23-12-1434


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/12/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- الحلق والتقصير / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
هذا وقد يقال:- إن صحيحة جميل تخصّص العفو بالناسي ولا تثبته للجاهل بيد أنه توجد رواية أخرى تشتمل على الاطلاق من دون وجود الصدر فيها فإن الذي حتّم علينا تخصيص وتضييق صحيحة جميل بالناسي هو صدر الرواية لأنه جاء فيه ( لا ينبغي ) يعني لا ينبغي تقديم زيارة البيت على الحلق إلا للناسي فإن هذا الصدر أوجب التضييق وإلا فلو لم يكن هذا الصدر موجوداً وكانت الرواية مشتملة على الذيل فقط - يعني ( جاء قوم الى النبي قدموا ما أخروا ... فقال لا بأس ) لكانت هذه العبارة شاملة بإطلاقها للجاهل أيضاً ولكن الذي دعانا إلى تضييقها بخصوص الناسي هو الصدر فإذا وجدنا وراية لا تشتمل على الصدر المذكور أمكننا آنذاك الأخذ بإطلاق ما جاء فيها من العفو وتلك الرواية هي  رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر حيث جاء فيها:- ( قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام جعلت فداك إن رجلا ً من أصحابنا رمى الجمرة يوم النحر وحلق قبل أن يذبح ، فقال:- إن رسول الله صلى الله علية وآله لما كان يوم النحر أتاه طوائف .... )[1] ، إن الرواية المذكورة لا يوجد فيها الصدر المذكور وإنما الموجود فيها هو أن الرسول جاءه يوم النحر طوائف يعني أنهم قدّموا ما أخروا وأخّروا ما قدّموا فقال ( لا حرج ) فنتمسك إذن بإطلاق هذه الرواية. وبكلمة أخرى:- إذا كانت الرواية السابقة لا تشتمل على الاطلاق فهذه تشتمل عليه فنأخذ بها وعلى هذا الاساس لا مشكلة في البين بعد وجود مثل هذه الرواية . نعم قد يستشكل في سندها من ناحية سهل بن زياد حيث ورد في سندها على كلامٍ فيه فلو فرض أنّا بنينا على وثاقته ولو لرواية الأكابر والأجلة عنه أو غير ذلك فهل هذه المحاولة صحيحة - أي هل يمكن التمسك بإطلاقها على تقدير صحة السند - ؟ كلا لا يمكن ذلك فإن هذه الرواية وإن كانت مطلقة إلا أن السابقة صالحة لأن تقيّدها إذ أن في السابقة حصراً - يعني حصر الاجزاء بخصوص الناسي - فيتولّد لها مفهومٌ يعني أن غير الناسي لا يجزي في حقه فيكون هذا المفهوم مقيّداً لإطلاق هذه الرواية . نعم لو فرض أن تلك الرواية لم يكن فيها مفهومٌ كمفهوم الحصر وإنما كان موردها هو الناسي كما لو فرض أنه كان الوارد فيها هكذا:- ( الرجل يقدّم الحلق على الذبح ناسياً فإجاب الامام لا بأس ثم استشهد بمقالة الرسول إن قوماً جاءوا ) فهنا لا ينعقد مفهومٌ للرواية الأولى حتى تصير صالحة لتقييد الرواية الثانية ، بيد أن المفروض أن فيها حصراً حيث قال الإمام عليه السلام:- ( لا ينبغي الا أن يكون ناسياً ) فإن هذا حصرٌ ثم استشهد بمقالة النبي صلى الله عليه وآله فلو كانت مقالة النبي عامّة لما خصّص الإجزاء بخصوص الناسي وأن غيره لا إجزاء في حقّه فتصير مقيّدة لإطلاق هذه.
