37/01/18


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 17 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
ذكرنا أن الشيخ الأعظم(قده) تمّم دلالة هذه الرواية وقال إنَّ دلالتها على حرمة الغناء شيءٌ جيدٌ على خلاف الآيات فإنّ دلالة الآيات ليست تامّة على حرمة الكيفية وإنما غاية ما تدلّ عليه هو حرمة الغناء بمعنى المضمون والكلام الباطل وهذا خارج محلّ كلامنا وإنما مورد كلامنا هو في الكيفية سواء كانت في كلام حقٍّ أو باطلٍ وهذه الرواية يستفاد منها حرمة الكيفية لأنّ المضمون - وهو ( جئناكم جئناكم ) - مضمونٌ صحيحٌ وليس كذبا ولا زوراً ولا باطلاً فالإمام عليه السلام حينما كذّب هذه النسبة وحمل عليها فهذا يدل على أنَّ الكيفيّة كانت كيفيّة لهوية غنائية، فالرواية إذن دالّة على حرمة الغناء بمعنى الكيفيّة.
ونحن علّقنا وقلنا:- لعلّ تأبّي الإمام عليه السلام من النسبة والتحامل عليها - أي نسبة الترخيص إلى النبي صلى الله عليه وآله في هذه الجملة - من باب أنّ مضمون هذا الكلام مضمونٌ عبثيّ والمؤمن منزّهٌ عن هذا وحاشى للرسول أن يرخّص في مثل هذا الكلام اللهوي، فلعل تحامل الإمام وتكذيبه لهذه النسبة هو من هذه الناحية.
أو أن نقول:- إنّ السائل لم يفترض كيفيّة لغوية وإلّا كان عليه أن ينبّه على ذلك . فإذن هو لم يفترض ذلك فكيف نقول إنّ الكيفيّة هنا لغويّة وأن تحامل الإمام عليه السلام من باب أنّ الكيفية كانت كيفية لغويّة والحال أنّ السائل لم يفترض ذلك ؟!!
ونستدرك حول هذا الموضوع فنقول:-
إن قلت:- إنّه قد فرض في صدر الرواية أنّ عبد الأعلى سأل عن الغناء وقال:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغناء وقلت:- إنهم يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله رخّص ... ) فالسؤال إذن كان سؤالاً عن الغناء، ومادام قد افترضنا أنّ سؤاله عن الغناء فكلتا المناقشتين اللتين أشرنا إليهما يمكن أن تندفعا:-
أمّا المناقشة الأولى:- وهي أنّه لعلّ إباء الإمام من هذه النسبة وتحامله عليها هو لأجل أنّ هذا كلامٌ عبثيٌّ وليس لأجل كون الكيفيّة كيفيّة باطلة -، ولكن نقول:- مادام قد فرض أنّ السؤال من البداية هو عن حكم الغناء فيبقى سؤال السائل بلا جواب فلابد وأن نفترض أنّ المنظور هو الكيفيّة الغنائية حتى يكون ذلك جواباً لسؤاله.
وهكذا تندفع المناقشة الثانية:- وهي أنّه لم يفترض أنّ كيفية الجملة كانت كيفيه لهوية فكيف تحمل الرواية على أنَّ الكيفية كانت لهويّة والحال أنّ السائل لم يفترض ذلك - فهذا أيضاً يندفع فيقال:- مادام سؤاله عن الغناء فلابد وأن تكون الكيفيّة لهويّة، فهذا مأخوذٌ كشيءٍ مفروضٍ في كلام السائل.
إنّه قد يقال بأنّه سوف تندفع كلتا المناقشتين اللتين أشرنا إليهما بما ذكرنا.
وفيه:- إنّ من المحتمل أن يكون عبد الأعلى لم يسأل عن حكم الغناء بصيغة ( ما هو حكم الغناء ) فإنّ هذه الصيغة لم تصدر منه وإنما صدر منه هذا المعنى وهو:- ( قلت:- يزعمون ... )، فالصادر هو هذه الجملة، فالذي في قلبه هو معرفة حكم الغناء لكن الذي صدر منه هو السؤال بطريقة ( قلت:- يزعمون أن النبي قد رخّص .. )، فإذا افترضنا أنّ الصادر منه هو هذه الجملة لا أنّه صدر منه سؤالٌ عن حكم الغناء فحينئذٍ مادام هذا الاحتمال موجودٌ فتصير الرواية مردّدة، ويكفينا التردّد لسقوطها عن الحجّية.
مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا أنّه سأل عن حكم الغناء بصيغة ( ما حكم الغناء ويزعمون أنّ النبي رخّص .. ) ولكن نقول إنَّ هذا مرجعه ربما يعود إلى سؤالين وليس إلى سؤالٍ واحد، سؤالٌ عن حكم الغناء، وسؤالٌ عن نسبة الترخيص إلى النبي صلى الله عليه وآله، والإمام عليه السلام أخذ يجيب على السؤال الثاني وسكت عن جواب السؤال الأوّل لنكتةٍ ما - كما نفعل نحن في بعض الأحيان كما في مسألة أنّه هل يجوز للمرأة أن تخرج مع كشف وجهها فنحن لا نريد أن نقول نعم لأنّ هذا فيه مفسدة فلّعل الإمام عليه السلام سكت عن جواب السؤال الأوّل وأخذ يجيب عن السؤال الثاني - لا أنّ مجموع ما صدر هو مجموع سؤالٍ واحدٍ حتى يكون الأول قرينةً على الثاني، وإنما هما سؤالان منفصلان والإمام عليه السلام أجاب عن الثاني وسكت عن الأوّل لنكتةٍ ما فإنّ هذا محتمل أيضاً.
وأمّا بالنسبة إلى سندها:- فقد قلنا إنّ المشكلة هي في عبد الأعلى فقط، فكيف نثبت توثيقه ؟
ونحن سلكنا طريقاً في المحاضرة السابقة لإثبات توثيقه وقلنا صحيح أنّه متعدّد ولكن المعروف اثنان أحدهما ابن أعين العجلي والثاني مولى آل سام، ومولى آل سام لم يرد في حقّه توثيق، ولكن العجلي وثّقه الشيخ المفيد(قده) في الرسالة العدديّة وجعله من الرؤساء الذين يؤخذ منهم الحلال والحرام
يبقى كيف نثبت أن عبد الأعلى هذا هو العجلي وليس مولى آل سام ؟
قلنا:- إنَّ القرينة على ذلك هو يونس بن يعقوب، فإنه يروي في موارد متعدّدة عن عبد الأعلى بن أعين العجلي - بهذا اللسان -، ولكن روايته عنه بعنوان مولى آل سام فليست موجودة، وعلى هذا الأساس يمكن أن يشكّل هذا قرينة على كونه العجلي.
ولكن قلنا:- أجاب الشيخ الأعظم(قده) في عبارته في المكاسب بجوابٍ آخر غير ما أشرنا إليه حيث قال:- ( رواية عبد الأعلى وفيها ابن فضال )، وكأنه يريد أن يقول إنّ عبد الأعلى وإن كان لم يوثّق ولكن مادام قد ورد في السند بعض بني فضال فيؤخذ بالرواية من دون نظر إلى السند، وهذا هو الرأي الذي يتبنّاه غير واحد.
وهذا المبني من الشيخ الأعظم ذكره مرّتين في كتاب المكاسب ومرّةً في كتاب الصلاة:-
المورد الأوّل في المكاسب:- هو هذا حيث قال:- ( رواية عبد الاعلى وفيها ابن فضال )[1].
المورد الثاني:- في باب الاحتكار[2]، فإنه روى عن المجالس رواية لإثبات حرمة الاحتكار بسنده عن أبي مريم الأنصاري وفي هذا المجال قال:- ( وفي السند بعض بني فضال والظاهر أن الرواية مأخوذة من كتبهم التي قال العسكري عليه السلام عند سؤاله عنها خذوا بما رووا وذروا ما رأوا ففيه دليل على اعتبار ما في كتبهم فيستغنى بذلك عن ملاحظة مَن قَبلهم في السند ).
وأما الوارد في كتاب الصلاة[3]في أوقات الصلاة:- فقد وردت رواية لداود بن فرقد عن بعض أصحابنا تحدّد وقت صلاة الظهرين، وفي هذا الصدد قال:- ( وهذه الرواية وإن كانت مرسلة إلا أن سندها إلى الحسن بن فضّال صحيحٌ وبنو فضّال مما أمرنا بالأخذ بكتبهم ورواياتهم ) ، فهو يريد أن يقول إنّه مادام السند إلى بني فضال صحيحٌ فإذن هذه الرواية من بني فضال، فإذا ثبت أنّها من رواياتهم فحينئذٍ تأتي قاعدة ( خذوا ما رووا .. ).
وما هو منشأ هذا الرأي ؟
الجواب:- إنَّ منشأ هذا الرأي هو الرواية التي رواها الشيخ الطوسي(قده) في كتاب الغيبة تحت عنوان ( صورة بعض توقيعات الحجة عجل الله فرجه )[4] ونصها:- ( وقال أبو الحسين أو تمام حدثني عبد الله الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه قال:- سئل الشيخ - يعني أبا القاسم رضي الله عنه - عن كتب ابن أبي العزاقر بعدما ذمّ وخرجت فيه اللعنة فقيل له كيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء ؟ فقال:- أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن عليّ صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضّال فقالوا كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء ؟ فقال صلوات الله عليه:- خذوا ما رووا وذروا ما رأوا )[5].
