36/03/26


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 1 ) – المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
وفيه:- إنّ هذا وجيهٌ لو فرض أنّا كنا نحتمل أنّ ذلك الشيء المتّصل - وأعني في مقامنا هو ﴿ أحلت لكم بهيمة الانعام ﴾ - يؤثر على معنى ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنه لو تولّد هذا الاحتمال فما ذكر من الإشكال شيءٌ وجيهٌ، أمّا إذا فرض أنّ المعنى لا نحتمل تغيّره فالعقد يبقى على معناه ولا نحتمل أنّه يتبدّل إلى معنىً آخر غايته قد يتّسع فيحصل بذلك الارتباط بينه وبين ما بعده كأن يقال مثلاً إنّ كلّ عقدٍ يلزم الوفاء به ومن جملة ذلك التعاقد الذي حصل عند الاسلام فإنّ الشخص حينما يتلفّظ بالشهادتين كأنّه يقرّ بأنّ كلّ ما جاء به الإسلام فهو صحيحٌ ومقبولٌ وأنّا ملتزمٌ به، فهناك تعاقدٌ بين وليّ الأمر وبين من جاء ليُسلِم، إنّه حصل تعاقد على هذا المعنى وفي المقابل يعطيه الإسلام عدّة التزاماتٍ من المحافظة على ماله ودمه وغير ذلك، فإذا فسّرنا التعاقد بمعنىً يشمل مثل هذا فحينئذٍ حصل الترابط بين ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ وبين ما بعده لأنّ من جملة ما جاء به الإسلام هو أن بهيمة الأنعام حلالٌ وليست بحرامٍ فلابد من الالتزام وقبول هذا الحكم، وهذا الارتباط أو ما شاكله لا يؤثر على معنى العقد فإنّا لا نحتمل ذلك، فتبقى الآية على صلاحيّة الاستدلال بها.
وبذلك اتضح أنَّ الآية الكريمة صالحة للتمسّك بها على إثبات الشرعيّة من دون أيّ إشكال.
البيان الثالث:- قوله تعالى:- ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ﴾[1]، وتقريب الدلالة أن يقال:- إنّ الأكل لا يراد به معناه الظاهري بل هو كناية عن التملّك أي لا تتملّكوا أموالكم بالأسباب الباطلة، ثم استثنت الآية الكريمة وقالت ﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ ﴾ يعني فتملّكوا من دون مانعٍ، وحينئذٍ يقال إنّ تجويز التملّك إمّا أن يكون جوازاً تكليفياً أو يكون وضعيّاً، فإن كان وضعيّاً بمعنى أنّ التملّك صحيحٌ فيدلّ آنذاك على المطلوب بلا حاجةٍ إلى مقدّمة أخرى، يعني يثبت أنّ التملّك بالتجارة عن تراضٍ هو صحيحٌ وهذا هو المطلوب ولكن متى ما صدق أنّها تجارة عن تراضٍ، فلابد من توفّر هذين العنصرين وهما أن تكون تجارةً وأن تكون عن تراضٍ، وأمّا إذا قلنا إنّ الجواز تكليفيّ يعني يباح لكم - بالإباحة التكليفية - التملّك فحينئذٍ نقول إنَّ إباحة التملّك الذي من آثاره جواز التصرف كاشفٌ عن الجواز الوضعي أي عن صحّة التجارة عن تراضٍ وإلّا فكيف يجوّز ترتيب الآثار تكليفاً على هذه التجارة عن تراضٍ ؟!!
إذن المطلوب ثابتٌ على كِلا التقديرين سواء قلنا أنّ جواز التملّك الوارد في المستثنى - أي التجارة عن تراضٍ - هو تكليفيّ أو وضعي.