وبهذا أيضاً يتضح اندفاع ما قد يقال لعل مورد الرواية الثانية هو الناسي يعني هكذا:- ( قلت لأبي جعفر الثاني جعلت فدلاك إن رجلاً من أصحابنا رمى الجمرة يوم النحر وحلق قبل أن يذبح  ) يعني ناسياً فلعل المورد هو كونه ناسياً فتصير إذن مختصّة بالناسي بعد فرض كونها حكاية عن واقعة شخصيّة فلا ينعقد فيها إطلاقٌ حتى نحتاج إلى تقييدٍ ، كلا إن هذا الكلامٌ قد اتضح دفعه فإنّا نريد التمسك بكلام النبي صلى الله عليه وآله وليس بكلام الإمام والنبي لم يستفصل عن كونهم ناسين أو جاهلين فينعقد حينئذٍ عمومٌ فالاستشهاد ليس بكلام الإمام حتى يقال لعل تلك المقالة مختصّة بالناسي وإنما الاستشهاد بكلام النبي فينعقد له إطلاقٌ فنتمسك به حينئذٍ.
والخلاصة:- يمكن أن يقالإن الحكم بالاجزاء - أي في حالة تقديم الحلق على الذبح - يختص بالناسي  ولا يعم الجاهل لأجل الحصر الموجود في صحيحة جميل .
ولكن يمكن أن يردّ ذلك ويقال:-صحيح إنه قد ورد حصر الاجزاء بالناسي ولكن رغم ذلك يمكم الحكم بالتعميم للجاهل وذلك بأن نفسّر الناسي في كلام الامام بالغافل فيصير المعنى هكذا ( لا ينبغي إلا أن يكون غافلاً ) فالنسيان يراد منه مطلق الغفلة الشامل للجاهل ، بيد أن هذا مجرد احتمال وجيه ويحتاج إلى اثبات ومجرد الوجاهة لا تكفي لثبوته فنحتاج إلى بيانٍ يثبت هذا الاحتمال وأن المقصود من الناسي هو مطلق الغافل وفي هذا المجال يمكننا أن نذكر هذا البيان وهو أن الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله في يوم النحر لا يحتمل أنهم بأجمعهم كانوا ناسين بل توجد شريحة منهم كانت مصداقاً لعنوان الجاهل حتماً ، بل نصعّد اللهجة ونقول إن الناسي يندر وجوده في زماننا الذي وصلت فيه الأحكام فإن الذي يقدّم فعلاً على فعلٍ ينشأ ذلك غالباً من جهله وإلا فالنسيان يتصوّر في حق طالب العلم الذي عنده دراسة وإحاطة فهذا يصير عنده نسيان وأما الطبقة العامّة من الناس فوجد عندهم جهلٌ خصوصاً في تلك الفترة الزمنيّة التي كانت فيها معالم الحج لم تصل بعدُ إلى الناس فالمقصود إذن من الناسي على أساس هذه القرينة التي أبرزناها هو مطلق الغافل الشامل للجاهل فالنبي صلى الله عليه وآله حينما قال ( لا حرج ) يعني لا حرج في حقّ الناسي والجاهل أي مطلق الغافل بعدما كانت الشريحة العامّة هي مصداقٌ للجاهل دون الناسي ، وعلى هذا الأساس لا مشكلة من هذه الناحية ويثبت بهذا أن الحكم بالعفو يعمّ الجاهل هذا كله بالنسبة إلى الناسي وإلى الجاهل.
وأما بالنسبة إلى العامد:- بمعنى أنه لو فرض أن الشخص تعمّد فجاء بالحلق قبل الذبح فهل يجزيه ذلك غايته يكون آثماً حيث عصى الوجوب التكليفي بالترتيب أو يكون ذلك منه باطلاً ؟ المعروف بين القدماء هو الصحّة وأنه لا تجب عليه الاعادة فالترتيب على رأيهم تكليفي فقط من دون أن يستتبع الحكم الوضعي وهذا من أحد الموارد - على رأيهم – التي يكون فيها حكم تكليفيّ موجودٌ ولكن لا يترتب عليه حكمٌ وضعيّ ، قال المحقّق(قده) في الشرائع بعد أن بيّن أن الترتيب لازمٌ:- ( فلو قدّم بعضهاً على بعضٍ أثِمَ ولا إعادة )
، وعلق في المدارك بقوله:- ( إن الأصحاب قاطعون بعدم وجوب الاعادة وأسنده في المنتهى إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه )[2] ، وقال في الجواهر ( بلا خلافٍ محقّقٍ أجده فيه)[3] أي في عدم وجوب الإعادة . . إذن رأي القدماء هو أن الترتيب واجبٌ تكليفاً فقط.

