مقدمة المركز

طباعة

aalulbayt


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبيّنا الاَكرم المبعوث رحمةً للعالمين محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين .
حقوق البشر لافتة عريضة ترفع هنا أو هناك ، يُزايد عليها المزايدون أحياناً ، ويحاول دعاة المذاهب الاجتماعية اتخاذها وسيلة لترويج أفكارهم، واغراء الجماهير للاصطفاف إلى جانب دعواتهم .
لقد أصبحت (لائحة الحقوق) محط اهتمام المؤسسات الدولية ، والمنظمات الاِنسانية ، وأضحى الاهتمام والتسابق على أشدّهما لحشد التأييد (لمنابرهم) الفكرية والثقافية .
وكان الاِسلام سبّاقاً في تشريعاته وفي مبادئه وتعاليمه إلى تقرير تلك الحقوق وإيلائها الاهتمام الخاص كما في نصوص القرآن الكريم ، والسُنّة المطهرة . وكانت سيرة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أهل بيته الطاهرين عليهم السلام تطبيقاً حيّاً لما شرّعه الاِسلام في هذا المجال ، سواء فيما يتعلّق بحقوق الاِنسان فرداً ، أو ضمن المجتمع .
أراد الاِسلام للاِنسان أن ينعم بالحياة الوادعة ، ويعرف ما له وما عليه ؛ ليكون في حالة انسجام وتوادّ مع أفراد جنسه ، كما أراد له أن يعيش موفورَ الكرامة ، محفوظ النفس والعرض والمال لا يتعرض إليه أحد بسوء أو
( 6 )
بظلم. ولكن قوى الكفر العالمي والصليبيّة الحاقدة ـ ومن يدور في فلكهماـ حاولت طمس حقائق الاِسلام ، والتعتيم على مبادئه الخيّرة ، وخاصةً عنايته بحقوق الاِنسان فرداً ومجتمعاً .
ومن هنا تأتي أهمية اظهار حقائق الاِسلام وكشف أباطيل خصومه .
ومركزنا إذ يُصدر هذا الكتاب «الحقوق الاجتماعية في الاِسلام» ضمن سلسلته ، فهو ينطلق من أهدافه الخيّرة في نشر العلم ، والتعريف بمبادئ الاِسلام وحقائقه الناصعة .
ولتحقيق هذا الهدف ، فقد عُني هذا البحث بتأصيل ذلك من خلال نصوص القرآن الكريم والسُنّة النبويّة المطهّرة وما جاء عن أهل البيت الطاهرين عليهم السلام وبخاصة (رسالة الحقوق) للاِمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام التي تعدُّ لائحة قانونية ، ووثيقة تاريخية قيمة .
آملين رفد المكتبة الاِسلامية بكلِّ ما هو نافع ومفيد في حقول المعرفة الاِسلامية .

ومن الله التوفيق

مركز الرسالة


( 7 )

"1"

المقدِّمة


تحتل مسألة حقوق الاِنسان ـ يوماً بعد آخر ـ أهميةً متزايدة في العالَم المعاصر . وقد ظهرت منظمات عالميّة أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوق الاِنسان وفق منظورها الخاص ، ووفق أهداف ومصالح الجهات الممولة لها ، وقد اتخذت قضية حقوق الاِنسان في غالب الاَحيان سلاحاً سياسياً تستخدمه الدول المستكبرة ضد الدول الاِسلامية التي ترفض الدوران في فلكها والخضوع لهيمنتها . وأخذت هذه القوى تُسخِّر ـ لهذه الغاية ـ الاَقلام المأجورة ، وتستخدم دور النشر والطباعة لترويج بضاعتها هذه لاَغراض تسويقية . كذلك أخذ زعماء وعلماء الدّيانات المحرّفة ، يستغلون هذه القضية الحساسة خدمةً لاَغراضهم التبشيرية ، ويظهرون دياناتهم بمظهر المدافع الحقيقي عن حقوق الاِنسان ، ويصدّرون في كل عام عشرات الكتب والنشرات التي تظهر اهتمامهم الموهوم بهذه المسألة، والايحاء بأنّهم أوّل من نادى بحقوق الاِنسان ، وصاغ بنودها .
وللاَسف الشديد أنّ الكتب والاِصدارات الاِسلامية المؤلفة في هذا الحقل ، من القلّة بحيث لا تتناسب مع تزايد الاهتمام العالمي بحقوق البشر .
وكمساهمة متواضعة قمنا بهذه الدراسة المختصرة ، لغرض الاِشارة الاِجمالية إلى أنَّ مدرسة الاِسلام قد سبقت المدارس الاَُخرى في إيلاء هذه القضية ماتستحق . خصوصاً وإنّ الرَّسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أعلن عن المساواة بين البشر ـ وهو حق من أكبر الحقوق الاَساسية للاِنسان في كلِّ
( 8 )
زمان ومكان ـ وذلك في خطبته التاريخيّة في حجة الوداع ، قبل أسابيع قليلة من رحيله في السنة العاشرة للهجرة . أي قبل أكثر من أربعة عشر قرناً !
(عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيّام التّشريق خطبة الوداع فقال : «يا أيُّها النّاس إنّ ربّكم واحدٌ ، وإنّ أباكم واحدٌ، ونبيكم واحدٌ ، ولا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى..») (1). وعنه أيضاً : «الناس سواء كاسنان المشط» (2).
وبذلك أعلن صلى الله عليه وآله وسلم مبدأ المساواة التامة بين جميع أفراد النوع الاِنساني بصرف النظر عن اللغة واللَّون والجنس ، وهذا المبدأ لم ينبس به أحد قبل ظهور الاِسلام ؛ لاَن الناس كانوا يعتدّون بأجناسهم إلى أقصى حدّ ، حتى كبار الفلاسفة منهم .
ألم يقل افلاطون : اني لاَشكر الله على ثلاث: أن خلقني إنساناً ولم يخلقني حيواناً ، وأن جعلني يونانياً ولم يجعلني من جنس آخر ، وأن أوجدني في عهد سقراط (3)!
بينما نجد العكس تماماً عند أول الناس اسلاماً الاِمام علي عليه السلام ، كما جاء في عهده لمالك الاَشتر ـ الذي يُعد وثيقة تاريخية في غاية الاَهمية ـ : «وأشْعِر قلبك الرَّحمة للرَّعيَّة.. ولا تكُونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنمُ أكلهُمْ ،
____________
(1) كنز العمال 3 : 93 | 5655 و 3 : 699 | 8502 قريب منه .
(2) كنز العمال 9 : 38 | 24822 .
(3) أُنظر : كتاب ، مع الاَنبياء في القرآن الكريم ، لعفيف عبدالفتاح طبّارة 417 ، ط16 ، دار العلم للملايين ـ بيروت .

