37/04/13


تحمیل

الموضـوع:- حكم الغناء في القرآن الكريم - مسألة ( 17 (- المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

وربما يشكّك في استفادة الحكم المذكور[1] من عبائر السبزواري(قده):- فإنّ البعض لعلّه شكّك في ذلك ، و نحن نقول:- لا يهمنا أنّه يقول بذلك أو لا يقول به فإنّه بالتالي هناك شبهة علميّة ووجهٌ علميٌّ للجواز ، فعلينا أن ننظر فيه سواء فرض أنّه يبني عليه أولا.

وعلى أيّ حال هناك وجهان لإثبات جواز الغناء في قراءة القرآن الكريم:-

الوجه الأوّل:- ما يستفاد من عبارة السبزواري المتقدّمة ، وهو أنّ بعض الروايات دلّت على استحباب قراءة القرآن بالصوت الحسن أو بالصوت الحزين أو ما شاكل ذلك وهذا عادةً لا ينفكّ - يعني الحسن في الصوت - عن الغناء.

وفيه:- إنّ حسن الصوت شيء والغناء شيء آخر ولا ملازمة بينهما ، فربما يتحقّق الصوت الحسن من دون غناءٍ ، فالآن نحن نرى الخطباء والرواديد وقرّاء القرآن الكريم يقرأون بصوتٍ جميلٍ حسنٍ ولكن الغناء ليس بموجودٍ ، فما أفيد في هذا الوجه واضح الوهن.

الوجه الثاني:- أن يدّعى إنّ ما دلّ على رجحان قراءة القرآن بالصوت الحسن مثلاً يشتمل على الاطلاق ، فإنّ الصوت الحسن قد يكون مع الغناء وقد يكون من دون غناء ، فهو مطلقٌ ، كما أنّ دليل حرمة الغناء أيضاً مطلقٌ يدلّ على أنّ الغناء محرّمٌ وبإطلاقه يشمل القرآن وغيره ، فالنسبة بينهما هي العموم من وجه ، فهما يجتمعان في قراءة القرآن بصوتٍ غنائيٍّ فالأوّل يدلّ على الجواز لأنّه صوتٌ حسنٌ والثاني يدلّ على الحرمة لأنّه مصداقٌ للغناء - ومادّة الافتراق هي الصوت الحسن من دون غناءٍ والغناء قد يكون في غير القرآن الكريم فهذا لا إشكال بحرمته ويختصّ به دليل حرمة الغناء ولكن لا يهمنا مادّة الافتراق والمهم لنا هو مادّة الاجتماع - فيتعارضان في مادّة الاجتماع - أعني قراءة القرآن بالصوت الحسن الغنائي - فالأول يدلّ على الجواز بل الرجحان والثاني يدلّ على الحرمة كلٌّ بإطلاقه فيتساقطان ، وبعد التساقط نرجع إلى أصل البراءة ، فيثبت بذلك جواز قراءة القرآن الكريم بنحو الغناء ، وهذه شبهة علميّة كيف الجواب عنها ؟

وواضحٌ أنه يمكن أن نصوغ هذا المطلب بشكلٍ أيسر وأسهل وذلك بأن يقال:- إنّه تحصل معارضة بين ما دلّ على استحباب ورجحان قراءة القرآن - نفس القراءة وليس الصوت الحسن - فإنّه بإطلاقه يشمل القراءة الغنائية ، فيتعارض مع دليل حرمة الغناء الذي بإطلاقه يشمل قراءة القرآن الكريم ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع - أعني قراءة القرآن الكريم بالصوت الغنائي - فيتساقطان فنرجع إلى البراءة.

وهذه نفس الطريقة ولكن الصياغة الأولى تستعين بالروايات التي دلّت على رجحان قراءة القرآن بالصوت الحسن وبالصوت الحزين ، أمّا هنا فقد تمسكنا بما دلّ على التأكيد على قراءة القرآن الكريم ، أي رجحان أصل القراءة ، فنجعل هذا هو الدليل الأوّل وليس قراءة القرآن بالصوت الحسن.

