17-11-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/11/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-  مسألة ( 431 ) / الواجب الثالث عشر من واجبات حج التمتع ( رمي الجمار ).
وبعد اتضاح المناقشة في الوجوه لتي ذكرت لإثبات الاختصاص بغير العامد نقول:- الأجدر في بيان وجه الاختصاص - يعني بغير العامد - إنّ المورد ليس من موارد الاطلاق بل من موارد ترك الاستفصال فإن مورد الاطلاق هو ما إذا فرض أنّ الامام عليه السلام ذكر حكماً مطلقاً بأن قال:- ( من رمى أربعاً بلحاظ الأولى وسبعاً بلحاظ الثانية فيكمل ما نقص ) ، إنّ هذا من موارد الاطلاق لأنّ الحكم قد ذكر في كلام الإمام عليه السلام والاطلاق في كلام الأمام حجّة ، أمّا إذا فرض أنّ الإطلاق لم يكن في كلام الإمام وإنما كان في كلام السائل والمفروض أن محلّ كلامنا هو هذا فإن السائل - أعني معاوية بن عمّار - قد أطلق في سؤاله وقال:- ( رجل رمى الأولى بأربع والثانية بكذا .... ) إنّ هذا إطلاق في كلام السائل والاطلاق في كلام السائل ليس بحجّة وإنما الحجّة هو كلام الإمام وإطلاق كلامه وهذا من البديهيات . فإذن لا ينبغي أن نخلط بين مورد الاطلاق وبين مورد ترك الاستفصال ، والكلمات التي قرأناها للأعلام قد لا حظنا أنّ بعضها يعبّر بالاطلاق وهذا تسامحٌ.
وتترتّب بعض الآثار على كون المورد من الاطلاق أو من ترك الاستفصال كما سوف نوضّح . إذن موردنا من قبيل ترك الاستفصال دون الاطلاق.
فإذا اتضح هذا نقول:- ترك استفصال الامام إنما يكون دليلاً كاشفاً عن الاطلاق فيما إذا فرض أنّنا لم نحتمل أنّ الإمام قد فهم الاختصاص بإحدى الحالتين ، أمّا إذا كان هناك احتمالٌ وجيهٌ لفهمه إحدى الحالتين فلا يمكن أن نتمسّك بترك الاستفصال آنذاك ، وفي مقامنا نحتمل أنّه قد فهم من كلام السائل النظر لغير العامد وأنّ سؤاله عن غير العامد باعتبار أنّ الحالة العامة للمؤمن حينما يذهب إلى الحج أنّه يريد الطاعة ولا يريد العصيان والتمرّد فإن هذه هي الحالة العامّة وإن فرض أنّ بعضاً قد يشذّ ولكن هذا على خلاف الحالة العامّة ، فلعله فهم من سؤال معاوية حينما سأله وقال ( شخص رمى الأولى بأربع والثانية ... )  أنّ هذا ليس بمتعمّدٍ إذ المؤمن عادةً لا يتعمّد فأجاب بأنه ( يكملها بثلاث ...... ) ، إنّه بعد وجاهة هذا الاحتمال كيف نقول إنَّ ترك الاستفصال يدلّ ويكشف عن العموم ؟!! إنّ هذا لا معنى له . إذن لا يمكن أن نفهم العموم من ترك استفصال الامام بعد وجاهة احتمال أنّه قد فهم من طرحة السؤال الاختصاص بغير العامد . وهذه قضيّة سيّالة يجدر الالتفات إليها . فإذن لا مثبت للعموم بل أقصى ما يثبت بهذه الرواية هو أنّ هذا حكمٌ لغير العامد أمّا للعامد فلا تدلّ عليه ، وإذا لم يدلّ عليه - أي على التعميم - فنرجع آنذاك إلى التمسّك بما دلّ على اعتبار الترتيب - يعني بقي إطلاقه بلا مقيّدٍ وبلا مانع - فنتمسّك به.