ولا فرق بين أن نقول أنّ الاستثناء في الآية الكريمة متّصلٌ أو منفصلٌ، خلافاً إلى ما قد يتوهّم من أنّ الاستدلال بها يتمّ إذا قلنا بأنّ الاستثناء متّصلٌ أمّا إذا قلنا أنَّه منفصل فلا يتمّ إذ في الاستثناء المنفصل لا يمكن أن نثبت أنّ التجارة عن تراضٍ هي كافيةٌ في تحقّق الملكيّة فلعلّها ليست كافية وهناك شيءٌ آخر معتبرٌ فإنه قد ذكر في العلوم الأدبية أنّ الاستثناء المنقطع لا يدلّ على الحصر، فحينما يقال ( جاء كلّ عالم إلا الجاهل ) - وهذا استثناءٌ منقطعٌ - لا يفهم منه أنّ الجاهل لم يأتِ فقط بل لعلّه لم يجئ غيره أيضاً . إذن الاستثناء مادام منقطعاً فلا يدلّ على الحصر، وإنما الحصر يثبت في حالة كون الاستثناء متّصلاً، فإذا بنينا على أنّ الاستثناء في الآية الكريمة منفصلاً - كما هو ظاهر الآية لأنّ التجارة عن تراضٍ ليست مصداقاً للأكل بالباطل - فحينئذٍ لا يستفاد الحصر فلّعل التجارة عن تراضٍ لا تكفي وحدها لحصول المعاملة الصحيحة بل يلزم ضمّ شيءٍ آخر.
وجوابه واضحٌ فإنّه يقال:- إذا كان الاستثناء منفصلاً فغاية ما يثبت هو أنّه نحتمل وجود سببٍ ثانٍ لجواز الأكل ولا ينحصر جواز الأكل بالتجارة عن تراضٍ لا أنَّ التجارة عن تراضٍ تصير نصف السبب وأما النصف الثاني فلم يُذكر، بل المقصود من قولهم ( الاستثناء المنفصل لا يدلّ على الحصر ) هو أنّه لعل هناك سبباً آخر من دون أن تتصدّع سببيّة التجارة عن تراضٍ، فتبقى التجارة عن تراضٍ هي سببٌ كاملٌ للحلّية ولجواز التصرّف، وعلى هذا الأساس يثبت المطلوب.
إذن ثبوت المطلوب لا يتوقّف على كون الاستثناء متّصلاً بل يثبت حتى لو كان منفصلاً، نعم الفارق هو أنّه على الاستثناء المنفصل لا يمكن أن ننفي وجود سببٍ آخر لجواز الأكل بخلافه على الاستثناء المتّصل لا أنّه يترتب على ذلك صيرورة التجارة عن تراضٍ جزء السبب وهناك جزءٌ آخر فإن هذا ليس من آثار الاستثناء المنفصل، فإذن لا إشكال من هذه الناحية.
كما وتنشير إلى أنّ هذه الآية الكريمة تختلف عن الآية السابقة في أنها تختصّ بالتجارة عن تراضٍ فيلزم أن نحرز صدق التجارة عن تراضٍ، أمّا المعاملة التي لا يصدق عليها أنها تجارة فلا يجوز التمسّك بالآية، وعلى هذا الأساس لا يصح التمسّك بها في معاملة التأمين على الحياة لإثبات مشروعيتها لأنّه ليس من المعلوم أنها تجارة، فهي ليست تجارة أو لا أقل نشكّ في شمول عنوان التجارة لها ويكفينا الشك لعدم جواز التمسّك بالعموم فإن العام لا يجوز التمسّك به في موارد الشك في المفهوم أو في موارد الشك المصداقي، فإذا شككنا أنّ مفهوم التجارة وسيعٌ يشمل معاملة التأمين أو لا فلا نستطيع التمسّك بالعموم في المقدار المشكوك ويلزم الاقتصار على المقدار المتيقّن، وهذا بخلافه بناءً على آية ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنّه يصح ذلك لأنّ معاملة التأمين عقدٌ جزماً.