( 9 )
فإنَّهُم صِنفانِ : إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ ، أو نَظيرٌ لَكَ في الخَلْقِ» (1).
إنّ غاية الاِسلام الاَساسية هي إقامة مجتمع سليم ، مبني على أساس العدالة . ويتطلب هذا التوجه ـ بطبيعة الحال ـ الاهتمام برعاية الحقوق المتبادلة بين أفراد المجتمع .
والملاحظ أن القرآن الكريم في تعبيره عن أداء حق الغير أو حق الجماعة ، تارة يعبر عنه بطلب الاِحسان ، كما في قوله تعالى : ( وأَحْسِن كَما أحْسَنَ اللهُ إليكَ ) (القصص 28 : 77) ، وتارة أُخرى يعبر عنه في صورة أمر آخر كقوله تعالى : ( وَأَوفوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيم ذلكَ خيرٌ وَأحسَنُ تَأوِيلاً ) (الاِسراء 17 : 35) ، وقد يعبر عن ذلك في صورة النهي كقوله تعالى : ( وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إلى الحُكَّامِ لتأكُلوا فَرِيقاً مِنْ أموالِ النَّاسِ بالاِثمِ وأنتم تَعْلَمُونَ ) (البقرة 2 : 188) .
كلّ ذلك من أجل أن يسود العدل ، وتصان حقوق الآخرين من المصادرة . وبذلك نجد القرآن الكريم قد عُني بالجانب الاجتماعي من حياة الجماعة ، عناية لا تقل عن عنايته بصلة الفرد بربّه ، ولا يصور الفرد المسلم إنساناً منعزلاً في خلوة ، أو راهباً في صومعة ، بل يصوره دائماً في جماعة تترتب عليهم حقوق متبادلة .
وجاء في رسالة الحقوق ، المرّوية عن الاِمام زين العابدين عليه السلام ـ والتي يمكن اعتبارها نموذجاً فذّاً في هذا الشأن ـ ما يكشف لنا بجلاء عن نظرة الاِسلام الشمولية للحقوق التي لا تقتصر على بيان حقوق الاِنسان ، بل
____________
(1) نهج البلاغة ـ ضبط الدكتور صبحي الصالح ـ ص427 انتشارات هجرت ط1395 هـ.

( 10 )
تثبت الحق لغير الاِنسان أيضاً .
كما أشارت هذه الرسالة ـ في البداية ـ إلى أنّ حقوق الناس ناشئة عن حقوق الله تعالى ، وهو سبحانه قد جعل حقوق عباده مقدمة على حقوقه.
وقد تناولنا في بحثنا الوجيز هذا ، الحقوق الآتية في ثلاثة فصول وهي:
الفصل الاَول : (الحقوق العامة للاِنسان) : وقد بحثنا فيه : حق الحياة ، وحقَّ الكرامة ، وحق التربية والتعليم ، وحق التفكير ، وحق التعبير ، وحق التمتع بالاَمن ، وحق حرية الاعتقاد ، وحق المساواة ، وحق الاِقامة والسكن والهجرة ، وأيضاً حق التمتع بالعدل .
الفصل الثاني : (الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة القانونية): واشتمل البحث فيه على : حق اليتيم ، وحق الاَسير ، وحقوق الفقراء والمساكين .
الفصل الثالث : (الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الاخلاقية) : واشتمل هذا الفصل على : حق المعلّم والمتعلّم، وحقّ الاَخ والصديق ، وحق الجليس ، وحق الناصح والمستنصح ، ثم تناولنا حق الجوار بصورة أكثر تفصيلاً ؛ لاَهميته الاجتماعية .
ثم جعلنا محور البحث يدور على الحقوق العائلية ، التي تحظى بأهمية اجتماعية كبيرة ، باعتبار الاَسرة هي اللَّبنة الاَساسية في البناء الاجتماعي . وقسّمنا هذه الحقوق على ثلاثة أقسام :
حق الاَبوين .
حق الاَولاد .

( 11 )
الحقوق المتبادلة بين الزوجين .
ولابدّ من الاِشارة إلى أننا قد اتّبعنا في هذه الدِّراسة المنهج (النقلي) الذي يعتمد على النصوص الدينية من آيات وروايات وبالاَخص ما ورد عن أهل بيت الرسول الاَعظم عليهم السلام لكونهم الثقل الثاني الذي أوصى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم التمسك به .

ومن الله نستمد العون والتسديد .

( 12 )

( 13 )

"2"

الـفـصـل الاَول


الحقوق العامة

( 14 )

( 15 )


"3"

المبحث الاَول
أنواع الحقوق العامة


هناك مجموعة من الحقوق العامة تتعلق بحقّ الفرد كإنسان يؤكد الاِسلام على مراعاتها ، ما لم تتصادم بحق أو حقوق أُخرى ، وهي على أنواع ، نذكر أهمها ، وهي :
"4"

أولاً : حق الحياة :

وهو من أكثر الحقوق طبيعيّة وأولويّة ، قال تعالى : (ولا تقتلوا أنفسكم إنَّ الله كان بكم رحيماً ) (النساء 4 : 29) ، وقال تعالى : ( من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الاَرض فكأنّما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً ) (المائدة 5 : 32) .
والاِسلام يراعي حق الحياة منذ بدء ظهور النطفة وهي مادة الخلقة ، فلا يبيح الشرع المقدس قتلها ، ومن فعل ذلك ترتب عليه جزاء مادي.. فعن اسحاق بن عمّار ، قال : قلت لاَبي الحسن عليه السلام : المرأة تخاف الحبل فتشرب الدّواء فتلقي ما في بطنها ؟ قال : «لا» ، فقلت : إنَّما هو نطفة ! فقال: «إن أوَّل ما يُخلق نطفة» (1).