ثم لو تنزّلنا وفرضنا أنّ كلام الإمام عليه السلام كان مطلقاً بأن فرض أنه عبّر هكذا:- ( من رمى أربعاً بلحاظ الأولى ثم رمى الثانية بسبعٍ كفاه إكمال الأولى بثلاث .... ) فمع ذلك لا يمكن التمسّك بالاطلاق رغم أنّه ورد في كلام الإمام والوجه في ذلك ما أشرنا إليه أكثر من مرّة من أنّه لابد وأن نضيف مقدمةً أخرى لمقدّمات الحكمة ولعله لشدّة وضوحها لم يذكرها الأصوليون ولعلها مقصودةٌ من خلال بعض المقدّمات التي ذكروها فهي مستبطنة في تلك المقدّمات وتلك المقدّمة هي أنّ شرط انعقاد الإطلاق أن تكون إرادة المقيّد أمراً مستهجناً من قبل المتكلّم - يعني إرادة ذلك المقيَّد من كلامه المطلق من دون نصب قرينة - فإرادة المقيَّد من المطلق من دون نصب قرينةٍ إذا كانت مستهجنةً فهنا ينعقد الاطلاق وهنا يصحّ التمسك به ، أمّا لو ظهر المتكلّم وقال إنّ مقصودي من هذا الكلام هو الحصّة المقيّدة والعرف لم يستهجن منه ذلك - يعني لا يقول له إذن لماذا لم تقيّد بل يسكتون - فهنا لا ينعقد الاطلاق ، ومقامنا من هذا القبيل حيث إنّ المتكلم - يعني الامام - لو ظهر وقال إنّ مقصودي من هذا الكلام هو غير العامد لما عوتب ولم يقال له ( إذن لماذا لا تقيّد ؟ وهذا مستهجنٌ منك ؟ ) ، كلا لا يستهجن العرف منه ذلك باعتبار أنّه أطلق اعتماداً على الجوّ العام ، والمقصود من الجوّ العام هو أنّ الذي يريد أن يرمي ليس بانياً عادةً على العصيان والتمرّد ، فلأجل هذا الوضوح هو لم يقيّد اعتماداً عليه ، ونحن في كلامنا العرفي كثيراً ما نفعل هذا - يعني كثيراً ما نطبّق كلامنا ومقصودنا على الحصّة الخاصّة ولا نعاتب ونقول إذن لماذا لم تقيدّوا - وما  ذاك إلّا لأجل وضوح المطلب وأنّ الجوّ العام يقتضي هذا . فإذن لا يمكن في المقام التمسّك بالاطلاق لاختلال هذه المقدّمة التي أشرنا إليها.
وألفت النظر إلى أنّه لو قبلنا بإضافة هذه المقدمّة إلى مقدّمات الحكمة فلعله تنخرم عندنا كثراً من الاطلاقات وهذه قضيّة يجدر الالتفات إليها .
نعم تقد تسألني وتقول:- من أين لك هذه المقدّمة وما الدليل عليها ؟
قلت:- إنّ هذه المقدّمة قياساتها معها ، يعني هي بديهية ضرورية وجدانيّة إن صحّ التعبير ، إذ مضمونها أنّ إرادة المقيّد متى ما كانت مستهجنة من دون ذكر القيد فآنذاك يصحّ التمسّك بالاطلاق ، وهذا أمرٌ بديهيٌّ وعقلائيٌّ فإنه إذا لم يُستهجَن إرادة المقيّد فكيف ينعقد الاطلاق ؟!! فهي قضيّة بديهيّة وجدانيّة واضحة ولا أظن أنّ شخصاً يشكك فيها ولا أسمح  لأيّ شخصٍ في أن يشكك فيها لأنها وجدانيّة لا تقبل الخطأ ، وإذا كانت وجدانيّة فلنطبقها في المقام.
نعم قد نختلف أحياناً في الصغريات وأنّ هذا المورد من موارد عدم استهجان إرادة المقيّد من دون ذكر القيد أو يستهجن ؟ ولكن هذا اختلاف صغرويٌّ وليس بمهمّ والمهمّ هو أن نقبل الكبرى وإذا قبلنا الكبرى وقبلنا بالصغريات أحياناً في موردٍ فنطبّق حينئذٍ تلك الكبرى.
إن قلت:- إن هذا بالتالي تمسٌكٌ بالانصراف وليس شيئاً جديداً.
قلت:- الانصراف هو أحد مناشئ عدم استهجان إرادة المقيّد وأحياناً قد نشكّك في الانصراف وأنّه هل يوجد انصرافٌ أو لا ، ولكن على ضوء البيان الذي ذكرناه يزول آنذاك التشكيك والتوقّف والتردّد.
