى خصوص المعتاد فالمفهوم ناظر لذلك أيضاً، ومعه فلا يمكن استفادة التعميم لغير المعتاد من الآية الكريمة. هذا كله بلحاظ الآية الكريمة.

وأما الصحيحة فالوارد فيها عنوان الطعام والشراب، ولا إشكال في اختصاصهما بالمعتاد، فالحصى والتراب مثلاً لا يصدق عليهما عنوان الطعام والشراب. وعليه فلا مقتضي للتعميم، ومن ثُمَت لا يمكن الحكم بمفطريّة غير المعتاد لأجل القصور في مقتضي التعميم، اللهم إلاّ على بيان سنشير إليه إن شاء الله تعالى في نهاية بحثنا في هذه المسألة، هذا كله من حيث البحث عن المقتضي.

وأما من حيث المانع فيمكن إبراز ثلاثة موانع تمنع عن التعميم، ولكن سيتضح أنّ هذه الموانع لا تصلح للمانعية إما لعدم تمامية مقتضي التعميم أو لنكتة اُخرى. والموانع الثلاثة هي:

الأوّل: التمسك بفكرة الانصراف فيقال: إنّ الأكل ينصرف حينما يأمر به أو ينهى عنه إلى خصوص المعتاد ولا ندّعي هذا الانصراف بلحاظ المتعلّق أي المأكول، كلا فإنّ الآية الكريمة لم تشر إلى المأكول ليقال بانصرافه إلى المعتاد وإنما يُدّعى أنّ مادة الأكل بنفسها تنصرف إلى ذلك، كما هو الحال في الأمر بغسل الثوب إذا أصابته نجاسة فإنّه وقع كلام في أنّ الغسل هل يجوز بغير الماء المطلق كأن يغسل الثوب بماء الورد مثلاً بعد فرض أنّ الأمر بالغسل مطلق ولم تقل الروايات أغسله بالمطلق فلماذا إذاً التخصيص بالمطلق؟ واُجيب عن ذلك: بأنّ مادة الغسل منصرفة إلى ذلك ـ الغسل بالمطلق ـ فأنّ الغرض هو التنظيف والمضاف لا يحصل به ذلك، وهنا يقال كذلك أيضاً، فمادة {أكل، يأكل{ تنصرف إلى خصوص المعتاد، فالانصراف إذاً هو بلحاظ مادة الأكل وليس بلحاظ متعلّقها وهو المأكول. وقد نقل العلاّمة في (المختلف) [7] عن السيد المرتضى التمسك لإثبات الاختصاص بالمعتاد بفكرة الانصراف، ولكن لم يقرّبها بالشكل الذي أشرنا إليه حيث قال ما نصه: احتج السيد المرتضى بأنّ تحريم الأكل والشرب إنّما ينصرف إلى المعتاد؛ لأنّه المتعارف فيبقى الباقي على أصل الإباحة.

__________________________

[1] مدارك 6: 43.

[2] جواهر الكلام 16: 217.

[3] مختلف الشيعة 3: 387.

[4] الجوامع الفقهية: 242، مسألة 129.

[5] البقرة: 187.

[6] الوسائل 10: 33، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 1، ح 1.

[7] مختلف الشيعة 3: 388.