____________
(1) من لا يحضره الفقيه 4 : 126 | 445 ، وعنه في الوسائل 29 : 25 | 1 باب 7 من أبواب القصاص في النفس .

( 16 )
وعليه ، فقد احتل هذا الحق مكانةً مهمة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، يبدو ذلك جلياً لمن يطّلع على الروايات الواردة في باب القصاص في المجاميع الحديثية، وسوف يجد نظرة أرحب وأعمق لهذا الحق ، معتبرةً أن كل تسبيب أو مباشرة في قتل نطفة ، أو إزهاق نفس محترمة ، أو إراقة الدِّماء ، يعد انتهاكاً لحق الاِنسان في الحياة ، ويستلزم ذلك عقوبة في الدنيا وعاقبة وخيمة يوم الجزاء .
ومن الشواهد النقلية الدالة على حرمة التسبيب في ذلك ، ما رواه محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «إنَّ الرَّجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم ، فيقول : والله ما قتلت ولا شركت في دم ، فيقال : بلى ذكرت عبدي فلاناً ، فترقى ذلك (1)حتى قُتل ، فأصابك من دمه» (2). كما وردت روايات في حرمة الانتحار مفادها : ان المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلاّ أنّه لا يقتل نفسه . ومن يقتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها .
وفي هذا الاطار هناك من أُصيب بقصر النظر ، أو بعمى في البصيرة ، يطعن ويشكك في التزام شيعة أهل البيت عليهم السلام بمبدأ التقية ، ويجهل أو يتجاهل الحكمة العميقة من وراء تبني هذا المبدأ والمتمثلة اساساً في الحيلولة دون إراقة الدِّماء . يقول المحقق الحلي : اذا اكرهه على القتل ، فالقصاص على المباشر دون الآخر . وفي رواية علي بن رئاب ، يحبس
____________
(1) فترقى ذلك : أي : رفع ، والحديث ناظر إلى وجوب كتمان السّر عند احتمال الضرر في افشائه .
(2) وسائل الشيعة 29 : 17 | 1 باب 2 من أبواب القصاص في النفس .

( 17 )
الآمر بقتله حتى يموت ، هذا اذا كان المقهور بالغاً عاقلاً (1).
فللتقية حدود وشروط يجب ان تقف عندها ، وخصوصاً إذا وصل الاَمر إلى حد يعرّض حياة الآخرين إلى الخطر . وفي الحديث : «إنما جعلت التقية ليحقن بها الدمُ ، فاذا بلغ الدَّم فليس تقية» (2).
"5"

ثانياً : حق الكرامة :

إهتم الاِسلام ـ أيضاً ـ بحق آخر لا يقلُ أهمية عن حق الحياة ألا وهو حق الكرامة .
ويراد بالكرامة : امتلاك الاِنسان بما هو إنسان للشرف والعزّة والتوقير . فلا يجوز انتهاك حرمته وامتهان كرامته ، فالاِنسان مخلوق مُكرَّم ، قد فضله الله تعالى على كثير من خلقه.. ( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممَّن خلقنا تفضيلاً)(الاِسراء 17: 70) ، وهي كرامة طبيعية متّع الله تعالى كل أفراد الاِنسان بها . وهناك كرامة إلـهية تختص بمن اتقى الله تعالى حق تقاته : (يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم ً) (الحجرات 49 : 13) .
وكان أئمة أهل البيت عليهم السلام يراعون كرامة الناس من أن تمس ، حتى انهم طلبوا من أرباب الحوائج أن يكتبوا حوائجهم حرصاً على صون ماء وجوههم . وهناك رواية نبوية تتحدث عن كرامة الاِنسان التي لا يجوز
____________
(1) شرائع الاِسلام ـ كتاب القصاص 4 : 975 ، طبع دار الهدى ـ قم المقدسة ط 3 .
(2) الكافي 2 : 228 | 16 باب التقية .

( 18 )
المساس بها عن طريق سَّبّه أو تقبيح وجهه ، وما إلى ذلك . ولكن هذه الرواية حُرّفت بحذف أولها ، فتغيرت دلالتها إلى ما فيه التجسيم لله تعالى، وان كان ظاهرها يتضمن معاني التكريم للاِنسان .
لقد سعى الاِمام علي بن موسى الرضا عليه السلام إلى قشع العتمة التي تُخيم على عقول بعض الناس وواجه السذاجة الفكرية وفضح التحريف الذي يحصل في المنابع المعرفية .
ينقل المحدّث القمي : عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرِّضا عليه السلام : يا بن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله خلق آدم على صورته ! فقال : «قاتلهم الله ، لقد حذفوا أول الحديث ؛ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ برجلين يتسابان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك ، فقال : يا عبد الله لا تقل هذا لاَخيك ، فانَّ الله عزَّ وجلّ خلق آدم على صورته» (1).
ولعلّ من هذا الباب نهي الاِمام علي عليه السلام عن أن يسيء ذووه معاملة قاتله ابن ملجم ، أو يمثل به بعد اجراء حكم الله فيه ، بقوله : «.. ولا يُمثّلَ بالرَّجل ، فانِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إيَّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور» (2) .
"6"

ثالثاً : حق التعليم :

إنَّ العلم حياة للنفس الاِنسانية ، وحرمانها منه يعني انتقاص وامتهان
____________
(1) سفينة البحار 2 : 55 ـ دار المرتضى ـ بيروت .
(2) نهج البلاغة ـ شرح الشيخ محمد عبده ـ : 594 . دار التعارف للمطبوعات طبعة 1402 هـ .

