32/10/28


تحمیل
 كان الكلام في الإشكال الثاني المختصّ بأخذ الأجرة على الواجبات العبادية وحاصله أن أخذ الأجرة ينافي قصد التقرّب المعتبر في العبادة وقلنا إن هذا له عدة أجوبة ودخلنا في الجواب الأول وكان حاصله تخريج الجواز على فكرة الداعي على الداعي على أساس أن الفعل عندما يأتي به الأجير يأتي به بقصد التقرّب وأما العوض فهو داعٍ إلى ذلك الداعي .
 واعُترض عليه بأن هذا لا يُلغي دور العوض في صدور العمل من الأجير أو فقل إن الداعي بالفعل ليس هو التقرّب محضاً وإنما هو التقرّب مع أخذ العوض فإنه لا يُمكن إنكار مساهمته في صدور العمل ولذا لو لم يكن هناك عوض لما كان صدر منه الفعل .
 وذُكر في مقام دفع هذا الاعتراض بأن فكرة الداعي على الداعي تنفع في المقام لدفع الإشكال المذكور وذلك باعتبار أن الذي ينافي العبادية إنما هو الداعي الدنيوي الذي يكون في عرض الداعي الأخروي - أعني قصد التقرّب ومثّلوا لذلك بقصد التبريد في الوضوء فإنه يكون في عرض قصد التقرّب فيكون من باب التشريك المضرّ بعبادية العبادة ، وأما إذا فرضنا أن الداعي يكون في طول الداعي الأخروي لا في عرضه فهو لا يضرّ بعبادية العبادة وإلا لبطلت عبادة كثير من الناس كما ذكرنا لأن الداعي على إتيانهم بالعبادة مقصوداً بها امتثال أمرها هو الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب وهي دواعٍ دنيوية ولكنها لما وقعت في طول الداعي الأخروي فهي لا تضرّ بعبادية العبادة ، وفكرة الداعي على الداعي مبنية على هذا الأساس أي أن قصد أخذ الأجرة والعوض هو في طول قصد التقرّب وبالتالي فإن العمل يصدر بقصد التقرّب .. وبناءً على ذلك فإن فكرة الداعي على الداعي ترفع الإشكال عن أخذ الأجرة على الواجبات العبادية .
 ويُلاحظ على هذا الكلام بما أشرنا إليه من أن هذا بحسب ما يُتصوّر لا يُغيّر من الواقع شيئاً فإن الداعي الدنيوي ساهم في صدور العمل وبالتالي لا نستطيع القول بأن العمل صدر من المكلّف بداعي التقرّب محضاً ، وأما قياس محلّ الكلام بما ذُكر من عبادة أكثر الناس حيث يأتون بها امتثالاً لأمرها ولكن طمعاً أو خوفاً فهو قياس مع الفارق وذلك لأن هذه الدواعي تنتهي في الحقيقة إلى الله سبحانه وتعالى لأن المقصود من خوف العقاب إنما هو الخوف من عقابه سبحانه وتعالى والطمع إنما هو الطمع في ثوابه سبحانه وتعالى وكذا يقال حينما يكون الداعي إلى العبادة بقصدها القربي هو ما يترتّب عليها من سعة الرزق - مثلاً فإن المصلي إنما يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يوسّع عليه رزقه فهذه دواعٍ ليست أجنبية عن الله سبحانه وتعالى وإنما هي تنتهي إليه وحينئذ تكون مختلفة عن محلّ الكلام لأن العوض فيه ماديّ لا ينتهي إليه سبحانه وتعالى فثمة فرق إذاً بين هذين الأمرين .