ولكن كيف نستدلّ لهم على لذك ؟
والجواب:- يمكن أن يستدلّ على التعميم حتى للعامد بالروايات الأربع التالية:-
الرواية الأولى:- صحيحة جميل المتقدّمة فإنها قالت:- ( جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وقد قدّموا ما أخّروا وأخّروا ما قدّموا ) وكان الجواب بنفي الحرج وهي لم تخصّص بالناسي والجاهل والنبي صلى الله عليه وآله لم يستفصل أيضاً عن ذلك فمقتضى ترك الاستفصال هو العموم حتى للعالم العامد.
وفيه:-
أولاً:- إن استشهاد الامام عليه السلام بما صدر من جدّه لا يتمّ إلا إذا كان ما صدر من جدّه خاصاً ولا يشمل العامد إذ لو كان يشمله فلماذا قال عليه السلام في صدر الرواية ( لا ينبغي إلا أن يكون ناسياً ) – وواضح أن كلمة ناسياً هي بالمعنى الشامل للجاهل يعني أن الغافل هو المقصود – فحصره بهذا إن هذا الحصر يكون باطلاً إذا فرض أن كلام جدّه كان شاملاً للعامد أيضاً . إذن إن نفس حصر الامام العذريّة والإجزاء بالغافل يدلّ على أن ما صدر منه صلى الله عليه وآله لا يعم العامد فمثل هذه الرواية لا يمكن أن نستفيد منها الإجزاء في حقّ العامد فلا تكون آنذاك مقيّدة لما دلّ على اعتبار الترتيب.
وثانياً:- يمكن أن ندّعي أن ما صدر من النبي صلى الله عليه وآله هو في حدّ نفسه ليست فيه شموليّة للعامد بلا حاجة الى الاستشهاد بصدر الرواية فحتى لو فرض أن صدر الرواية لم يكن موجوداً فلا يمكن آنذاك أن نفهم السعة والشموليّة إما باعتبار أن ذلك قضيّة في واقعة ولعل الذين جاءوا كانوا بأجمعهم هم أصحاب غفلة وليسوا بعامدين وفي القضيّة الشخصيّة لا يمكن استفادة الشموليّة والعموم وإنما يستفاد ذلك في غير المجال المذكور كما لو قال صلى الله عليه وآله هكذا:- ( من قدّم ما ينبغي تأخيره أو أخّر ما ينبغي تقديمه فلا حرج ) فلو كان قد صدر منه هذا الكلام بهذا الشكل فتنعقد حينئذ سعةٌ وشموليّةٌ أما إذا فرض أنه لم يكن هكذا وإنما هي قضيّة في واقعة - يعني اتفاقاً جاء قومٌ وحكم في حقكم بكذا - فهذا لا يدلّ على العموم.
وثالثاً:- إنه حتى لو فرض أن النبي صلى الله عليه وآله ابتداءً قال:- ( من قدّم ما ينبغي تأخيره أو أخّر .. فلا حرج ) فمع ذلك لا نستفيد الاطلاق وذلك باعتبار أنه اعتمد على قضيّة واضحة وهي أن المؤمن قد جاء إلى الحج ولا يقصد أن يخالف الله علانية وعمداً فالحاج يعرف أن هذا يلزم تأخيره أو تقديمه ومع ذلك يخالف ؟! إن الحاج لا يفعل ذلك . إذن هذه القرينة الواضحة قد اعتمد عليها النبي صلى الله عليه وآله فتكون بمثابة المقيّد المتّصل فلا ينعقد إطلاقٌ آنذاك بقطع النظر عن مسألة قضيّة في واقعة بل ابتداءً لو صدر من النبي ذلك فمع ذلك لا ينعقد الاطلاق لما أشرنا إليه . إذن هذه الرواية لا تصلح لتعميم العذريّة الى الجاهل.


[1] وسائل الشيعة، العاملي ، ج14، ص212، ب1 من الحلق والتقصير، ح6، آل البيت.