( 19 )
كرامتها . ومما يؤكد حق التعلم والتعليم في الاِسلام مافعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسرى بدر ، إذ جعل فدية الاَسير تعليم عشرة من أبناء المسلمين .
وقد أشار الاِمام علي عليه السلام إلى حق التعلم والتعليم في معرض تفسيره لقوله تعالى : ( وإذ أخذَ اللهُ ميثاق الذينَ أُوتوا الكِتابَ لتُبينُنَّهُ للنَّاس ولا تكتُمونَهُ فنبذوهُ وراءَ ظُهورهم ...) (آل عمران 3 : 187) .
فقال : «ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم ، حتّى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهّال» (1).
وقال الاِمام الصادق عليه السلام في هذا الصَّدد : «إن العالم الكاتم علمه يُبْعَث أنتن أهل القيامة ريحاً ، تلعنه كلّ دابّة حتى دوابّ الاَرض الصغار» (2).
مما تقدم ، يمكن القول ان الاَئمة عليهم السلام يرفضون مبدئياً احتكار العلم، ويؤكدون ضرورة بذله لطالبيه . أما في وقتنا الحاضر فتقوم دول ومؤسسات تدّعي التحضر باحتكار العلم وحجبه عن الآخرين أو المتاجرة ببيعه بأغلى الاثمان أو استخدامه كسلاح سياسي لتحقيق مآرب خاصة . والحال ان العلم هبة إلهية ونعمة شرَّف الله تعالى بها الاِنسان على باقي المخلوقات ، وقد أوجب الله تعالى على العلم زكاة ، وزكاته نشره . وقد بين الاِمام السجاد عليه السلام في رسالة الحقوق ، حق المتعلم على المعلّم بقوله :
«أمّا حق رعيّتك بالعلم ، فأنْ تعلم أنّ الله عزّ وجلّ إنّما جعلك قيّماً لهم
____________
(1) بحار الانوار 2 : 23 ـ مؤسسة الوفاء ـ بيروت ط3 .
(2) بحار الانوار 2 : 72 .

( 20 )
فيما آتاك الله من العلم ، وفتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم النّاس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم ، زادك الله من فضله ، وإن أنت منعت النّاس علمك وخرقت بهم عند طلبهم العلم ، كان حقّاً على الله عزّ وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلّك» (1).
وبالمقابل حدّد حق المعلّم على المتعلم بقوله : «حق سائسك بالعلم التّعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والاِقبال عليه ، وأن لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يُجيب ، ولا تُحدّث في مجلسه أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذُكر بسوء ، وأن تستر عيوبه ، وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للنّاس» (2).
"7"

رابعاً : حق التفكير والتعبير :

لا يخفى بأنّ الاِسلام جعل التفكير فريضة إسلامية . ومن يتدبر القرآن الكريم ، يجد آيات قد بلغت العشرات ، تأمر بالتفكر والتعقل في الانفُس والآفاق ، فلم يضع الاِسلام القيود أمام حركة الفكر السليم الذي ينشد الحقيقة ، ويُثير الشك كمقدمة للوصول إلى اليقين . وقد أطلق النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم الفكر من عقال الجاهلية وجعله يتجاوز المحسوس بانطلاقه إلى عوالم الغيب إلى مال لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر .
ولقد آمنت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بحرية التفكير والتعبير ؛ لغرض
____________
(1) بحار الانوار 2 : 62 .
(2) شرح رسالة الحقوق ـ حسن السيد علي القبانچي 1 : 409 ـ مؤسسة اسماعيليان ط2 .

( 21 )
الوصول إلى الحق والحقيقة ، حيث عقدوا المناظرات مع الخصوم ، وشكّلوا الحلقات التي برّزت آراءهم في شتى المجالات . فعلى سبيل المثال قام الاِمامان الباقر والصادق عليهما السلام ، بدور فكري بارز في النصف الاَول من القرن الثاني الهجري ، وكانت فترة استقرار نسبي وانفتاح ثقافي ، فعقدوا المناظرات مع العلمانيين من ملاحدة وزنادقة وكذلك مع علماء المذاهب الاِسلامية .
ولعل من أجلى الشواهد على إيمان الاَئمة عليهم السلام بحق التفكير والتعبير ، هو مناظراتهم مع الخوارج الذين كانوا من أشد الفرق عداءاً للاِمام علي عليه السلام وأهل بيته الاَطهار ، وقد شكّل الخوارج تياراً فكرياً وسياسياً معارضاً . فقد حاججهم الاِمام علي عليه السلام بنفسه قبل معركة النهروان عندما أطلقوا مقولتهم المعروفة: (لا حكم إلا لله) ، فقد أقرَّ الاِمام علي عليه السلام بأنها كلمة حق ولكن أريد منها الباطل وطمس الحقيقة المتمثلة بأن علياً عليه السلام إمام حق . ولقد منحهم الاِمام حرية التعبير عمّا في ضمائرهم ما لم يؤدِ ذلك إلى إراقة الدماء ، وحينئذ يسقطون حقهم الطبيعي بالتعبير لاحتكامهم إلى السيف والعنف .
والملاحظ ان الاَئمة عليهم السلام واجهوا خصومهم باسلوب الحوار العقلاني ، وتكلموا معهم بالتي هي أحسن ، ولكن خصومهم كانوا يستعملون اسلوباً يغلب عليه طابع التحدي . ينقل المؤرخ محمد بن جرير الطبري (ت|310 هـ) : (إنّ عليّاً لما دخل الكوفة دخلها ومعه كثير من الخوارج ، وتخلّف منهم بالنّخيلة وغيرها خلق كثير لم يدخلوها ، فدخل حرقوص ابن زهير السّعدي وزرعة ابن البرج الطائي ـ وهما من رؤوس الخوارج ـ على عليّ عليه السلام ، فقال له حرقوص : تُب من خطيئتك ، واخرج بنا إلى
( 22 )
معاوية نجاهده ، فقال له عليّ عليه السلام : «إني كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم ، ثم الآن تجعلونها ذنباً»!
فقال زرعة : أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرّجال لاَقتلنّك ، أطلب بذلك وجه الله ورضوانه !! فقال له عليّ عليه السلام : «بؤساً لك ما أشقاك ! كأنّي بك قتيلاً تسفي عليك الرّياح» ! قال زرعة : وددت أنّه كان ذلك (1).
وبعد ذلك اغلق الخوارج باب الحوار فقتلوا (عبدالله بن خبّاب) وكان يحمل مصحفاً في عنقه ! . وعندئذٍ اضطُر الاِمام علي عليه السلام إلى استخدام القوة معهم ، لمروقهم عن الحق .
"8"