 وبعبارة أخرى : إن الأغراض المذكورة أغراض مرتبطة بالله تعالى وهذا يمكن لنا فيه أن نلتزم بأنه لا يضرّ بقصد القربة ولا يضرّ بعبادية العبادة بخلاف الغرض المادي الصرف الذي هو الأجرة والعوض بل يمكن أن يقال إن العبادة لو صدرت مباشرة بهذه الدواعي - أي بقصد الفرار من العقاب أو الطمع في الثواب - فيمكن الالتزام بصحتها لأن المطلوب في العبادة أن يكون العمل فيها مرتبطاً بنحو من أنحاء الارتباط بالله تعالى ويكفي في تحقق مثل هذا الارتباط صدور العمل منه بأحد ذينك الداعيين والجزاءُ وهو إعطاء الثواب والتأمين من العقاب يتحقّق منه تعالى ، وهذا بخلاف محلّ الكلام فإنه وإن أتى بالعمل العبادي بقصد امتثال أمره إلا أن المحرّك له والداعي إلى الإتيان به هو قصد العوض والأجرة وهو قصد دنيوي صرف ليس له أيّ ارتباط بالله سبحانه وتعالى وكونُه داعياً على الداعي لا يُحلّ من المشكلة شيئاً لأننا يصحّ لنا أن نقول بضرس قاطع أنها لم تصدر من العبد بمحض التقرّب فإن الجزاء على ما صدر منه لا يتحقّق منه تعالى بل من المستأجٍر فقياس ما نحن فيه على ذلك المقام قياس مع الفارق .
 ومن هنا يظهر أن فكرة الداعي على الداعي غير واضحة لدينا ولا يمكننا أن نعتمد عليها في دفع الإشكال السابق فيبقى الإشكال إلى هنا على حاله .
 التقريب الثاني : ما نقله الشيخ في المكاسب عمّا أشار إليه في الجواهر من : " أن تضاعف الوجوب بسبب الإجارة يؤكد الإخلاص " [1] فلا موجب حينئذ لبطلان العبادة فإن ما هو معتبر في العبادة هو الإخلاص والوجوب الناشئ من الإجارة يؤكّده فتصحّ العبادة لتوفّر ما اشتُرط فيها من الإخلاص الذي يكون مؤكَّداً .
 وذكر الشيخ الأنصاري (قده) في هذا الكلام احتمالين وأجاب عنهما :
 الأول : أنه " إن أريد أن تضاعف الوجوب يؤكّد اشتراط الإخلاص فلا ريب أن الوجوب الحاصل بالإجارة توصلي لا يشترط في حصول ما وجب به قصد القربة مع أن غرض المستدلّ منافاة قصد أخذ المال لتحقّق الإخلاص في العمل لا لاعتباره في وجوبه " أي أنه إنما يُتعقّل تأكّد الإخلاص في ما لو كان كلّ من الوجوبين تعبدياً لا كون أحدهما توصّلياً فإنه لا يكون حينئذ مؤكّداً للإخلاص .
 والثاني : أنه " إن أريد أنه يؤكّد تحقّق الإخلاص من العامل فهو مخالف للواقع قطعاً لأن ما لا يترتب عليه أجر دنيوي أخلص مما يترتب عليه ذلك بحكم الوجدان " أي أن العبادة التي يؤتى بها من دون افتراض أجر مادي تكون أكثر إخلاصاً مما يؤتى بها بذلك الداعي .
 وما يقال في مقام التعليق على كلام الشيخ الأنصاري هو أن كلام الشيخ صاحب الجواهر وإن كان يُحتمل فيه ما ذُكر من الاحتمالين إلا أن الظاهر أن مقصوده أن الوجوب الثاني الحاصل بالإجارة حتى لو كان توصّلياً فهو على أية حال وجوب والوجوب يدعو إلى متعلّقه الذي هو العبادة في محلّ الكلام لأن المفروض أن الإجارة وقعت على العبادة والمشترط في العبادة هو الإخلاص فالوجوب إذاً يدعو إلى الإخلاص ومن هذه الحيثية يكون مؤكداً للإخلاص المعتبر في العبادة فقوله : (إن تضاعف الوجوب يؤكد الإخلاص) إنما هو باعتبار أن الوجوب الحاصل بالإجارة يدعو الأجير إلى أن يأتي بالعمل المستأجر عليه الذي هو بحسب الفرض عبادة وهي مشروطة بالإخلاص .. إذاً هو بالتالي يدعو إلى الإخلاص فيكون مؤكداً للإخلاص الذي يدعو إليه الوجوب الأول .. وعلى هذا فلا تضرّ توصلية الوجوب الثاني في ما نحن فيه .
 ولكن يبقى كلام الشيخ صاحب الجواهر (قده) على حاله وهو أنه هل يمكن أن ندفع الإشكال بهذه الدعوى أعني دعوى أن تضاعف الوجوب لا ينافي الإخلاص بل يؤكّده الذي بناءً عليه يُلتزم بتصحيح الإجارة وأنها لا تنافي العبادة ، أم لا ؟
 


[1] المكاسب / االشيخ الأنصاري مج2 ص127 .