36/12/19


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 17 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

مسألة ( 17 ):- الغناء حرامٌ إذا وقع على وجه اللهو والباطل بمعنى أن تكون الكيفية كيفيةً لهوية . والعبرة في ذلك بالصدق العرفي . وكذا استماعه . ولا فرق في حرمته بين وقوعه في قراءة ودعاء ورثاء وغيرها . ويستثنى منه غناء النساء في الأعراس إذا لم يُضمّ إليه محرّم آخر من الضرب بالطبل والتكلّم بالباطل ودخول الرجال على النساء وسماع أصواتهم على نحوٍ يوجب تهييج الشهوة وإلا حرم ذلك.[1]

تشتمل هذه المسالة على عدو نقاط:-

النقطة الأولى:- الغناء حرام.

وهذا هو المعروف بيننا معاشر الاماميّة ، بل كاد أن يكون إجماعاً لولا أنّ للكاشاني والسبزواري عبارة يظهر منها أنّ نفس الغناء ليس بمحرّم وإنما المحرّم هو ما يقترن به.

قال في الجواهر:- ( بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه والسنة متواترة فيه ... بل يمكن دعوى كونه ضرورياً في المذهب فمن الغريب ما وقع لبعض متأخري المتأخرين تبعاً للمحكي عن الغزالي من عدم الحرمة فيما لم يقترن بمحرم خارجي )[2] .

وقال النراقي(قده):- ( الدليل عليها هو الاجماع القطعي بل الضرورة الدينية واكتاب والسنة )[3] .

وأمّا بالنسبة إلى غيرنا:- فلهم قول بالتحريم ، وقول بالإباحة.

ففي المغني قال:- ( اختلف أصحابنا في الغناء فذهب بعضهم إلى أنه مباح ما لم يكن معه منكر ، واختار آخرون أنّه مكروه غير محرّم ، وذهب آخرون إلى تحريمه )[4] .

وفي كتاب عمدة القارئ[5] نسب الحرمة إلى أبي حنيفة ومالك وأحمد ، والكراهة للشافعي وأصحابه ، والاباحة لجملةٍ من الصحابة.

والخلاصة:- إنَّ التحريم بيننا يكاد يكون إجماعيّاً ، بينما عند العامّة فهو محلّ اختلاف.

ولكن قبل أن ننتقل عن الاجماع نود الاشارة إلى قضية مرّت سابقاً:- وهيّ أنّه حينما ننقل رأي الأصحاب فالهدف ليس هو الاستدلال بالإجماع وإنما هو استعلام رأيهم في المسألة ، فإنّ الفقيه يحتاج إلى أن يعرف رأي الفقهاء في المسألة التي هو بصدد بحثها ولعلّ رأي الأصحاب يعينه أحياناً وإلا فالإجماع حتى لو ثبت حقّاً ولم يكن هناك خلاف في المسألة لا يمكن التمسّك به في المقام ، والوجه ما أشرنا إليه من أنّه توجد مدارك أخرى كالآيات والروايات المتعدّدة التي سوف نشير إليها وهذا يعني أنّ الاجماع محتمل إن لم يكن جزميّ المدرك ، والاجماع إنّما هو حجّة عندنا باعتبار أنّه يكشف يداً بيد عن تلقّي الحكم من المعصوم عليه السلام وبعد وجود المدرك الجزمي أو المحتمل فلا تكون هناك كاشفيّة قطعيّة ، فلا قيمة للإجماع ، وإنما تعود القيمة للمدرك ، فلابد من تقييم المدرك في حدّ نفسه ، وهذا مطلبٌ تعلّمناه من أعلامنا ومنهم الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل فإنه لم يعطِ قيمة للإجماع المدركي ، ولكنه في المكاسب بدّل سيره العملي فأعار أهميةً للإجماعات.

إذن الإجماع لا قيمة له في مسألتنا وما شاكلها مّما يوجد فيه مدرك جزمي أو محتمل.