خامساً : حق التمتع بالاَمن :

لكلِّ إنسان سوي حق طبيعي في التمتع بالاَمن ، فلا يجوز لاَي كان تعكير صفو حياته ، وجعله أسير الحزن والاَسى من خلال التهديد والوعيد بالاعتداء على حياته أو عرضه أو ماله .
ويتأكد حق الاَمان إذا أمّن الاِنسان إنساناً آخر بموجب ميثاق أو عهد ، وقد أوجب القرآن الكريم على المسلمين احترام مواثيق الاَمان حتى مع الكافرين كما في قوله تعالى : (... فإن تولّوا فخُذُوهم واقتُلُوهُم حيثُ وجدتُّموهُم ولا تَتَّخذُوا مِنُهم وليّاً ولا نصيراً * إلاَّ الَّذينَ يصلُونَ إلى قوم بينكُمْ وبينَهُم ميثاقٌ..)(النساء 4 : 89 ـ 90) .
والنبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى رعاية هذا الحق الاِنساني العام وقال في
____________
(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 2 : 268 ـ دار احياء التراث العربي ط2 .

( 23 )
هذا السياق : «من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنَّة ، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً» (1).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم : «.. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذّمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على سواهم»(2).
وقد سُئل الاِمام الصادق عليه السلام عن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «يسعى بذّمتهم أدناهم» فقال : «لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين ، فأشرف رجلٌ منهم ، فقال : أعطوني الاَمان حتى ألقى صاحبكم أناظره ، فأعطاه أدناهم الاَمان ، وجب على أفضلهم الوفاء به» (3).
وقد أكد الاِمام علي عليه السلام هذا التوجه النبوي ، وضمنه عهده المعروف لمالك الاَشتر ، وجاء فيه : «.. وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذِمَّة ، فَحُطْ عَهدَكَ بالوفاءِ ، وارع ذِمَّتكَ بالاَمانةِ..» (4).
إنّ الاِسلام وفّر ـ في الواقع ـ الاَمان في مجتمعه وهيأ فيه أجواء الاطمئنان للمعاهدين ، وأوجب الوفاء بعهدهم إلى المدّة المتفق عليها والقابلة للتمديد ، كما وفّره أيضاً للذميين المقيمين في ظل الحكومة الاسلامية من أهل الكتاب ، ولم يُجز التجاوز عليهم بكلمة سوء ، أو بغصب مالٍ ، أو إزهاق نفس ، ومن فعل ذلك فقد ضيّع ذمَّة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

____________
(1) كنز العمال : ح1914 .
(2) بحار الانوار 100 : 46 ـ 47 .
(3) ميزان الحكمة 1 : 354 .
(4) بحار الانوار 100 : 47 .

( 24 )
"9"

سادساً : حق الاعتقاد :

ونقصد من ذلك : إنّ الاِسلام لا يجبر أحداً على اعتناقه ، فلا توجد في القرآن الكريم آية ولا في السُنّة النبوية روايةً تدل على جواز حمل أصحاب الاديان الاَُخرى على تركها والدخول في دين الاِسلام بالجبر والقهر ، وفرض العقيدة الحقّة بالقوة ، بل انّ قوله تعالى ( لا إكراه في الدِّين قد تَّبيَّن الرُّشْدُ من الغَيّ..) (البقرة 2 : 256) ، دليل واضح على المنع من ذلك .
ومن هنا يظهر وهن الشبهة الغربية القائلة : إن الاِسلام دين انتشر بالسيف !!
كيف ، ولم يجبر المسلمون أحداً من أهل الكتاب على اعتناق عقيدتهم ؟ والقرآن يدعو المسلمين إلى محاورتهم بالتي هي أحسن .
لقد سلك الاَئمة الاطهار عليهم السلام هذا المسلك وفتحوا حواراً مع الزنادقة والملحدين وأهل الكتاب ، ودافعوا عن العقيدة وأصول الاِسلام بالحجة الدامغة والمنطق الرَّصين ، وكشاهد تاريخي على ذلك : احتجاج الاِمام محمد الباقر عليه السلام على عبدالله بن معمر الليثي في المتعة ، فقد ورد في كشف الغمة عن الآبي في كتاب نثر الدرر : ان الليثي قال لاَبي جعفر عليه السلام : بلغني انك تفتي في المتعة ؟ فقال عليه السلام : «أحلّها الله في كتابه ، وسنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعمل بها أصحابه» . فقال عبدالله الليثي : فقد نهى عنها عمر ، قال عليه السلام : «فأنت على قول صاحبك ، وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » ، قال عبدالله : فيسرك ان نساءك فعلن ذلك ؟ قال أبو جعفر عليه السلام «وما ذكر النساء
( 25 )
يا أنوك (1)؟ إن الذي أحلّها في كتابه وأباحها لعباده أغير منك وممن نهى عنها تكلفاً ، بل ويسرك ان بعض حرمك تحت حائك من حاكة يثرب نكاحاً» ؟ ، قال الليثي : لا ، قال عليه السلام «فلمَ تحرّم ما أحلّ الله» ؟! قال : لا أحرم، ولكن الحائك ما هو لي بكفو . قال عليه السلام «فإنَّ الله ارتضى عمله ، ورغب فيه ، وزوجه حوراً ، أفترغب عمن رغب الله فيه ، وتستنكف ممن هو كفو لحور العين كبراً وعتواً» ؟ فضحك عبدالله ، وقال : ما أحسب صدوركم إلاّ منابت أشجار العلم ، فصار لكم ثمره وللناس ورقه (2).
"10"

سابعاً : حق المساواة وحق التمتع بالعدل :

لقد أعلن القرآن الكريم ان الناس متساوون جميعاً في أصل الخلقة ، قال تعالى : ( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكُم عند الله أتقاكُم..) (الحجرات 49 : 13) فقضى بذلك على عبودية البشر للبشر ، واعتبرهم جميعاً مخلوقات لله تعالى ، وبذلك وضع صمّام الاَمان على كل نزعةٍ نحو الطغيان على أساس العرق أو اللّون أو اللِّسان . وأوجد شعوراً بالمساواة بين الحاكم والمحكوم ، والغني والفقير ، وبين القوي والضعيف ، وأصبح مقياس الكرامة والفضل : التقوى والعمل الصالح .
إنّ الاعتقاد بمساواة البشر شرط لابدَّ منه لقيام العدل الذي جعله القرآن الكريم غاية النبوات ، قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد 57 : 25) ، وكيف
____________
(1) الاَنوك : الاَحمق .
(2) كشف الغمة ، للإربلّي