فهناك مَن قال بأنّ هذه الروايات لا تشمل العامد لأجل الانصراف ، وفي المقابل يُرَدُّ هذا ويقال له:- من أين لك هذا الانصراف ؟ فذاك يدّعي الانصراف والطرف الثاني يشكك في الانصراف ، أمّا على ضوء البيان الذي ذكرناه - وهو أنّه لا يستهجن العرف إرادة المقيّد رغم عدم ذكر القرينة - يزول التشكيك ويقول أنا أسلّم أنّه لا يستهجن الاطلاق رغم أرادة المقيّد ، فأنا عرفاً لا ستهجن ذلك اتكالاً على الحالة العامّة أو غير ذلك - وأنا لا يهمّني مناشئ عدم الاستهجان فمادام يشعر بالوجدان أنّ العرف لا يستهجن فإنه على هذا الكلام لا ينعقد الاطلاق -.
ويترتب على هذا أشياء قد تكون مهمّة:-
من قبيل:- أنّه لا يكفي الاعتماد في إثبات الهلال على العين المسلّحة فإن الروايات التي قالت:- ( صم للرؤية وافطر للرؤية ) قد يقال بأنها بإطلاقها تشمل العين المسلحة لأنها رؤية ، وأظن أنّ من قال بكفاية العين المسلّحة قد استند إلى هذا الاطلاق ، فيوجد إطلاقٌ فنتمسّك به ، أمّا على ضوء ما بينّاه فيمكن التشكيك في الاطلاق فيقال إنّ الإمام عليه السلام لو ظهر وقال إنّ مقصودي حينما قلت:- ( صم للرؤية وافطر للرؤية ) هو الرؤية بالعين المجرّدة لا يستهجن منه ذلك ولا يقال له ( إذن لماذا لم تقيّد ؟ ) إذ المفروض أن الجوّ العام في تلك الفترة كان هو على عدم وجود العين المسلّحة ، فالجوّ العام كان هو العين المجرّدة والإمام عليه السلام اعتمد على ذلك ، فعلى هذا الأساس لا يستهجن إرادة المقيّد رغم عدم القرينة فلا ينعقد الاطلاق من الأساس.
وهناك آثارٌ أخرى من هذا القبيل.
إن قلت:- إنّه بناءً على ما ذكرت سوف تنخرم إطلاقاتً كثيرةٍ وبالتالي نقع في مأزقٍ ، من قبيل أنّه يلزم عدم جواز الوضوء بالماء المقطّر أو مياه التصفية بالأجهزة الحديثة ، فهذه المياه لا يجوز الوضوء والتطهير بها باعتبار أنّ الماء المقطّر أو الماء المصفّى بهذه الأجهزة ليس موجوداً في تلك الفترة وإذا لم يكن موجوداً فعلى هذا الأساس لعلّ المتكلّم قد أطلق ولكن مقصوده هو الماء المتعارف - أي ماء النهر الذي فيه شوائب وتراب - واعتماده على الحالة العامّة ولا يقيّد لأن التقييد ليس له معنى لأنه لا يوجد عندهم ماءٌ غير هذا الماء ، فإذن يلزم عدم إمكان التمسّك بالاطلاق . وتوجد أمثلة كثيرة من هذا القبيل ، وهذا بالتالي يوقعنا في المأزق يعني أنّ هذا المبنى سوف يهدِم لنا الكثير من الاطلاقات وبالتالي سوف نقع في المأزق وهل يحتمل فقيهٌ أنّ الماء المصفّى لا يجوز الوضوء به أو غير ذلك ؟!!!
قلت:- يوجد بديلٌ عن الاطلاق في كثيرٍ من الأحيان فنتمسّك بذلك البديل وبذلك يرتفع المأزق عنّا ، وذلك البديل هو الجزم بعدم الخصوصيّة عرفاً ، فصحيحٌ أنَّ الكلام مختصٌّ بالماء غير المصفّى ولكن العرف يلغي خصوصيّة كونه مشوباً بالتراب ولا يرى خصوصيّة لذلك ، فمن خلال الجزم بعدم الخصوصيّة نتعدّى إلى الماء المصفى ، كما لو صرّح الإمام عليه السلام وقال:- ( مياه الأنهار يجوز الوضوء بها ) فلو كان يصرّح هكذا أفلا نتعدّى إلى الماء المصفّى أو غير ماء النهر ؟!! نعم نتعدّى من باب أنه لا نحتمل خصوصيّةً له.
فإذن لأجل وجود هذا البديل لا نقع في المأزق . نعم نعترف أنّه  في الموارد التي لا يوجد فيها الجزم بعد الخصوصيّة لا يجوز التمسّك بالاطلاق كما في مثال الهلال فإنه نحتمل الخصوصيّة للعين المجرّدة فلا نتعدّى حينئذٍ إلى العين المسلّحة.