وهكذا الاجارة مثلاً فهي كما قلت قد وقع كلامٌ في أنّه هل يوجد مدركٌ يثبت شرعيتها بنحو الإطلاق والعموم أو لا ؟ فصحيحٌ أنّه توجد روايات تدلّ على صحّة الإجارة ولكنها في موارد خاصّة مثل رواية أبي ولّاد المذكورة في المكاسب الوارد في شراء البغل ولكن هذه ليست لها إطلاقٌ وشموليّة لكلّ أبواب الإجارة ويصعب تحصيل دليلٌ مطلق، فــيمكن أنّ يقال إنَّ هذا عقدٌ فيمكن أن نتمسّك بإطلاق ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ لإثبات صحته، أمّا آية التجارة عن تراضٍ فيشكل التمسّك بها لأنّ الإجارة قد يقال هي ليست تجارة وإنما التجارة هي عنوانٌ خاصٌ بالبيع والشراء إمّا جزماً أو احتمالاً ويكفينا الاحتمال فلا يمكن التمسّك بآية التجارة عن تراضٍ.
إذن بهذا اتضحت فوارق بين هذه الآية وبين الآية السابقة فالآية السابقة مساحتها وسعية وأمّا مساحة هذه الآية فهي ضيّقة.
ثم إنّه جاء في بلغة الفقيه[2]إشكالٌ وجواب:-
أمّا الإشكال فهو أنّ يقال:- إنّ الآية الكريمة هي نظير قوله عليه السلام:- ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) فإنّ مثل هذا يكون مركز العموم فيه هو في جانب المستثنى منه وليس في جانب المستثنى، يعني أنَّ الإمام عليه السلام يريد أن يقول ( لا تتحقّق الصلاة في أيّ موردٍ من الموارد مادام لا توجد فاتحة الكتاب بنحو السالبة الكلّية وإن كان فيها ركوعٌ وسجودٌ وإن كانت صلاة الصبح أو غيرها .... )، يعني لا يراد أن يقال ( إذا تحققت فاتحة الكتاب في أيّ صلاةٍ فتتحقّق بذلك الصلاة وهي صحيحة حتى ولو فرض أنّه لا ركوع ولا سجود ولا قيام فيها )، إنّه لا يراد إثبات العموم بلحاظ المستثنى وإنما يراد إثباته بلحاظ المستثنى منه، والآية الكريمة التي هي مورد البحث هي من هذا القبيل، ولازم ذلك أنّه نستفيد العموم في جانب المستثنى منه، يعني نفهم آنذاك أنّه إذا لم تكن تجارةً عن تراضٍ فهو باطلٌ فكلّما كانت المعاملة فهي باطلة، ولكن لا نستفيد أنّه كلّما تحقّق عنوان التجارة عن تراضٍ كانت المعاملة صحيحة - فإننا لا نستفيد العموم في جانب المستثنى - وبذلك سوف نخسر الاستدلال بهذه الآية الكريمة.
ثم أجاب(قده) عنه بكلام لا يخلو من تطويلٍ وخفاءٍ وما فهمته منه:- هو أنّه ينبغي التفرقة بين ما إذا كان الاستثناء متصلاً فالأمر كما ذكر من قبيل ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) - يعني لا يستفاد العموم في جانب المستثنى وإنما يستفاد العموم في جانب المستثنى منه -، وأمّا إذا كان الاستثناء منقطعاً كما هو الحال في الآية مورد البحث فندّعي أنّ العموم يثبت في جانب المستثنى أيضاً لا أنّه ينحصر في جانب المستثنى منه.
إذن نستفيد العموم في جانب المستثنى، يعني سوف يصير المقصود في جانب المستثنى هو ( إلّا أن تكون تجارةً عن تراضٍ فإنّه متى ما تحقّق عنوان التجارة عن تراضٍ في أيّ موردٍ كفى ذلك في جواز التملّك والتصرف ).