أمّا تقريب الدلالة فواضحٌ:- فإنّ الإمام عليه السلام قال ( خذوا ما رووا وذروا ما رأوا )، يعني خذوا برواياتهم، وظاهر الأمر الإباحتي[6] أنّه الأخذ بنحو الفعليّة، يعني كلّ رواية من رواياتهم خذ بها واعمل بها ولا تنظر إلى السند بينهم وبين الإمام عليه السلام.
وهناك إشكالات ثلاثة:-
الإشكال الأوّل:- وهو من حيث السند، فإن الشيخ الطوسي(قده) قد رواها عن الحسين بن تمام عن عبد الله الكوفي وكلاهما مجهولا الحال.
نعم عبد الله الكوفي ذكر في هذه الرواية أنّه خادم الشيخ الحسين بن روح(قده) وربما يقال إنّ خادم مثل هذا الشخص الجليل لابد وأن يكون مورد وثوقٍ واعتمادٍ عند هذا الشيخ الجليل وإلا كيف يعتمد عليه في أموره ويكون خادماً له لأنّ الخادم يطّلع على عورات من يخدمه، فإن تمّ هذا الكلام فلا بأس، وألا فلا، ولكن يمكن أن يقال لا بأس بذلك.
ولكن إذا انحلّت المشكلة من ناحية عبد الله الكوفي يبقى الإشكال من ناحية أبي الحسين بن تمّام فإنّه مجهولٌ وليس خادماً للحسين بن روح فكيف نعتمد عليه ؟!
وأيضاً لعلّه هناك وسائط بينه وبين الشيخ الطوسي(قده) ونحن لا نعرفها، وعليه يكون الامر مشكلاً من ناحية السند.
الإشكال الثاني:- وهو من حيث الدلالة، فإنها قالت ( خذوا ما رووا وذروا ما رأوا ) ولعلّ المقصود هو أنّ العقيدة لا تضرّ بحجّية الرواية، فالرواية خذ بها ولكن المقصود من ( خذ بها ) يعني لا تتوقّف من ناحيته لا أنّه لا تتوقف من ناحية غيره أيضاً بحيث يصير فساد العقيدة سبباً لصيرورة السند أعلائياً فإنّ هذا احتماله ضعيف، ونحن يكفينا الاحتمال، فيحتمل أنّ فساد العقيد لا يضرّ بالأخذ بالرواية لكن من ناحية هذا الذي عقيدته فاسدة لا من ناحية بقيّة الوسائط، وهذا احتمالٌ وجيهٌ ولم يعالجه الشيخ الأنصاري(قده) ولم يشر إليه من قُربٍ ولا من بُعدٍ وهكذا غيره.
ومن الغريب أن الشيخ الأعظم(قده) في باب الاحتكار من المكاسب قال:- ( وقد ذكرنا أن هذا الحديث أولى بالدلالة على عدم وجوب الفحص عمّا قبل هؤلاء من الاجماع الذي ادعاه الكشّي على تصحيح ما يصحّ عن جماعة )[7]، يعني يريد أن يقول إنّ هذه المقالة نفسها قيلت في أصحاب الاجماع، فالكشّي ادعى أنّه قد أجمعت العصابة - أي الشيعة - على أنّ ما يصحّ عن جماعة يؤخذ به وذكر هؤلاء الجماعة الذين عددهم ثمانية عشر راوياً، فالشيخ الأنصاري(قده) قال إنَّ دلالة رواية بني فضّال أقوى من دلالة ما ذكره الكشّي.
ولكن نقول:-
أولاً:- إنّ وجه الأقوائية ليس بواضح.
ثانياً:- هما سيّان من هذه الناحية، فكما يحتمل في هذه الرواية أنّ المقصود هو أنّه من ناحية هؤلاء لا يضرّ ففي تلك أيضاً من ناحية هؤلاء لا يضرّ.


[1] تراث الشيخ الانصاري، تسلسل14، ص288.
[2] تراث الشيخ الانصاري، الانصاري، تسلسل14( ج4 من المكاسب )، ص366.
[3] كتاب الصلاة، الانصاري، ص2، ط قديمة.
[4] الغيبة، الطوسي، الرقم 355، ص389، ط مؤسسة المعارف الاسلامية.
[5] وسائل الشيعة، العاملي، ج22، ص142، ابواب صفات القاضي، ب11، ح، آل البيت.
[6] أو الوجوبي - والأمر لك-.
[7] تراث الشيخ الانصاري، الانصاري، تسلسل17، 366.