( 26 )
يقام العدل بين الجماعات إذا كانوا يعتقدون أنهم طبقات متمايزة أو أُسر متفاضلة ؟ وقد مرَّ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أول من أعلن مبدأ المساواة في حجة الوداع ، وكان يساوي بين المسلمين في العطاء .
ولقد سار الاِمام علي عليه السلام ـ عندما استلم دفة الخلافة ـ على خطى المنهج النبوي ، فساوى بين الناس في التعامل وفي العطاء ، وكان يأخذ كأحدهم ، وقصته مع أخيه عقيل مشهورة حين طلب منه زيادة في عطائه، فقال له : «إصبر حتى يخرج عطائي» فلم يقبل ، فأبى أن يعطيه أكثر من عطائه . وبلغ من تمسكه بهذا الحق حدّاً ، بحيث أنه وجد في مال جاءه من اصفهان رغيفاً فقسمه سبعة أجزاء كما قسم بيت المال ، وجعل على كل جزء جزاً(1) .

____________
(1) راجع : كتاب في رحاب أئمة أهل البيت ، السيد محسن الامين 1 : 26 ـ 73 ، دار التعارف للمطبوعات ـ طبعة عام 1400 هـ .

( 27 )

"11"

المبحث الثاني
الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة القانونية


وضع الاِسلام في دائرة اهتماماته حقوق الضعفاء من الناس الذين لا يمتلكون حولاً ولا قوة :
كاليتيم الذي لم يبلغ الحلم ، وفقد والديه ، أو أحدهما .
والاَسير الذي وقع في الاَسر وليس له من الاَمر شيء ، فيكون تحت رحمة آسريه .
والفقير الذي لا يملك قوت سنته .
والمسكين الذي أسكنه الفقر والفاقة . كلّ هؤلاء وضعهم الاِسلام في دائرة اهتمامه وأوجب رعاية حقوقهم .
لقد وجه القرآن الكريم سهام نقده للمجتمع الجاهلي ؛ لاستضعافه اليتيم وعدم إكرامه ، والاعتداء على أمواله ، قال تعالى : (... كلا بل لا تُكرمون اليتيم ) (الفجر 89 : 17) ، وفي آية أُخرى نجد الوعيد الشديد للذين يعتدون على أموال اليتامى ظلماً وعدواناً ، قال تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنَّما يأكُلون في بُطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) (النساء 4 : 10) .

( 28 )
ومما لاشك فيه ان عدم العناية بالايتام سوف يولّد في نفوسهم عُقداً قد تترك آثاراً تدميرية على المجتمع، ولاَجل ذلك نجد اهتمام الاِمام علي عليه السلام قد انصبَّ على الاَيتام ، بحيث ضمّن وصيته قبل الموت فقرةً يقول فيها : «الله الله في الاَيتام فلا تغبّو أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله عزّ وجل له بذلك الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار» (1). فعن عبيد بن زرارة ، قال : سألتُ أبا عبدالله عليه السلام عن الكبائر ، فقال : «منها أكل مال اليتيم ظلماً» (2) .
ومن جانب آخر أوجب الاِسلام للاَسير حقوقاً كالاِطعام والاِحسان اليه، وان كان يراد من الغد قتله . وأنَّ علياً عليه السلام كان يطعم من خُلِّد في السّجن من بيت مال المسلمين (3). ولما ضربه اللَّعين ابن ملجم المرادي، أوصى الحسن والحسين عليهما السلام : ان يطعموه ويسقوه ويُحسنوا إساره (4).
وتجدر الاشارة إلى أنَّ الآية الكريمة : ( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً..) (الاِنسان 76 : 8) . قد نزلت في حقّ أهل البيت عليهم السلام : كان عند فاطمة عليها السلام شعير فجعلوه عصيدة ، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم ، جاء مسكين ، فقال المسكين: رحمكم الله ، فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثاً ، فلم يلبث أن جاء يتيم ، فقال اليتيم : رحمكم الله ، فقام علي عليه السلام فأعطاه الثلث،
____________
(1) فروع الكافي 7 : 51 ـ دارالتعارف للمطبوعات ط3 .
(2) بحار الانوار 75 : 10 .
(3) وسائل الشيعة 11 : 69 | 2 باب 32 من أبواب جهاد العدو .
(4) مستدرك الوسائل 2 : 257 .

( 29 )
ثم جاء أسير ، فقال الاسير: رحمكم الله ، فأعطاه علي عليه السلام الثلث وما ذاقوها ، فأنزل الله تعالى الآية (1).
وتذهب مدرسة أهل البيت بعيداً في رعاية حقوق الضعفاء ، فزيادة على توصياتها بضرورة إعطائهم الحقوق المالية التي منحها الله تعالى لهم ، تدعو إلى الاَخذ بنظر الاعتبار حقوقهم المعنوية ، كحقّهم في الاحترام والتوقير ، ولا يخفى ان تحقير الفقير والاَسير وكذلك اليتيم سوف يشعرهم بالدّونية ، يولّد في أعماق نفوسهم مشاعر الحزن والاَسى ، ويدفعهم ذلك إلى الانتقام آجلاً أو عاجلاً .
وإدراكاً من الاَئمة عليهم السلام للعواقب المترتبة على الاِساءة إلى كرامة الضعفاء ، جهدوا على استئصال كل ما من شأنه المس بكرامتهم ، واستعملوا الوازع الديني كوسيلة أساسية ، من خلال التذكير بسخط الله تعالى وغضبه على كل من انتقص من الضعيف وطعن في كرامته ، قال أمير المؤمنين عليه السلام موصياً : «لا تحقّروا ضعفاء إخوانكم ،فإنه من احتقر مؤمناً لم يجمع الله عزّ وجل بينهما في الجنّة إلاّ أن يتوب» (2)، وقال الاِمام الصادق عليه السلام : «من حقّر مؤمناً مسكيناً ، لم يزل الله حاقراً ماقتاً عليه حتى يرجع عن محقرته إيّاه»(3)، وقال عليه السلام : «من لقي فقيراً مُسلماً فسلَّم عليه خلاف سلامه على الغنيّ ، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان»(4) .

____________
(1) تفسير نور الثقلين 5 : 470 ، أُنظر مجمع البيان 10 : 514 دار احياء التراث العربي ـ بيروت .
(2) بحار الانوار 72 : 42 .
(3) بحار الاَنوار 72 : 52 .
(4) بحار الانوار 72 : 38 .

( 30 )

"12"

المبحث الثالث
الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الاَخلاقية


"13"

أولاً : حق المعلِّم أو الاستاذ :

أوجب الاِسلام لمن يعلِّم الناس حقاً عظيماً يتناسب مع عظمة العلم والمعرفة ، وقد نقل لنا القرآن الكريم رغبة موسى عليه السلام ـ وهو من أولي العزم ـ في طلب العلم ، وكيف صَمّمَ على بلوغ هذا الهدف السامي مهما كانت العوائق ومهما بعد المكان وطال الزمان ، عندما قال : (.. لآ أبرَحُ حتى أبلُغَ مجمعَ البحرينِ أو أمضِيَ حُقُباً ) (الكهف 18 : 60) ، ولما وجد العبد الصالح وضع نفسه موضع المتعلم ، وأعطى لاستاذه حق قيادته وإرشاده ، قائلاً له : ( هل أتَّبِعُكَ على أن تُعلّمنِ ممَّا عُلّمت رُشداً ) (الكهف 18 : 66) ، فإذا نَبهه إلى أمر تنبّه ، وإذا انكشف له الخطأ سارع إلى الاعتذار من استاذه ووعده بالطاعة ، وأعطى بذلك درساً بليغاً في أدب المتعلم مع المعلّم .
وكان النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم يصرح بانه بُعث معلّماً ، ودعا في أحاديث عديدة إلى مراعاة حق العلم والمعلِّم . وتناولت مدرسة أهل البيت عليهم السلام
( 31 )
حقوق المعلم والمتعلم معاً بشيء من التفصيل وحثت على إكرام المعلم وتبجيله ، لكونه مربّي الاَجيال .
تمعّن في هذه السطور التي سطرها يراع زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق ، بعبارات تحمل معاني التقدير والعرفان بالجميل ، فيقول : «حق سائسك بالعلم : التعظيم له ، والتّوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والاقبال عليه ، وأن لا ترفع عليه صوتك ، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتّى يكون هو الذي يجيب ، ولا تحدّث في مجلسه أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء ، وأن تستر عيوبه ، وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للنّاس»(1).
وانطلاقاً من حرص الاِسلام الدائم على انسياب حركة العلم ، وعدم وضع العقبات أمام تقدمه وانتشاره ، طلب من المعلم أن يضع نصب عينه حقوق المتعلّم ، فيسعى إلى ترصين علمه ، واختيار أفضل السُّبل لاِيصال مادته العلمية ، ولا يُنفّر تلاميذه بسوء عشرته .
ومن المعلوم أن الاَئمة عليهم السلام قد اضطلعوا بوظيفة التربية والتعليم واعطوا القدوة الحسنة في هذا المجال ، وخلّفوا تراثاً علمياً يمثل هدىً ونوراً للاجيال . فمن حيث الكفاءة العلمية فهم أهل بيت العصمة ، ومعادن العلم والحكمة ، ومن حيث التعامل الاَخلاقي فهم في القمّة ، بدليل أنّ الطلاّب يقصدونهم من كلِّ حدب وصوب ، ويسكنون لهم كما يسكن الطير إلى عشّه . وكان الاِمام الصادق عليه السلام يشكّل الاُنموذج للمعلم
____________
(1) بحار الانوار 2 : 42 .

( 32 )
الناجح الذي يقدّر العلم حقّ قدره ، وقد جمع إلى علميته الفذّة أخلاقية عالية . قال الحسن بن زياد : سمعتُ أبا حنيفة وقد سُئل عن أفقه من رأيت، قال : جعفر بن محمد . وقال ابن ابي ليلى : ما كنتُ تاركاً قولاً قلته أو قضاءً قضيته لقول أحد إلاّ رجلاً واحداً هو جعفر بن محمد (1). وقال فيه مالك بن أنس ـ أحد أئمة المذاهب الاربعة ـ : كنت أرى جعفر بن محمد . وكان كثير الدعابة والتبسم . فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وآله وسلم اخضرَّ واصفرَّ.. (2) ، وقال مالك أيضاً: ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً.. (3). ثم أشاد بزهده وفضله . وعلى الرغم من كونه يمتاز بشخصية محببة كانت له هيبة وجلالة في قلوب الناس .
روى أبو نعيم في الحلية بسنده عن عمرو بن المقدام ، قال : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنّه من سلالة النبيين (4).
"14"

ثانياً : حق الاَخ :

الاِسلام دين التآخي والتآلف ، يُقدم المثل الصالح في نسج علاقات تقوم على الاُخوّة الصادقة . ويعتبر المقياس الصحيح للاُخوّة هو ذاك المستند إلى الحقوق المتقابلة . فكل إخلال بها سوف ينعكس سلبا على رابطة الإخاء ويحقق علاقة غير سليمة بين الطرفين ، بل مشحونة بروح العداء وتؤدي إلى القطيعة والجفاء . وضرب لنا الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم المثل
____________
(1) في رحاب أئمة أهل البيت 2 : 43 .
(2) الاِمام جعفر الصادق ، المستشار عبدالحليم الجندي : 159 ، طبع القاهرة 1977 م ـ 1397 هـ.
(3) في رحاب أئمة أهل البيت 2 : 31 .
(4) في رحاب أئمة أهل البيت 2 : 31 .

