38/05/23


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة (32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

وهناك صورة ثالثة كان من المناسب أن يشير إليها الشيخ الأعظم(قده) وهي حالة متوسطة ، وهي أنَّ هذا المال لا يبذل مقابل الحكم كما في الصورة الأولى ، ولا أنه يبذل لذات الحاكم والداعي هو المحبّة والميل والحكم له ، بل هناك شق ثالث وهو أن يكون البذل بشرط أن يحكم له ، فالحكم له لا يكون عوضاً ومقابلاً بالمال كما في الصورة الأولى ، ولا أن يكون التمليك لذات الحاكم ، وإنما بشرط أن يحكم له ، فالحكم له قد أخذ لا بنحو المقابلة كما في النحو الأوّل ، ولا بنحو الداعوية كما في النحو الثاني ، وإنما أخذ بنحو الشرطية ، وما هو الحكم هنا ؟

من الواضح أنه إذا كانت العين موجودة وجب ردّها إذ لم يحصل ناقل شرعي فيجب ردّها ، وأما إذا فرض أنها كانت تالفة فهل يمكن التمسّك لإثبات الضمان بقاعدة ( على اليد ) ؟ المناسب هو ذلك فإنَّ هذا بمثابة الهبة المشروطة ، فالتسليط ليس مجانياً والذي خرج من قاعدة ( على اليد ) هو التسليط المجاني أما إذا لم يكن التسليط مجانياً بل كان مشروطاً فعلى هذا الأساس تبقى قاعدة ( على اليد ) فعّالة فمن المناسب حينئذٍ الحكم بالضمان.

ومن خلال هذا كلّه اتضح أنه توجد صور ثلاث من المناسب في اثنين منها الحكم بالضمان وهي حالة ما إذا فرض أنه بذل الرشوة في مقابل نفس الحكم والثانية أن يبذل الرشوة بشرط الحكم له ، وهناك صورة ثالثة لا يحكم فيها بالضمان وهي ما إذا كانت الهبة مجانية لذات الحاكم وكان الحكم له قد أخذ بنحو الداعوية – وكلّ هذا الكلام فيما إذا تلفت العين أما مع وجودها فله الحق في أن يسترجع العين - ، هذا هو المناسب في المقام.

بيد أنَّ الشيخ الأعظم(قده) نقل عن بعض معاصريه:- أنه يرى أنَّ الرشوة إذا دفعها الشخص إلى الحاكم فلا ضمان مطلقاً من دون تفصيل.

ونحن نقول:- إنَّه لابدّ من حمل ذلك على حالة التلف ، وإلا إذا كانت العين موجودة فلا يحتمل في حق فقيهٍ أن يقول لا حقّ له بالرجوع وأخذ العين مادام العقد فاسداً.

ونقل الشيخ الأعظم(قده) عن القائل بهذا القول وجهين:-

الوجه الأوّل:- إنَّ التسليط تسليط مجاني وإذا كان التسليط مجانياً وقد تلفت العين فلا موجب للرجوع.

الوجه الثاني:- إنَّ هذه المعاملة تشبه المعاوضة فنطبّق قاعدة ( ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ).

ونصّ عبارة الشيخ الأعظم(قده):- ( وفي كلام بعض المعاصرين أن احتمال عدم الضمان في الرشوة مطلقاً غير بعيد معللاً بتسليط المالك عليها مجاناً ولأنها تشبه المعاوضة وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده )[1] .

أقول:-

أما بالنسبة إلى الوجه الأول:- الذي هو أنَّ التسليط مجاني فإنَّ الشيخ الأعظم(قده) لم يعلّق على ذلك وكان من المناسب له أن يناقش هذا الوجه كما ناقش الوجه الثاني ، ولعله لم يعلّق عليه لوضوح وهنه حيث يقال: إنّ التسليط المجاني يتم في حالة واحدة دونه في حالتين ، يعني في حالة ما إذ كانت الرشوة في مقابل الحكم فهنا التسليط ليس مجانياً ، وصورة الشرطية وهو أخذ الحكم بالباطل شرطاً وإنما يكون التسليط مجانياً في حالة واحدة من الحالات الثلاث وهو إذا كان يدفع المال إلى ذات الحاكم فهنا يكون التسليط مجانياً ، فهذا التعليل يتم في هذه الحالة فقد دون الحالتين السابقتين ولعلّه لوضوح المطلب سكت الشيخ ولم يعلّق.