نعم ربما يستعين به الفقيه كمؤيدٍ وداعمٍ ، وقد يساعده على الاطمئنان النفسي ، ونحن نعرف أنّ الاطمئنان النفسي للفقيه قضيّة مهمّة ، فإذا اطمأن الفقيه بالحكم فحينئذٍ يمكنه أن يفتي أمّا إذا لم يطمئن فسرف يتردّد من هنا وهناك وهذا ليس لقلّة علمه بل هو كمسألة الطبابة فأحد الأطباء يجزم بأن هذا المرض هو الموجود عند المريض وأما الآخر فيحتمل أنّ الذي عنده هو غير هذا المرض ، وهل أنّ علم الثاني أقل من الأوّل ؟! كلّا فإنّ هذه القضيّة لا ربط لها بالمسألة.

عودٌ إلى صلب الموضوع:-

توجد عدّة آيات تمسّك بها في المسألة لإثبات الحرمة ، وقد أشار إليها الشيخ الأعظم(قده)[6] وقبله الشيخ النراقي(قده)[7] ، وإذا ضممنا آيةً أخرى صار المجموع أربع وهي:-

الأولى:- قوله تعالى:- ﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾[8] ، فإنّه قد وردت روايات متعدّدة ولعلها خمس تفسّر قول الزور بالغناء.

من قبيل:- صحيحة زيد الشحّام:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عزّ وجلّ " واجتنبوا قول الزور " ، قال:- قول الزور:- الغناء )[9] .

الثانية:- قوله تعالى:- ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ﴾[10] ، فإنّه قد وردت روايات متعدّدة أيضاً تفسّر لهو الحديث بالغناء ولعلها خمس روايات أيضاً.

من قبيل:- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:- ( سمعته يقول:- الغناء مما وعد الله عليه النار ، وتلى هذه الآية " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين " )[11] .

الثالثة:- قوله تعالى:- ﴿ والذين لا يشهدون الزور ﴾[12] ، فإنّه قد ورد في صحيحة محمد بن مسلم وأبي الصباح[13] - أو محمد بن مسلم عن أبي الصباح[14] [15] - حيث قال:- ( قال في قوله عزّ وجلّ لا يشهدون الزور:- الغناء ) فالزور هو الباطل ولكن المقصود منه هنا هو الغناء ، فالإمام عليه السلام طبّقه هنا على الغناء.

هذه آيات ثلاث ذكرت في المكاسب والمستند.

الرابعة:- قوله تعالى:- ﴿ والذين هم عن اللغو معرضون ﴾[16] ، بعد ضمّ ما ورد في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام:- ( والذين هم عن اللغو معرضون:- الغناءُ والملاهي )[17] .

ولعلك تقول دفاعاً عن الشيخ الأعظم(قده):- أنّه لم يذكر الآية الرابعة لاعتبارين:-

الأوّل:- إنّها لا تدلّ على التحريم لأنّها وصفت المؤمنين بأنهم عن اللغو معرضون وهذا ليس لسان تحريمٍ وإنّما هو لسان مدحٍ وثناءٍ للمؤمنين بأنهم لا يسمعون اللغو ومعرضون عنه فلا يستفاد منه التحريم.

وجوابه:- إنّ هذا يرد نفسه في الآية الثالثة فإنها جاءت في وصف عباد الرحمن ، فلسانها أيضاً ليس لسان التحريم ، فإذا صار البناء على أن ننظر إلى لسان التحريم دون لسان المدح والثناء فالإشكال مشتركٌ بين الآيتين ، فإمّا أن نحذف الاثنين معاً أو نذكرهما معاً.

الثاني:- إنها ضعيفة السند ، باعتبار أنّ القمّي رواها عن الصادق عليه السلام ولم يذكر الواسطة إليه فتكون مرفوعة ، فلا عبرة أذن بالرواية.

