38/08/11


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/08/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

ثم إنَّ هذه الروايات يثبت بها جواز الكذب في باب الاصلاح إما من باب الحكومة أو من باب التخصيص ، فإنَّ ما كان منها بلسان ( المصلح ليس بكذاب ) يكون حاكماً وما كان بلسان ( ثلاثة يحسن فيهن الكذب ... والاصلاح ) فبناءً هذا اللسان وما شاكله يثبت التخصيص ، فإذن هذه الروايات مقدَّمة على حرمة الكذب إما بالحكومة وإما بالتخصيص ، وهذا لا يؤثر شيئاً ولكن هذا واقع حال أردت بيانه لا أكثر.

ثم إنه هل يعتبر العجز عن التورية ؟ يعني أنَّ الذي يريد الاصلاح هل يلزم أن يتحرّى التورية مهما أمكن فإن عجز جاز له أن يكذب آنذاك أو أنه مطلق العنان من البداية ؟

والجواب:- المناسب الجواز مطلقاً بلا تقييد بالعجز ، فإنَّ هذا التقييد هو الذي يحتاج إلى دليل بعدما كانت الروايات مطلقة من هذه الناحية والمفروض أنَّ العنوان المأخوذ فيها ليس هو الاضطرار حتى نقول إنَّ مفهومه لا يصدق إلا في حالة العجز عن التورية بل المأخوذ فيها ( المصلح ليس بكذاب ) أو ( ثلاثة يحسن فيهن الكذب ) أو ما شاكل ذلك وهذه العناوين لا يتوقف صدقها عن العجز عن التورية.

ونذكر شيئاً آخراً:- وهو أنَّ المصلح تارةً يكون شخصاً ثالثاً غير الطرفين المتعاديين كما هي الحالة المتعارفة والتي ينسبق إليها الذهن وهذا هو القدر المتيقن ، وأخرى يفترض أنَّ الذي يريد الاصلاح هو أحد المتخاصمين فيكذب بقصد الاصلاح كأن يقول للطرف الآخر أني جئت زيارتك ولم أجدك أو من هذا القبيل فهل هذا جائز أو أنَّ الكذب في الاصلاح الثابت جوازه وأنه يجوز للمصلح الكذب هو أن يكون شخصاً ثالثاً ؟

والجواب:- لا فرق من هذه الناحية ، والوجه في ذلك أمران:-

الأوّل:- التمسك بإطلاق مثل قوله ( المصلح ليس بكذاب ) أو ( ثلاثة يحسن فيهن الكذب ... والاصلاح ) فهذا مطلق ولم يقيّد بأن يكون هذا المصلح شخصاً ثالثاً.

الثاني:- التمسّك بإلغاء الخصوصية من هذه الناحية ، فإنَّ العرف لا يفرّق بين أن يكون ذلك المصلح الذي يريد أن يكذب لأجل الاصلاح شخصاً ثالثاً أو هو أحد الطرفين المتخاصمين ، بل لعلّه لو كان أحدها يكون أولى.

المورد الثالث:- الكذب بخلف الوعد.

والمقصود منه كأن أعدك أني سوف أزورك ثم بعد ذلك حصل البداء لي ، ومن الواضح أن المانع الذي طرأ لا يبلغ درجة الضرورة وإلا لو بلغ درجة الضرورة فهذه قضية ثانية بل أتمكن أن أذهب ولكن حصل عندي بداء لسببٍ وآخر فهذا معنى الخلف للوعد فهل هذا جائز أو لا ؟

ربما يقال:- هو جائز ، لأنَّ البداء حينما يحصل لا يصدق حينما لم أزرك أني قد كذبت بسبب خلف وعدي فإنَّ خلف الوعد ليس من مقولة الكلام ، والكذب من مقولة الكلام ، فحينما حصل بداء عندي ولم أزورك فخلف الوعد هذا ليس من مقولة الكلام فكيف يكون كذباً ؟!! نعم جعلت كلامي السابق أو صيّرته كاذباً من الآن ومخالفاً للواقع لا أنه حينما صدر كان كاذباً وإنما الآن حينما حصل البداء ولم أزرك صيرته مخالفاً للواقع وهذا لا دليل على حرمته فإنَّ المحرّم هو إيجاد الكلام الكاذب لا إحداث صفة الكذب له في مرحلة البقاء فإنَّ أدلة حرمة الكذب يفهم منها حرمة إيجاد الكلام وهو متصّف بالكذب لا إحداث صفة الكذب في مرحلة البقاء.

ولتوضيح الحال أكثر وحصر محلّ النزاع نقول:- هناك حالات ثلاث:-

الحالة الأولى:- أن أُخبِر عن عزمي على زيارتك فأقول ( إني عازم على زيارتك ) ولم أقل ( إني سأزورك ) ، ففي مثل هذه الحالة إذا لم أزره هل يتّصف الكلام بأنه كاذب ؟ كلا لم يكن كاذباً فإنه لم يقل له سأزورك بل قال له عندي عزيمة لزيارتك والعزيمة كانت موجودة حال إخباره ولكن هذه العزيمة زالت بعد ذلك.