وأما بالنسبة إلى الوجه الثاني:- فالشيخ(قده) هنا قال إذا كانت تشمل المعاوضة فمن المناسب أنه في باب المعاوضات عادةً يضمن بصحيحها فيلزم أن يضمن بفاسدها فكيف رتّبت أنت فيما بعد وقلت ( وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ) ؟! فإذا كانت هي معاوضة كيف تطبّق هذه القاعدة ، بل المناسب أن تطبّق قاعدة الضمان وسوف تصير النتيجة عكس ما تقول.

وهو كلام وجيه من الشيخ الأعظم(قده) ، اللهم إلا إذا كان قصد بعض المعاصرين من قوله ( لأنها تشبه المعاوضة ) يعني يريد أن يقول إنَّ هذه عقد ولكنه عقد هبة ولكنه ليس هبة معوّضة بل هو هبة غير معوّضة ، فإذا صارت هكذا وتشبه عقد الهبة فمن الواضح في عقد الهبة أنه لا يضمن بالصحيح فلا يضمن بالفاسد ، فلعلّ مقصود بعض المعاصرين هو هذا المعنى ، والمطلب لا يستحق أن نقف فيه طويلاً.

الرشوة في غير الحكم:-

كلّ حديثنا فيما سبق كان يرتبط بالرشوة في باب الحكم وما يدور في هذا الفلك من عناوين وابحاث ومطالب ، والآن نريد أن نتعرض إلى الرشوة في غير الحكم ، والرشوة في غير الحكم تارةً تكون للموظّف كما في زماننا ، وهذا ما سوف يأتي في بحث مستقل فما بعد ، والآن حديثنا في الرشوة في غير الحكم ولكن بقطع النظر عن كونه موظّفاً ، والشيخ الأعظم(قده) قسّم هذا إلى ثلاث أقسام فقال:-

الأولى:- أن تكون الرشوة على محرّم مثل أن يعطي لشخص مالاً لأجل أن يضرب شخصاً آخر.

الثانية:- أن تكون الرشوة على فعلٍ أعم من كونه محرّماً أو ليس محرّماً كأن يعطيه المال ويقول له ( اقتل شخصاً ) سواء كان بريئاً أو مستحقاً للقتل يعني هو يريد الطبيعي الأعم من الحرام وغيره.

الثالثة:- أن تكون الرشوة في مقابل المباح ، كما لو فرض أنَّ شخصاً كان جالساً في المسجد وأقول له اعطني مكانك مقابل هذا المال.

ثم قال:- هل تحرم الرشوة في هذه الموارد الثلاثة بناءً على صدق الرشوة فيها كما يظهر من تعريف الفيّومي في المصباح المنير وابن الأثير في نهاية الارب فإنه يظهر منهما أنَّ الرشوة عامّة ولا تختص بباب الأحكام ، قال في المصباح المنير:- ( الرشوة ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له او يحمله على ما يريد )[2] وهذه العبارة مطلقة تشمل ما نحن فيه ، وقال في النهاية:- ( إنها الوصلة الحاجة بالمصانعة )[3] وهذه العبارة أيضاً مطلقة لأنه قال ( الوصلة إلى الحاجة بالمصانة ) يعني التوصّل إلى الحاجة بالمصانعة فإعطاء المال هو مصانعة وهذه العبارة مطلقة تشمل حالة الرشوة على غير الحكم ، فبناءً على أنها تصدق توجد ثلاثة أقسام كما ذكرنا .