هذه هي الشبهة العلميّة في هذا المجال فكيف الجواب ؟

والجواب:- تعرّض الشيخ الأعظم(قده) إلى هذه الشبهة في المكاسب[2] وأجاب بأنّ دليل استحباب قراءة القرآن بالصوت الحسن يدلّ على استحباب الصوت الحسن لو خلّي وطبعه ، يعني بقطع النظر عن الطوارئ الأخرى ، وهذه قضية سيّالة نقولها في كلّ دليل استحباب وفي كلّ دليل إباحة ، فمثلاً حينما يقال ( كل الخبز ) أو ( يجوز لك أكل الخبز ) فالمقصود هو أنه لو خلّي وطبعه من دون طروّ طارئٍ - يعني نظرنا إلى حيثية الخبز فقط يعني اقتصرنا على حيثية الخبز - فهنا يكون مستحباً أو مباحاً ، فالمنظور في أدلّة الاباحة أو الاستحباب دائماً هو اثبات الاستحباب أو الاباحة للشيء لو خلّي وطبعة بقطع النظر عن طروّ الطوارئ ، فحينما يقال ( اشرب الشاي ) أو ( يستحب أكل الجوز بالجبن ) وما شاكل ذلك يعني أننا مقتصرون على هذه الحيثية - كحيثية الجبن مع الجوز أو حيثية المائية في اشرب الماء - بقطع النظر عن طروّ طارئ ، ومعه فلا منافاة في ثبوت الحرمة أو في ثبوت الجوب لطروّ طارئٍ ، كما إذا نذر الإنسان أن يشرب الماء - لو كان هذا النذر صحيحاً - فإنّه يصير واجباً ، أو نذر أن يتركه لأنّه يؤذيه فيصير حراماً ، فلا منافاة لأنّ الأوّل - أي دليل الاباحة والاستحباب - دائماً هو يثبت الاستحباب أو الاباحة للعنوان لو خلّي وطبعة - يعني لو نظر إلى نفس العنوان بقطع النظر عن طروّ طارئ - ، ومعه فلا ينافي ذلك أن يصير واجباً أو حراماً لطروّ طارئٍ يقتضي تحريمه كالسرقة والغصب أو يقتضي وجوبه كالنذر أو توقف العلاج والحياة عليه ، فعلى هذا الأساس لا منافاة.

وفي مقامنا نطبّق نفس هذه الفكرة فنقول:- إنّ الدليل الأوّل الذي دلّ على رجحان قراءة القران بالصوت الحسن هو ناظر إلى الصوت الحسن بما هو صوت حسن بقطع النظر عن طروّ الطوارئ ، وهذا لا ينافي أن يطرأ طارئ وهو ما دلّ على حرمة الغناء فيصير محرّماً ، فلا توجد منافاة في البين.

وفيه:- إنّ ما ذكره يتم فيما إذا كان أحد العنوانين أوّلياً والآخر ثانوياً ، كدليل ( يجب الوفاء بالنذر ) فإنه عنوان ثانويٌّ بينما دليل ( يجوز شرب الماء ) دالّ على الجواز بالعنوان الأوّلي بما هو ماء ، فدليل الجواز يدلّ على جواز شرب الماء بما هو ماء فهو ناظرٌ إلى العنوان الأوّلي - فهو ناظر إلى حيثية الماء - ، بينما دليل وجوب النذر ناظرٌ إلى العنوان الثانوي وهو النذر ، فحينئذٍ لو اجتمعا يقدّم دليل النذر ، وهذا صحيحٌ لأنّ دليل الجواز ناظرٌ إلى العنوان الأوّلي فلا يتنافى ذلك مع مجيئ دليل بالعنوان الثانوي يدلّ على التحريم أو على الوجوب ، وهذا شيء وجيه ولا بأس به.

وما إذا كانا معاً من قبيل العنوان الأوّلي الأوّل إباحة والثاني تحريم مثلاً - ولكن كلاهما بالعنوان الأوّلي - فالمنافاة حينئذٍ تكون ثابتة لأنّ كلا الدليلين ناظر إلى العنوان الأوّلي ، من قبيل أن يقال ( يستحب لك أن تأكل الجبن أوّل الشهر ) ويأتي دليل آخر يقول ( يحرم تناول مشتقات حليب البقر ) ، فهنا النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فالأوّل يدلّ على الاستحباب والثاني يدلّ على الحرمة وكلاهما بالعنوان الأوّلي ، ومادّة المعارضة هي فيما إذا فرض أنّه كان الجبن من حليب البقر - فإذا كان من غير حليب البقر فهذه مادّة افتراق والمادّة الأخرى للافتراق من الطرف الثاني هي أنّ نفترض غير الجبن من مشتقات الحليب كالقيمر - ، فمادّة الاجتماع سوف تصير في الجبن من حليب البقر وكلاهما بالعنوان الثانوي ، فهنا الأوّل يدلّ على الاستحباب والثاني يدلّ على التحريم فهل نطبّق ما ذكره الشيخ(قده) من أنّ دليل الاستحباب هو ناظرٌ إلى الجبن بحيث لو خلّي وطبعه بما هو جبن فلا يتمّ هذا المطلب ، بل تبقى المنافاة ، فلا يمكن أن يقول هذا ناظرٌ إلى الجبن لو خلّي وطبعة فلا ينافي حرمته من حيث أنّه من مشتقات حليب البقر ، كلا بل نشعر بالوجدان أنّ المنافاة ثابتة بالعنوان الأوّلي . فإذن المنافاة لا تكون موجودو إذا فرضنا أنّ دليل الاستحباب كان بالعنوان الأوّلي ودليل الوجوب بالعنوان الثانوي ، لا ما إذا كانا معاً بالعنوان الأوّلي.