فإذن هذه الصورة لا يكون الكلام فيها كاذباً ولا يكون محرّماً مادام قد كانت عنده عزيمة ، نعم إذا لم تكن عنده عزيمة فالكلام يتّصف بالكذب من حين صدوره ولا يتوقّف على البداء بل هو متّصف بالكذب حتى لو زاره بعد ذلك ، وإذا كانت العزيمة موجودة من البداية فمن البداية يكون الكلام صادقاً حتى لو لم يزره بعد ذلك ، فإذن هذه الحالة ليست محلاً للكلام.

الحالة الثانية:- أن أنشئ عزيمتي على الزيارة بأنه أقول له ( لك عليَّ أن أزورك ) وهذا انشاء وليس إخبار ولم أقل له ( سأزورك ) ، من قبيل النذر فأنا أقول ( لله عليَّ أن أفعل كذا ) فهذا انشاء ، فهنا أيضاً أقول لصديقي ( لك عليَّ أن أزورك ) ففي مثل هذه الحالة هل يتّصف الكلام بأنه كاذب لو لم أزره ؟ كلا لأنَّ هذا انشاء والانشاء لا يتّصف لا بالصدق ولا بالكذب ، فإذا زرته لا يتّصف هذا الكلام بكونه صادقاً وإذا لم أزره لا يتّصف بكونه كاذباً فإنَّ هذا انشاء وليس إخباراً فلا يتّصف بالصدق ولا الكذب.

بيد أنَّ بعض الأعلام كصاحب مفتاح الكرامة(قده) ووافقه صاحب الجواهر(قده) فقال:- إنَّ هذا الانشاء ينبئ عن الإخبار فيمكن أن يتّصف بالكذب.

يعني يريد أن يقول:- إنه حينما تقول لك عليَّ أن أزورك فهذا عرفاً يستلزم الإخبار يعني سوف أزورك وهذا ينبئ عن الاخبار وماذا تسمّي هذه الدلالة ؟ وهل تسميها دلالة مطابقية أو تضمنية أو التزامية أو دلالة رابعة وهي الدلالة الإنبائية فإنَّ المناطقة حصروا الدلة في ثلاثة لا يعني أنه لا يوجد غيرها بل اجعل دلالة أخرى غير هذه الدلالات ، فهم قالوا إنه هذا ينبئ عن الإخبار وأنه سوف أزورك فإذا لم يزره فسوف يكون كاذباً.

ونعلّق ونقول:- إنه لو ثبتت هذه الدلالة الإنبائية فالحق معهم ولكني من المترددين في ثبوت مثل هذه الدلالة لهذا الانشاء فإنَّ هذا أوّل الكلام.

قال في مفتاح الكرامة:- ( وقد يجري حكمه في الانشاء المنبئ عن الخبر كوعد غير العازم ونحوه )[1] ، وقال في الجواهر:- ( نعم إنه وإن كان من صفات الخبر لكن يجري حكمه في الانشاء المنبئ عنه مع قصد الافادة )[2] فهذه العبارة قد يستفاد منها أنه يصدق الكذب لو لم يزره باعتبار أنَّ الدلالة الالتزامية موجودة على أنه سأزورك ، ولكني قد قلت لو كانت هذه الدلالة ثابتة فالأمر كما قالوا ولكن ثبوتها أوّل الكلام والأمر إليك فإنَّ هذه قضايا وجداني عرفية ، فإذن هذه الحالة خارجة عن محل الكلام.

الحالة الثالثة:- أن أعدك بالزيارة فأقول لك ( سأزورك في هذا الشهر أو في هذا اليوم ) والمفروض أني لا أذهب ، فهنا تارةً يفترض أنه ليس عندي عزم من البداية على أن أزورك ولكني أردت أن أتخلّص منك بعد إلحاحك عليَّ بالمجيء فهذا عين الكذب وهو خارج عن محل الكلام.

إنما محل كلامنا الذي نريد أن نتحدّث عنه وأن خلف الوعد حرام أو لا هو أن يكون مقصودي أن أزورك ولكني تكاسلت عن المجيء إليك من دون عذرٍ فهذا التكاسل وعدم المجيء هو خلف للوعد فهل هو حرام أو لا ؟

والمناسب بمقتضى الأدلة الأوّلية لحرمة الكذب عدم الحرمة ، لأجل أنه في البداية هذا الكلام لم يكن كاذباً لأنه واقعاً كان قاصداً المجيء ولكن في مرحلة البقاء صار كاذباً وأدلة حرمة الكذب ناظرة إلى مرحلة الحدوث ، يعني التكلّم بكلام وهو كاذب حين صدوره لا تصيير الكلام بعد صدوره كاذباً فإنَّ هذا لا تشمله الأدلة الأوّلية.

ولكن لأدلةٍ أخرى قد يحكم بالحرمة.