ثم قال:- المناسب في الأوّلين البطلان بل والحرمة التكليفية ، أما البطلان فباعتبار أنَّ هذا أكلٌ للمال بالباطل ، ومادام أكلاً بالباطل فتبقى هذه الرشوة على ملك صاحبها فمن حقه الرجوع فيكون آخذها ضامناً ، ونصّ عبارته:- ( لأنه أكل للمال بالباطل فتكون الحرمة هنا لأجل الفساد فلا يحرم القبض في نفسه وإنما يحرم التصرف لأنه باقٍ على ملك الغير )[4] .

ثم قال:- إنَّ أدلة حرمة الرشوة لا يمكن التمسّك بها لأنَّ هذا ليس من المعلوم أن يصدق عليه أنه رشوة.

وأنا أقول:- هذا تمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المفهومية ، حيث نشك في سعة المفهوم وضيقه وهل يشمل غير الحكم أو لا فيكون من التمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المفهومية وهو لا يجوز.

ثم قال:- ويمكن أن نحكم بالحرمة تكليفاً من باب الروايات المتقدّمة التي قالت ( هدية الأمراء غلول ) أي خيانة بناءً على أن كلمة ( غلول ) تدل على الحرمة – وهذا من عندي – ولكن لعلّ شخصاً يقول إنه لم يثبت أن كلّ خيانة محرّمة ، والأمر إليك.

ثم قال:- فإذا قلنا إنَّ هذه تدل على الحرمة فحينئذٍ تثبت الحرمة بالأولوية في قمامنا ، ولكنه لم يبيّن وجه الأولوية ، ولعلّ وجه الأولوية هو أنه في الأمراء تدفع الهدية إلى الأمير من دون اشتراطٍ للحرام فحينئذٍ دلت الرواية على الحرمة وقالت هو غلول ، فبالأولى إذا دفع لشخصٍ مالاً وقال له أفعل الحرام بذلك فحينئذٍ تثبت بذلك الحرمة بالأولوية ، وأنا لا أعلم هل يثبت ذلك بالأولوية أو لا ، ففي الأمير يكون صحيحاً فإنك لو أعطيته مالاً واشترطت عليه أن يفعل الحرام فهذا محرّم لأنَّ الهدية المجانية له حرام فيكف بالهدية له بشرط فعل الحرام ، فصحيح هنا توجد أولوية ، أما الآن فنحن نريد أن نثبت ذلك ليس في خصوص الأمير بل الكلام مطلقٌ ولا يختصّ بالأمير فهنا ليس من المعلوم أنَّ الأولوية موجودة ، نعم من الخارج قد نعلم أنَّ الهدية لأجل الحرام نحكم بحرمتها لا من باب أنها غلول – أي من باب هذا النص – وإنما من باب أننا يوجد عندنا مرتكزات في ذلك أو للنكتة التي سوف نبيّنها بعد قليل ، فالشيخ تمسّك بقضية الأولوية ، ولكن اقبلها الآن وإن كانت من هذه الناحية قابلة للمناقشة.

وترد على الشيخ قضية فنية غير مسألة الألوية وهي:- إنه ذكر في صدر كلامه وقال:- ( بناءً على صدق الرشوة على المورد ) يعني على غير الحكم هل تثبت الحرمة أو لا تثبت الحرمة ، وقال كما يظهر التعميم من المصباح والنهاية.

وأنا أقول:- إنه ما فائدة هذا الذي ذكره ، فسواء قلنا بذلك أو لم نقل به فبالتالي أنت لا تريد أن تتمسّك للحرمة الوضعية والتكليفية بأدلة الرشوة ، فلا معنى لأن تقول ( بناءً على صدق الرشوة على المورد ) ؟!! ، فأنت تمسّكت للفساد بـ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ ، وتمسكت لإثبات الحرمة التكليفية بـ( هدية الأمراء غلول ) وهذه لم يؤخذ فيها الرشوة ، فأنت حينما أتيت في البداية وقلت ( بناءً على صدق الرشوة عليها ) فهذا إقحام لهذا الشيء بلا فائدة وهو ليس بصحيح فنّياً.