وفي مقامنا نقول:- إنّ ما دلّ على استحباب القراءة بالصوت الحسن ناظر إلى العنوان الأوّلي فإنّ القراءة قد تكون بصوتٍ حسن وقد لا تكون كذلك ، ودليل الحرمة - يعني ما دلّ على حرمة الغناء - هو أيضاً دالٌّ أيضاً على حرمة القراءة فإنّ القراءة والتلفّظ بالكلام يحرم إذا كان بنحوٍ غنائيٍّ ، فالقراءة والتكلّم والتلفّظ تارةً يكون بصوتٍ حسنٍ وأخرى لا يكون كذلك ، وتارةً تكون بشكلٍ غنائيٍّ وأخرى لا تكون كذلك ، فكلاهما بالعنوان الأوّلي ، فهو تقسيمٌ لنفس القراءة والتلفّظ والتكلّم والحديث ، فنفس الحديث والكلام تارةً يكون بصوتٍ حسنٍ وأخرى لا يكون كذلك ، وهكذا مرّة يكون بشكلٍ غنائيٍّ وأخرى لا يكون كذلك ، فكلاهما بالعنوان الأوّلي ، ففي مثل هذه الحالة لا موجب لأن نقدّم الثاني ونقول إنّ الأوّل ناظر إلى الشيء لو خلّي وطبعه فلا ينافي لزومه أو وجوبه بالعنوان الآخر ، فإنّ هذا لا يأتي فإنّ العنوان الآخر عنوانٌ أوّلي كما ذكرنا ، فإذن خرجنا بقاعدة ثانية.

وهناك جواب آخر ذكره السيد الخميني(قده)في مكاسبه[3] وحاصل ما ذكره:- هو أنّه لا تعارض بين الدليلين - أي دليل رجحان قراءة القرآن بالصوت الحسن ودليل حرمة الغناء - فيقدّم آنذاك دليل حرمة الغناء . هذا روح ما افاده(قده)

وهو كما ترى ينحلّ إلى مقدّمتين:-

الأولى:-إنّه لا تعارض في البين.

الثانية:- ومادام لا تعارض فنقدّم الدليل الثاني وهو دليل الحرمة.

وكلتا المقدّمتين تحتاج إلى إثبات:-

أمّا بالنسبة إلى المقدّمة الأولى:- فقد ذكر أنّ أدلّة الأحكام الشرعية تثبت الأحكام للطبائع بقطع النظر عن تطبيقها على الأفراد ، فحينما يقال الغناء حرام فالحرمة منصبّة على طبيعة الغناء أمّا أنّ هذا الغناء في القرآن أو في غيره فهو ليس منظوراً له بل النظور هو الطبيعة ، وهكذا استحباب القراءة بالصوت الحسن فإنه ناظر إلى طبيعة قراءة القرآن بالصوت الحسن أما تطبيقات ذلك كأن يكون من خلال الغناء أو غيره فهذا ليس منظوراً إليه ، ومادام كلا الحكمين منصبّاً على الطبيعة فلا منافاة.

ومثل بهذا المثال حيث قال:- من قبيل أن يقول أحد الدليلين يستحب الإبكاء والدليل الثاني يقول يحرم الغناء ، فهنا لا يتوهّم أحدٌ أنّه يوجد بينهما معارضة باعتبار أنّ الإبكاء قد يكون من خلال الغناء ، كلا فإنّ هذا ناظر إلى طبيعة الإبكاء بما هو إبكاء والتطبيقات والأفراد ليس منظوراً لها إذ هي خارجة عن مفاد الدليل ، وهكذا دليل حرمة الغناء فهو ناظر إلى طبيعة الغناء ولم ينظر إلى التطبيقات ، وبذلك ثبتت المقدّمة الأولى وهو أنّه لا معارضة.

وأما المقدّمة الثانية:- قال أنّ العقل يقول قدّم دليل الحرمة لأنّ الغرض فيه أهم باعتبار أنّه يدلّ على حكمٍ إلزاميٍّ ، ففيه غرضٌ أهم فإنّ الحكم الإلزامي يكون الغرض فيه أهم ، بينما الغرض هناك ليس بإلزامي فيتقدّم بحكم العقل ما كان الحكم فيه إلزامياً ، يعني يتقدّم دليل التحريم على دليل الاستحباب أو دليل الإباحة.


[1] أعني الحكم بجواز الغناء في قراءة القرآن الكريم.
[3] المكاسب المحرمة، الخميني، ج، ص334- 336.