ودعوى:- أنّ كلّ ما يرويه القمي يكون سنده معتبراً وصحيحاً لما ذكره في المقدّمة من أنّ كلّ رواياته هكذا فلا داعي للتأمل في سند الرواية.

مدفوعة:- بأنّه لو سلّمنا استفادة التوثيق من المقدّمة الذكورة في بداية تفسير القمّي ، ولكن قرأنا في بعض القضايا الرجاليّة أنّ بعض أسانيد القمّي ضعيفةٌ باعتبار أنّه يوجد تضعيفٌ من قبل الشيخ الطوسي أو النجاشي لبعض رجال السند - ولعل بعضهم جعل هذا دليلاً وشاهداً على أنّ القمي لا يريد توثيق جميع رجال السند وإنما يريد توثيق المشايخ المباشريين له - فلعلّ هذا السند هو من البعض الذي ورد فيه تضعيف ، فيصير المورد من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة[18] .

والخلاصة:- قد تقول إن الشيخ ملتفتٌ إلى كلّ هذه النكات فلم يذكر هذه الرواية لأنّ سندها ضعيف لهذا البيان الذي ذكرناه.

وهو شيء ظريف ، ولكنّ بناء الشيخ الأعظم(قده) ليس على الاستشهاد بالروايات المعتبرة فقط ، بل سيرته جارية على أنّه يذكر حتى الروايات غير المعتبرة إمّا لتساهله في الفقه - فمنهجه منهجٌ تساهلي - ، أو لا أقل يذكرها من باب المؤيد ثم بعد ذلك يناقشها لأنّ القضية علميّة ، فلا أرى مبرراً لعدم ذكر هذه الرواية من قبله.

هذه ثلاث أو أربع آيات قد يتمسّك بها لإثبات الحرمة.

إن قلت:- هذا بالتالي ليس تمسكاً بالآيات وإنما هو عودةٌ إلى الروايات ، فعلى هذا الأساس كان من المناسب أن نذكر هذه الآيات في عِداد الروايات لا في عرضها وقسيماً لها.

والجواب:- هذا شيء وجيهٌ ، ولكن بالتالي صارت لدينا روايات ولو بواسطة الروايات تدلّ على التحريم فلا بأس بذكرها بعنوانٍ مستقلٍّ وإن كان المناسب فنّياً هو ما ذكرته.

وبعد أن ذكر الشيخ الأعظم(قده) هذه الآيات أشكل عليها جميعاً بإشكالٍ واحد وقال:- إنها لا تدلّ على تحريم الغناء بما هو كيفيّة ، والغناء كما نعرف هو كيفيّةٌ في الصوت ولحنٌ في الصوت والكلام وهذه الآيات لا تدلّ على تحريم الغناء بما هو كيفيّة ولحن وإنما تدلّ على تحريمه بما هو قولٌ وكلام ، فكأنها جعلت الغناء من قسم ومقولة الكلام والألفاظ وهذا نحن لا نريد إثبات تحريمه ، وإنما نحن نريد إثبات تحريم الغناء بما هو من مقولة الكيفيّة ، فكيفية الصوت ولحنه هو لحنٌ وكيفيّةٌ خاّصةٌ - والتي هي الكيفية المناسبة لمجالس أهل الفسوق والفجور - ، فهذا هو الذي نريد إثبات تحريمه لا ما كان من مقولة الكلام ، فالآيات الكريمة بصدد شيءٍ المطلوب إثباته شيء آخر.


[4] المغني، ابن قدامة، ج12، ص41.
[5] عمدة القارئ، العيني، ج5، ص16.
[14] يعني يوجد نقلان وهذا لا يؤثر لأن الاثنين ثقاة.
[18] يعني أنَّ كلام القمّي يكون بمثابة العام وقد ورد له مخصّصٌ فحينئذٍ خرج من العموم هذا البعض، فالتمسّك بهذا العموم في المقام الذي تكون الشبهة فيه مصداقية - لأنه يحتمل أن هذا السند من الموارد التي خرجت بالمخصّص – يكون تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة -.