تقديم وتمهيد

طباعة
فهرست كتاب من وحي الإسلام ج 1

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام

حول
فلسفة الصيام
الجزء الثاني

 

دار الزهراء

( 5 )

 

تمهيد وتقديم

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


لماذا ندعو وكيف ندعو ؟ .
لماذا نصوم ؟ وكيف ؟.
لماذا نحيي المناسبات الدينية عامة والرمضانية خاصة ؟ .
يأتي الجواب مفصلا على هذه الاسئلة ضمن ما حررته في هذا الكتاب ( فلسفة الصيام في الإسلام ) ورجحت الإبتداء بالحديث حول موضوع الدعاء لكونه روح العبادة بمعناها العام بما فيها الصيام من جهة ولكونه موضع الحاجة ومورد الاهتمام في شهر الصيام بصورة خاصة ـ كما سيتضح حيث يستحب الدعاء عند رؤية الهلال وفي اول ليلة منه كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه كان اذا أهل هلال شهر رمضان المبارك استقبله بهذا الدعاء :
« اللهم أهلّه علينا بالامن والأمان والعافية المجللة والرزق الواسع ودفع الاسقام ، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه اللهم سلمه لنا وتسلمه منا وسلمنا فيه حتى ينقضي عنا شهر رمضان وقد عفوت عنا وغفرت لنا » .
وكذلك يستحب استقباله بالدعاء المروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام :
الحمد لله الذي هدانا بحمده وجعلنا من أهله لنكون لاحسانه من الشاكرين وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين والحمد لله الذي حبانا بدينه واختصنا بملته وسبلنا في سبل احسانه لنسلكها بمنه الى رضوانه حمدا يتقبله


( 6 )


منا ويرضى به عنا .
والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فأبان فضيلته على سائر الشهور بما جعل له من الحرمات الموفورة والفضائل المشهورة فحرم فيه ما احل في غيره إعظاما وهجر فيه المطاعم والمشارب إكراما وجعل له وقتا بينا لا يجيز جل وعز ان يقدم قبله ولا يقبل ان يؤخر عنه الخ .
ويستحب ايضا للصائم عندما يجلس على مائدة افطاره ان يدعو بما روي من الادعية عن أهل البيت عليهم السلام لذلك منه ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام من قوله :
« الحمد لله الذي اعاننا فصمنا ورزقنا فأفطرنا اللهم تقبله منا وأعنا عليه وسلمنا فيه وتسلمه منا في يسر منك وعافية الحمد لله الذي قضى عنا يوما من شهر رمضان » .
وقد ذكر في الاقبال عن زين العابدين عليه السلام انه قال : « من قرأ سورة ( إنا أنزلناه ) عند فطوره وسحوره كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله » وقد روي عن اهل البيت عليهم السلام « أن لكل صائم عند فطوره دعوة مستجابة فإذا كان اول لقمة فقل :
« بسم الله يا واسع المغفرة إغفر لي » .


( 7 )


الأدعية المستحبة في شهر رمضان

 


والادعية المستحبة في شهر رمضان نوعان الاول منها مشترك بين جميع الليالي ومن ابرزها دعاء الافتتاح او مشترك بين جميع الايام بمعنى انه يدعى به في كل يوم ومنها ما هو مشترك بين جميع الليالي والايام كالادعية المستحبة بعد كل صلاة في هذا الشهر المبارك مثل دعاء « يا علي يا عظيم الخ » ومنها ما هو مختص في مقابل المشترك ـ بمعنى انه مختص بليلة معينة او بيوم معين وهذا متمثل بأدعية الليالي والايام حيث ذكر لكل ليلة دعاءؤها الخاص بها ولكل يوم دعاؤه الخاص به وهذا مذكور على وجه التفصيل في كتب الادعية المعروفة وكما يستحب استقبال شهر الله سبحانه ببعض الادعية الواردة عن اهل البيت عليهم السلام كذلك يستحب توديعه بما ورد عنهم عليهم السلام من ذلك ما روي عن الإمام زين العابدين من توديعه بالدعاء المشهور وأوله :
« اللهم يا من لا يرغب في الجزاء ويا من لا يلام على العطاء ويا من لا يكافىء عبده على السواء منّك ابتداء وعفوك تفضل وعقوبتك عدل وقضاؤك خيرة إن أعطيت لم تشب عطاءك بمن وان منعت لم يكن منعك تعديا تشكر من شكرك وانت الهمته شكرك وتكافىء من حمدك وانت علمته حمدك » .
ويقول عليه السلام في هذا الدعاء ايضا : « أنت الذي فتحت لعبادك باباً الى عفوك سميته التوبة وجعلت على ذلك الباب دليلا من وحيك لئلا يضلوا عنه فقلت تبارك اسمك :
( توبوا الى الله توبة نصوحا عسى ربكم ان يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم


( 8 )


جنات تجري من تحتها الانهار يوم لايخزى الله لايخزي اللهُ النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير * ) (1) .
فما عذر من اغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح الباب وإقامة الدليل الخ .
____________
(1) سورة التحريم ، آية : 8 .


( 9 )


كلمة حول موضوع الاستهلال

 


وقبل الشروع بالحديث حول موضوع الدعاء وبيان معناه المراد منه في محل الكلام ودوره التربوي في حياة الإنسان فردا ومجتمعا احب ان اقدم كلمة حول موضوع الاستهلال اشرح فيها بعض الامور الشرعية والاخلاقية التي يطلب وجوبا او استحبابا ان تسود الموقف وتسيطر على الساحة النفسية والاجتماعية من اجل ان نعد انفسنا للقبول والتسجيل في مدرسة شهر رمضان المبارك شهر التقوى والمغفرة والاخلاق والرحمة . فأقول :
ان الاستهلال من الامور المستحبة شرعا والراجحة عقلا لما يترتب عليه من استجلاء الحقيقة ووضوح الامر ليكون المؤمنون على بصيرة من أمر صيامهم فعلا او تركاً ولا يعيشوا الحيرة والشك من هذه الجهة وان كانت هناك وظائف شرعية محددة للمكلف الشاك في اول الشهر واخره يستطيع الرجوع اليها والعمل بها وهي مذكورة في الرسائل العملية بصورة تفصيلية والذي احب التنبيه عليه من الناحية الشرعية هو انه بعد الاستهلال تكون النتيجة الحاصلة بعده واحداً من ثلاثة فروض .
الأول : فرض ثبوت الهلال بالشياع او القريب منه بحيث لا يبقى هناك شك وحيرة عند الجميع او الاكثر .
الثاني : فرض عدم الثبوت لدى الجميع او الاكثر بحيث كان ثبوته عند القليل القليل بحكم العدم لإنحصار حجيته وترتب الاثر عليه بخصوص


( 10 )


الشخص الذي حصل له العلم او الاطمئنان بثبوته .
الثالث : ان يثبت لدى شخص او اكثر بالموازين الشرعية وكان من ثبت لديه الهلال بهذه الموازين أهلاً لان يصدر الحكم بالثبوت الشرعي مع فرض عدم الثبوت لدى شخص أخر او جماعة اخرى لسبب من الاسباب التي تقتضي التردد في إصدار الحكم الشرعي مع توفر الاهلية لإصداره ففي هذا الفرض يطلب من الجميع إتباع الاسلوب الشرعي المتوج بالموقف الاخلاقي وذلك باحترام كلا الطرفين وحملهما على الاحسن والتحدث بما يليق ويناسب المقام بأن يقال مثلا : إن الذي حكم بالثبوت انما حكم به على ضوء الميزان الشرعي الذي تحقق لديه والذي توقف كان توقفه لعدم توفر الميزان الشرعي المبرر لحكمه ـ وليس هذا بدعاً في التاريخ ولا بدعة تستوجب الاستغراب والانفعال العاطفي لان اثبات الموضوعات كاثبات الاحكام وكما يحصل الاختلاف في الثانية بالاثبات والنفي والتوقف بسبب اختلاف المصادر الشرعية المعتمدة لاستنباط الحكم الشرعي في نظر المجتهدين كذلك يحصل الاختلاف في موضوعات الاحكام بسبب توفر الحجة الشرعية المبررة للحكم عند البعض وعدم توفرها عند غيره وفي هذا الفرض يطلب من الاخرين احترام الطرفين مع المحافظة على التفاهم والاحترام المتبادل بينهم ـ وفي هذه الصورة تختلف الوظيفة الشرعية لكل واحد من المكلفين الاخرين ـ فالذي يعتمد على الطرف الحاكم بالثبوت يستطيع ان يرتب الاثر على حكمه والذي يعتمد على الطرف الاخر يستطيع ان يرتب الاثر على عدم الثبوت ويمكنه العمل بالاحتياط وهو الراجح لكونه سبيل النجاة وذلك بأن يصوم امتثالا للأمر الثابت في لوح الواقع ـ فإن كان هذا اليوم الذي صامه ـ من شهر رمضان كان صومه واجبا وان كان من شعبان فهو مستحب ، وان كان الاختلاف في الثبوت وعدمه بالنسبة الى عيد الفطر فالاحتياط لمن يريده يكون بالسفر الى مسافة القصر ليتناول المفطر هناك ـ والتفصيل بالنسبة الى وجوب القضاء بعد ذلك وعدم وجوبه متروك لمحله من الرسائل العملية والذي احب التركيز عليه واكرر الدعوة اليه هو محافظة الجميع على إحترام


( 11 )


الجميع وعدم صدور ما يتنافى مع جوهر الصوم وسائر العبادات ـ وهو التقوى ـ من الكلمات المثيرة التي تسبب التصادم والتنازع المؤدي الى الفشل وذهاب القوة وتصدع جدار الوحدة ـ ولذلك نهانا الله سبحانه عنه بقوله تعالى :
( ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين * ) (1) .
وأمرنا بالإعتصام بحبل الوحدة ونهانا عن الإفتراق بقوله :
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) (2) .
وعلينا ان نعتبر الحديثين النبويين المشهورين الميزان الذي يعرف به إيمان المؤمن الواقعي وإسلامه الحقيقي فلا يخدع الشخص نفسه والاخرين ببنائه على بلوغ الدرجة المحترمة من الإيمان والإسلام ـ وهو في الواقع مجرد منهما وبعيد عنهما بسبب بعده عن روح الإيمان وجوهر الإسلام وهو التقوى والخلق الفاضل الحديث الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه ما يحبه لنفسه ويكره له ما يكره لها والثاني ما روي عنه ايضا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم :
المسلم من سلم الناس من يده ولسانه وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
____________
(1) سورة الإنفال ، آية : 46 .
(2) سورة آل عمران ، آية : 103 .


( 12 )


الدعاء ودوره التربوي في حياة المؤمن

 


إن لكلمة الدعاء معاني كثيرة في اللغة العربية ويتميز بعضها عن الآخر بالقرينة اللفظية او المقامية المميزة ومن معانيه ما هو محل الكلام وموضوع الحديث وهو الطلب الموجه من العبد المؤمن لله سبحانه مقترنا بالتضرع والخضوع لجلب محبوب او دفع مكروه .
وحيث ان الدعاء بهذا المعنى في طيه . روح العبادة وجوهرها فقد ورد الحث عليه والترغيب فيه في الكثير من الآيات الكريمة والعديد من الرويات المعبرة .
من الأول قوله تعالى :
( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) (1) .
وقوله تعالى :
( قل مايعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم ) (2) .
وقال تعالى :
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعان
____________
(1) سورة غافر ، آية : 60 .
(2) سورة الفرقان ، آية : 77 .


( 13 )


فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون * ) (1) .
ومن الثاني ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : الا ادلكم على سلاح ينجيكم من اعدائكم ويدر ارزاقكم قالوا بلى قال : تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء وروي عن أمير المؤمنين قوله عليه السلام الدعاء ترس المؤمن ومتى تكثر قرع الباب يفتح لك .
وروي عن الإمام زين العابدين قوله عليه السلام : إن الدعاء يرد البلاء وقد أبرم إبراما .
وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن رجلين قام احدهما يصلي حتى اصبح الآخر جلس يدعو ايهما افضل ؟ . قال : الدعاء أفضل وإنما كان للدعاء هذه المنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وأهل البيت عليهم السلام لانه يمثل بمفهومه الديني روح العبادة وجوهرها وهو خشوع العبد المؤمن بين يدي الله سبحانه وخضوعه له وانقطاعه اليه وتوكله عليه في تحصيل الامر المحبوب له ودفع المكروه عنه ولا يصدق عنوان العبادة على اي عمل يمارسه المكلف على صعيد هذه الحياة الا اذا كان حاملا في طيه هذه الروح الإيمانية التي تعطيه الحياة والحركة نحو القبول والوصول الى الهدف المنشود ولذلك ورد في الحديث ما مضونه :
( لا يكتب من الصلاة الا ما اقبل به العبد على ربه ) لانها بدون اقبال عليه سبحانه تكون جسما بلا روح ولذلك لا يترتب على فعلها بهذه الحالة سوى براءة الذمة منها وسقوط الامر باعادتها او قضائها من باب اللطف الإلهي والرحمة السماوية ملاحظة للوضع العام الذي يعيشه عامة الناس الذين يفقدون روح التوجه والاقبال على الله سبحانه بسبب انشدادهم الى قضاياهم الحياتية المؤثرة على افكارهم وتوجههم .
____________
(1) سورة البقرة ، آية : 186 .


( 14 )


واذا اردنا ان نرسم صورة واضحة عن حقيقة الدعاء موضع البحث وموضوع الكلام فنقول :
إنه رجوع العبد المؤمن الفقير الى مولاه الغني بالغنى المطلق الذي لا يحتاج الى شيء ويحتاج اليه كل شيء ـ وذلك بالتوسل الخاشع والتوكل الواعي من اجل ان يعينه على تحصيل مطلب يعجز بذاته عن الوصول اليه والحصول عليه ـ كالجاهل الذي يرجع الى الله العالم بكل شيء ليفيض عليه نوراً من علمه الواسع والفقير الراجع الى الغني المطلق ليمن عليه بنفحة من عطائه وقبسة من ضيائه والمريض الراجع الى الطبيب الحقيقي ليحقق له الشفاء ويخلصه من الداء والمجاهد المناضل في سبيل نصرة الحق الذي يرجع الى القادر الناصر لاوليائه على اعدائه في معركة التضحية والفداء وهكذا .
وهذا ما اشار اليه الإمام علي عليه السلام بقوله : الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي وفي المناجاة سبب النجاة وبالاخلاص يكون الخلاص فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع ) .
وبالتأمل في مضمون كلام الإمام عليه السلام ندرك ان الدعاء انما يكون مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح اذا صدر عن صدر نقي من الصفات الذميمة المبعدة عن الله سبحانه كالحسد والنفاق والبغض لاولياء الله والحب لاعدائه سبحانه والحرص على متع الحياة الزائلة حتى ولو حصلت من الحرام او المشتبه به وكذلك لا يكون الدعاء مفتاحا لباب الفرج والاجابة الا اذا صدر من قلب مؤمن تقي فاعل لما اوجب الله عليه وتارك لما حرم عليه لان ذلك شرط اساسي لتحقق الخضوع الحقيقي والرجوع الواقعي الى الله سبحانه الموصل الى ساحة رحمته ـ باعتبار ان الصفات الذميمة والانحراف عن منهج التقوى يجعل حاجبا يمنع القلب من الخضوع والخشوع وصاحبه من الوصول الى العناية الإلهية كما هو واضح ولهذا ورد في دعاء كميل :
« اللهم أغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء » .


( 15 )


واشار الإمام عليه السلام بقوله : « وبالاخلاص يكون الخلاص » الى اهم شرط في قبول الاعمال ونجاح المساعي وهو الاخلاص لله سبحانه في النية والتوكل عليه في نيل المطلوب بعد ايجاد ما يطلب ايجاده من المقدمات الطبيعة التي يتوقف عليها حصوله تمشيا مع الحكمة الإلهية التي قضت بأن يسعى الإنسان الى تحصيل المسببات بواسطة اسبابها لقوله تعالى :
( وأن ليس للإنسان إلا ماسعى * وأن سعيه سوف يرى * ) (1) وبما ذكرنا من لزوم ايجاد المقدمات الطبيعية اللازمة لنيل بعض الاهداف والمطالب ـ يعرف ان الاخلاص المطلوب له شقان احدهما يتعلق بالله سبحانه المستعان به لنيل الغاية المنشودة وهو ما تقدم من الاخلاص لله سبحانه في النية والقصد .
والثاني يتعلق بالهدف المطلوب وهو ايجاد مقدماته العادية الطبيعية على النهج اللازم والفرق بين الشقين ان الاول مضمون النتيجة ومعلوم النجاح بلحاظ الاثر الاخروي وهو نيل الثواب من الله سبحانه باعتبار ان الاعمال بالنيات .
واما الثاني من شقي الاخلاص المتمثل باعداد جميع المقدمات والوسائل المطلوبة لنيل الهدف الخاص معجلا وفي هذه الحياة فهو غير مضمون النجاح دائما لان ترتب المسبب على سببه والنتيجة على مقدماتها منوط بإرادة الله سبحانه فإذا اراد للسبب ان يؤثر وللسعي ان ينجح كان ذلك ـ واذا لم يرد بقي كل شيء على حاله وهنا يكون مفترق الطريقين بين المؤمن المتوكل على الله سبحانه وغيره .
فالاول هو الذي يرجع الله ويتوكل عليه لنيل غايته بعد ايجاده الاسباب اللازمة مخلصا لله في النية وللهدف باعداد مقدماته فإن حصل
____________
(1) سورة النجم ، آية : 39 و 40 .


( 16 )


مطلوبه شكر الله سبحانه على ذلك وقال بلسان الحال وقد يضم اليه لسان المقال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ام أكفر كما قال النبي سليمان عليه السلام واذا لم يحصل مراده صبر وقال بلسان الايمان الصادق : ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور وغير المؤمن يكون على العكس من ذلك فهو يفترق عن المؤمن في البداية ليفترق عنه في النتيجة والنهاية لانه لا يخلص لله في النية ويعتمد على جهده الشخصي والاسباب الطبيعية العادية فإذا اعطت النتيجة وتحقق مطلوبه اعتبر ان نجاح سعيه راجع الى جهده البشري وسببه الطبيعي وقال بلسان الحال والمقال ما قاله قارون في التاريخ :
( إنما أُوتيته على علم عندي ) (1) .
ولذلك لا يتقيد بالحكم الشرعي في مقام سعيه لتحصيل هدفه كما لا يتقيد به بعد ذلك في مقام تصرفه وتمتعه به بسبب انكاره وعدم اعترافه من الاول بمصدر حصول الهدف المطلوب واقعا وهو الله سبحانه سبب الاسباب ورب الارباب ونتيجة ذلك زوال النعمة عنه لان المعصية تؤدي بطبعها الى ذلك غالبا كما قال الشاعر :

إذا كنت في نعمة فارعها * فإن المعاصي تزيل النعم


وقد حصل ذلك بالفعل لقارون بعد انكاره المصدر الحقيقي لنعمته وثروته وتوقفه عن دفع الحق الشرعي وهو الزكاة للنبي موسى عليه السلام بعد طلبه منه بأمر من الله تعالى ويضاف الى ذلك العقوبة القادمة الدائمة يوم الحساب وذلك هو الخسران المبين .
وحاصل الفرق بين العبد المؤمن المتقي لله سبحانه والمتوكل عليه ـ وغير المؤمن المنحرف عن خط السماء بعقيدته وسلوكه ـ ان الاول يكون مع الله سبحانه على كل حال ليبقى الله معه في كل الظروف والاوضاع فإن
____________
(1) سورة القصص ، آية : 78 .


( 17 )


حصلت له نعمة اعترف بأنها من الله سبحانه وشكره عليها قولا وعملا بصرفها في سبيل اطاعته ليزيده الله منها لقوله تعالى :
( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (1) .
وليديمها له ويدفع عنه البلاء وقد ابرم ابراما وليطول عمره واذا طرأت عليه مصيبة صبر عليها ورضي بها ليكتب الله له ثواب الصابرين الذين عناهم بقوله تعالى :
( وبشر الصابرين * الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون * ) (2) .
وغير المؤمن التقي يكون على العكس من ذلك كما سبق فهو اذا حصلت له نعمة لا يعرف ولا يعترف بأنها من الله سبحانه بل يتوهم انها حاصلة له بجهده الشخصي وينتج عن عدم ايمانه او ضعف عقيدته عدم التقيد بشرع الله سبحانه في مقام السعي لتحصيل مطلوبه وفي مقام التصرف به بعد تحصيله فلا يكون لديه اي مانع من ان يحصل له ولو من الحرام كما لا يوجد لديه اي رادع من التصرف به وصرفه ولو في الحرام ـ وهذا وذاك يؤدي في الغالب الى عدم توفيقه في الاول لحصول مراده واذا حصل له فسرعان ما يزول عنه بسبب تمرده على مناهج السماء وعدم تقيده بشرع الله سبحانه شرع العدالة والاستقامة ويضاف الى زوال ما حصله او صرفه في الحرام ـ استحقاق العقوبة الصارمة يوم القيامة .
واذا طرأت عليه ـ اي على غير المؤمن ـ مصيبة وفي الغالب تكون بسوء اختياره نتيجة انحرافه عن خط التقوى ـ ضجر منها وشق عليه تحملها وبذلك تشتد عليه مصيبته واذا ادى به الضجر وعدم التصبر الى الجزع والاعتراض على حكم الله سبحانه وقضائه فإنه يستحق بذلك العقاب في
____________
(1) سور إبراهيم ، آية : 7 .
(2) سورة البقرة ، آية : 155 ـ 156 ـ 157 .


( 18 )


الآخرة مضافا الى ابتلائه بالمصيبة والمها في الدنيا ـ وذلك هو الخسران المبين واذا دققنا النظر لنعرف سبب امتياز المؤمن عن غيره بما ذكرنا ـ نعرف انه الايمان الصادق في الاول وعدم الايمان او ضعفه في الثاني ـ لان الايمان الواعي القائم على اساس الدليل القوي الواضح ـ هو الذي يوحى لصاحبه بأن كل النعم والآلاء ـ من الله تعالى ـ لقوله سبحانه :
( وما بكم من نعمة فمن الله ) (1) .
وانه اذا صرفها في سبيل اطاعته زاده منها وابقاها له وطول عمره ـ كما تقدم ولذلك يتقيد بصرفها في هذا السبيل لينال هذه الفوائد المعجلة في الدنيا مضافا الى ظفره بالسعادة الخالدة والنعيم الدائم في الآخرة ـ واذا طرأت عليه ـ اي على المؤمن مصيبة ـ صبر عليها ورضي بقضاء الله وقدره فيها لينال بذلك ثواب الصابرين في الآخرة مضافا الى الفائدة المعجلة التي يحصلها ببركة الصبر وهي ان يخف تألمه بالمصيبة وبقدر ما يقوى ايمانه يقوى صبره وتخف مصيبته الى درجة تصبح معها بحكم العدم .
وبذلك نعرف قيمة الايمان الصادق وانه اعظم نعمة يمن بها الله سبحانه على الإنسان ـ وبهذه النعمة المباركة تكون النعم والآلاء الاخرى ـ نعمة حقيقية يتمتع بها صاحبها في حاضر الدنيا ومستقبل الآخرة . وبهذا النعمة ـ اي نعمة الايمان تخف المصيبة وربما تزول وتجف لتصبح بحكم العدم في الحاضر العاجل وينال بصبره عليها ورضاه بها الثواب العظيم في المستقبل الأجل .
والى هذه الفوائد العظيمة المترتبة على نعمة الايمان اشار بعضهم بقوله : عجبت لامر المؤمن ان أمره كله خير لانه اذا حصلت له نعمة شكر فكانت خيرا له واذا طرأت عليه مصيبة صبر فكانت خيرا له لنيله ثواب الصابرين .
____________
(1) سورة النحل ، آية : 53 .


( 19 )


وقد اشار بعض الشعراء الى هذا المعنى بقوله:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة * علي له في مثلها يجب الشـكر
فكيف بلوغ الشكر الا بفـضله * وإن طالت الايام واتصل العمر
فإن مس بالسراء عم سرورها * وإن مس بالضراء اعقبها الاجر
فما منهما الإله فيـه نــعمة * تضيق بها الاوهام والسر والجهر


والدعاء الذي هو سلاح المؤمن ومصباحه الذي ينير له درب الامل ويساعده على التوفيق والنجاح في مساعيه ـ هو ثمرة يانعة من شجرة الايمان الثابتة ـ لانه هو الذي يوحي لصاحبه بأن الله سبحانه هو مصدر الخير والعطاء والقادر على تحقيق الهدف المنشود لعبده المؤمن ـ ولذلك يلجأ اليه ويتوكل عليه ليمده بالحول والقوة ويمهد له سبيل النجاح في سعيه بعد اخلاصه له في النية والتوكل وايجاده المقدمات الطبيعية التي يتوقف عليها حصول المطلوب عادة ـ كما تقدم مفصلا وعندما يقال في حق المؤمن انه يلجأ الى الله سبحانه ويتوسل اليه بالخضوع والدعاء لنيل الهدف المحبوب له فإنه يعرف ضمنا وبقرينة المقام ان هذا الامر المحبوب للعبد الداعي لا يكون مبغوضا لله سبحانه ولو بدرجة الكراهة ـ وذلك لان الدعاء في نفسه نوع من العبادة بل هو روح العبادات كلها فلا يتوقع من العبد المؤمن ان يكون على حالة انقطاع لله وخشوع له وهو يطلب من منه مساعدته على مطلب مكروه الحصول عند الله سبحانه .
وبعد بيان حقيقة الدعاء والاشارة الى ما يترتب عليه من الفوائد المعجلة في الدنيا والمؤجله في الاخرة مضافا الى الفوائد التربوية العديدة التي ستأتي الاشارة اليها خلال البحث انشاء الله تعالى .
يناسب ذكر الامور المساعدة على استجابة الدعاء وترتب الاثر عليه فنقول :


( 20 )


بيان الامور المساعدة على إستجابة الدعاء

 


ذكروا للدعاء أدابا معينة تساهم بطبعها في استجابة الدعاء وهي كما يلي :
الاول : الطهارة بأن يكون الداعي على وضوء او غسل مغن عنه وذلك لان الطهارة من الحدث نور معنوي ونقاء روحي يساعد على القرب من ساحة الرحمة الإلهية والعناية السماوية .
الثاني : شم الطيب ـ لان شم الطيب المادي يعطي النفس عطرا معنويا وشذا روحيا وهذا امر محبوب لله سبحانه فيقتضي القرب منه والدنو من نيل الرحمة واستجابة الدعوة ولذلك ورد في الروايات استحباب التطيب في الصلاة وان ذلك يزيد في ثوابها .
الثالث : استقبال القبلة لانه رمز توجه الإنسان المؤمن بقلبه ومشاعره الى مصدر الرحمة ومنبع الفيض والعطاء واستجابة الدعاء وحيث ان الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة كما قيل ـ فيترجح الحاقه بالصلاة التي هي عمود الدين بالتوجه الى نفس الجهة التي يتوجه اليها بالصلاة .
الرابع : حضور القلب ـ وملاحظة هذا الامر في الدعاء واضحة الاهمية وذلك لان الدعاء رجوع الى مصدر الخير والعطاء وحضور القلب وتوجه النفس الى بارئها العظيم يساهم مساهمة فعالة في القرب من ساحة الرحمة ويمهد لاستجابة الدعوة ـ .
الخامس : حسن الظن بالله سبحانه ـ لما ورد في الحديث القدسي من قوله تعالى : « أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلاّ خيرا » .
السادس : الصدقة قبل الدعاء ـ وذلك لان الصدقة محبوبة لله فتسبب محبوبية المتصدق بها ويؤكد ذلك الكلمة المشهورة القائلة : « الخلق عيال الله واحبهم اليه انفعهم لعياله » .