( 33 )
الاعلى في مراعاة حقّ الاِخوان ، كان إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده (1). ولاَخيه الاِمام علي عليه السلام توصية ذهبية في هذا المجال ، يقول فيها عليه السلام : «لا تُضيّعنّ حقّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينَهُ ، فإنَّهُ ليسَ لك بأخٍ مَنْ أضعت حقَّهُ» (2). وللاَخ أيضاً حق الاِكرام ، فمن أكرمه حصل على رضا الله تعالى ، وينبغي قضاء حاجته وعدم تكليفه الطلب عند معرفتها ، ويتوجب المسارعة إلى قضائها . فقضاء حقوق الاِخوان أشرف أعمال المتقين .
وبلغ السمو السلوكي لاَهل العصمة ، في تقدير حق الاَخوّة ، درجة بحيث أن الاِمام الباقر عليه السلام سأل يوماً أحد أصحابه ـ سعيد بن الحسن ـ قائلاً: «أيجيء أحدكم إلى أخيه ، فيدخل يده في كيسه ، فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟» فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر عليه السلام : «فلا شيء إذاً» ، قلت : فالهلاك إذاً ، فقال : «إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد» (3).
وقدم لنا أهل بيت العصمة مقاييس معنوية نحدد من خلالها مدى تعظيم الاشخاص لدين الله تعالى ، ومدى قربهم وبعدهم عنه ، ومن هذه المقاييس حق الاخوان ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : «من عظّم دين الله عظّم حق إخوانه ، ومن استخفَّ بدينه استخفَّ بإخوانه» (4)، وعن الاِمام العسكري عليه السلام : «وأعرف النّاس بحقوق إخوانه ، وأشدّهم قضاءً لها ،
____________
(1) بحار الانوار 16 : 233 .
(2) شرح نهج البلاغة ـ لابن ابي الحديد 16 : 105 .
(3) أُصول الكافي 2 : 181 | 13 باب حقّ المؤمن على أخيه واداء حقّه .
(4) بحار الانوار 74 : 287 .

( 34 )
أعظمهم عند الله شأناً» (1).
"15"

ثالثاً : حق الجليس :

إنَّ للجلوس آداباً وأحكاماً ، وللجليس حقوقاً وعليه التزامات . ولما كان الاِنسان يتأثر بجليسه سلباً أو ايجاباً ، ويكتسب من أخلاقه ، ويكون وسطاً ناقلاً لآراءه ، إهتم الاِسلام بموضوع الجليس ، فقد روي عن الاِمام علي عليه السلام انه كان يقول : «جليس الخير نعمة ، وجليس الشرّ نقمة» (2).
وعلى العموم توصي مدرسة أهل البيت عليهم السلام بمجالسة العلماء ، ومزاحمتهم بالرّكب ، ومجالسة الحلماء لكي يزداد الاِنسان حلماً ، ومجالسة الاَبرار الذين إذا فعلت خيراً حمدوك ، وإنْ أخطأت لم يعنّفوك ، وكذلك مجالسة الحكماء ؛ لما فيها من حياة للعقول ، وشفاء للنّفوس . وأيضاً مجالسة الفقراء ؛ لكي يزداد الاِنسان شكراً . كما نجد نهياً عن مجالسة الاَغنياء الذين أطغاهم الغنى فأصبحوا أمواتاً وهم أحياء ، ونهياً عن مجالسة الجهلاء ، وأهل البدع والاَهواء ، وضرورة الفرار منهم كما يُفر من المجذوم.
ومن الطبيعي أن للجليس الصالح حقوقاً ، يغلب عليها الطابع المعنوي، وهي عبارة عن آداب العشرة الحسنة معه ، أدرجها الاِمام السجاد عليه السلام في رسالة الحقوق وهي : «وحقّ جليسك أن تلين له جانبك ، وتنصفه في مجاراة اللفظ ، ولا تقوم من مجلسك إلاّ بإذنه ، ومن تجلس إليه يجوز له القيام عنك بغير اذنك ، وتنس زلاّته ، وتحفظ خيراته ،
____________
(1) بحار الانوار 75 : 117 .
(2) ميزان الحكمة 2 : 60 .

( 35 )
ولاتسمعه إلاّ خيراً»(1).
"16"

رابعاً : حق الناصح والمستنصح :

ما من إنسان إلاّ ويأتي عليه زمان يلتمس فيه النصح والاِرشاد للخروج من مشكلةٍ وقع فيها ، أو لمشروع يعتزم القيام به ، وعندما يقدّم إليه أحدٌ نصيحة مخلصة ، يُفتح له باب المخرج أو تُكسر له حلقة الضيق ، فيمتلىء قلبه غبطةً وابتهاجاً .
والاِسلام دين التناصح والتشاور ، يعتبر الدّين النصيحة ، ويشجع على بذلها . والبعض من الاَفراد يتحاشى النصيحة ، خوفاً من إغضاب إخوانه ، وخاصة أولئك الذين يسدّون آذانهم عن الآراء والنصائح التي لا تتفق ـ عاجلاً ـ مع مصالحهم وأهوائهم . هذا الموقف ترفضه تعاليم أهل البيت عليهم السلام ، يقول الاِمام علي عليه السلام في كلماته الوعظية للحسن عليه السلام : «أمحَضْ أخاك النَّصيحة ، حسنةً كانت أو قبيحة» (2)، ويقول عليه السلام : «ما أخلصَ المودّةَ مَنْ لم ينصح» (3). والاِسلام يرى أن أفضل الاعمال ـ التي توجب القرب من الحضرة الاِلهية ـ : النصح لله في خلقه .
وقد أشار الاِمام زين العابدين عليه السلام لهذين الحقّين المتقابلين بقوله :
«حقّ المستنصح : أن تؤدّي إليه النّصيحة ، وليكن مذهبك الرّحمة له ، والرّفق به .

____________
(1) شرح رسالة الحقوق ، السيد حسن القبانچي 2 : 151 .
(2) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح : 403 .
(3) ميزان الحكمة 10 : 55 .

( 36 )
وحقُّ النّاصح : أن تلين له جناحك وتُصغي إليه بسمعك ، فإن أتى بالصّواب حمدتَ الله عزّ وجلّ ، وإن لم يوافق رحمته ، ولم تتّهمه ، وعلمت أنَّه أخطأ ، ولم تؤاخذه بذلك إلاّ أن يكون مستحقاً للتّهمة ، فلا تعبأ بشيء من أمره على حال» (1).