1440/05/27


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

40/05/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسـألة ( 62 ) – شرطية الاختيار – شروط المتعاقدين.

وأما بالنسبة إلى الأمر الثاني[1] :- فقد أفاده فيه ثلاث نقاط:-

الأولى:- إنه مع التمكن من التفصّي بغير التروية لا يصدق الاكراه حقيقة وعرفاً لعدم خوف الضرر من المخالفة.

الثانية:- إنَّ هذا يسري إذا تمكن من التفصّي بالتروية ولكن لأجل الروايات خوفاً من محذور حملها على الفرد النادر نرفع اليد عن هذا ونقول لا يعتبر العجز عن التفصّي بالتورية حكماً لا موضوعاً.

الثالثة:- شفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عماّر ولم ينبهه على التورية.

ونحن نعلق ونقول:-

أما ما أفاده بالنسبة إلى النقطة الأولى:- فهذا جيد ، يعني قال لا يصدق الاكراه مع إمكان التفصّي بغير التورية ، فعرفاً وحقيقةً لا يصدق الاكراه ولا يوجد عندنا تعليق.

وأما ما أفاده في النقطة الثانية فجوابه:-

أولاً:- ذكرنا سباقاً أنه لا يلزم محذور الحمل على الفرد النادر ، فإنَّ المورد ليس من التخصيص حتى يلزم ذلك ، يعني أنَّ الروايات التي أخذت لفظ الاكراه وقالت ( رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه ) أو الروايات التي كانت تقول ( لا يجوز طلاق المكره ولا عتقه ) هنا نقول لا يصدق الاكراه مع المتكن من التورية ، فأين يلزم حملها على الفرد النادر ؟!! ، فإنَّ معنى الحمل على المعنى النادر هو أنَّ المعنى وسيع ونحن نأتي ونخصصه ، أما إذا كان ضيقاً من أساسه فهنا لا يلزم الحمل على الفرد النادر.

ثانياً:- يرد على حديث نفي الاكراه أنه يمكن أن يقال: إنَّ أفراد الاكراه ليست منحصرة بالعقود الايقاعات حتى نقول يلزم حينئذٍ الحمل على الفرد النادر ، بل له موارد كثيرة أخرى ، كما لو كان الاكراه على شرب الخمر أو السرقة أو الاكراه على سائر المحرّمات ، فتبقى مساحة واسعة لحديث نفي الاكراه لا أنه يلزم تخصيصه بحيث لا تبقى إلا أفراد قليلة ، بل هناك أفراد كثيرة موجودة في غير العقود الايقاعات ، فبالتالي لا يلزم حمله على الأفراد النادرة ، فإنَّ تصور حمله على الأفراد النادرة إنما يصح فيما إذا كان مختصّاً بباب العقود والايقاعات فنقول حينئذٍ سوف يلزم مثلاً حمله على العاجز عن التورية ، والعاجز عن التورية أفراده قليلة فهذا لا يصح ، فلا يصح أن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه ) ثم يخصص ، ويخصص يعني بحيث لا يبقى إلا الأفراد النادرة الذين لا يمكنهم التخلّص بالتورية ، ولكن نحن نقول: إنَّ هذا الحديث له موارد ومجالات أخرى وهو الاكراه على غير العقد والايقاعات كالإكراه على المحرّمات الأخرى أو على ترك الصوم أو الحج ، فإذاً توجد له مساحة واسعة ولا يلزم حمله على الأفراد النادرة.

ثالثاً:- من قال إنَّ حالة العجز عن التفصّي بالتورية حالة نادرة ؟! ، كلا فإنها حالة ليست نادرة ، فلأننا نتعلم في الحوزة العلمية هذه القضية فسوف نلتفت إلى مسألة أنه لابد من التورية ، فأنا لا أتمكن من التورية للغفلة عن وجوبها وإنما نحن تعلمنا هذا في الحوزة العلمية.

بل نقول أكثر: وهو أنه حتى مع تعملنا في الحوزة العلمية لذلك قد تصيب الانسان الدهشة والغفلة فيغفل عن مسألة التورية غفلة تامة رغم أنه يعرف أنه لابد منها.فإذاً موارد عدم التمكن من التورية لدهشة أو لغفلة ليست بالقليلة ، وإنما هي كثيرة ، فلا يلزم من ذلك حمل حديث الاكراه على الأفراد النادرة.هذا كله فيما أفاده في النقطة الثانية من الأمر الثاني.

وأما ما أفاده في النقطة الثالثة فجوابه:- لعله لم ينبهه من باب أنَّ ما صدر من عمّار كان مجرّد لقلقة لسان ، فإذا كان كذلك فمسألة التورية لا مجال لها حتى يحتاج إلى أن يقال له ورّي ، بل جزماً عمّار يقصد ذلك لأنَّ عمّار لا يحتمل في حقه أنه كان يقصد المعنى ، فلابد أنه كان يقصد لقلقة السان لا أكثر ، فلذلك لم ينبهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يلزم التورية.

إن قلت:- إذا كان الأمر كذلك فلا معنى لأن تنزل آية قرآنية وتقول ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ يعني هذه القصية مسألة تخفيف ومنَّة من الله عزّ جل على عبادة حيث إنه في حالة الاكراه جوّز لهم التلفّظ بألفاظ الكفر فإن هذا لا حاجة إليه مادامت القصية مجرّد لقلقلة لسان ؟

قلت:- إنَّ هذه الألفاظ لا يجوز صدورها حتى على مستوى لقلقة اللسان ، لأنَّ هذا نحوٌ من التفاعل مع الكفر الإلحاد بشكلٍ من الأشكال ، فبالتالي الانسان حتى إذا لم بقصد المعنى حقيقة فالتلفّظ بهذه الألفاظ التي فيها إنكار لوجود الله عزّ وجل هي لا تجوز ، فالله عزّ جل امتنَّ عليه وقال مادمت مكرهاً فهذه الألفاظ لو صدرت منك لا محذور فيها.

والخلاصة:- إنَّ كل ما أفاده الشيخ(قده) في الأمر الثاني بنقطتيه الثانية والثالثة قابل للمناقشة.

وأما ما أفاده في الأمر الثالث:- فهو تفصيلٌ من حيث الموضوع ، وما هو مدركه ؟ ، فإنه إذا كانت القضية هي خوف الضرر فأنت قلت في الأمر الثاني إنَّ خوف الضرر موجود في كليهما أو يرتفع في كليهما مع إمكان التفصّي بغير التورية ، فإذا هرب مثلاً فلا اكراه ، لأنه يمكن التخلّص ، وإذا أمكن التخلص بالتورية فأيضاً لا يوجد خوف الضرر ، ففي كليهما لا يوجد خوف الضرر فلماذا هذا التفصيل ؟

أجاب وقال:- إنَّ المدار ليس على خوف الضرر بلحاظ الواقع ولوح الواقع ، وإنما المدار بلحاظ نظر المكرِه ، يعني إن اطّلع المكرِه على أني تفصّيت فهل أخاف الضرر أو لا ؟ فإذا تفصّيت بغير التورية كالهرب فحينئذٍ لو اطلع المكرِه فلا يد له على هذه البلاد التي هربت إليها فأنجو من ضرره ، فلا يوجد ضرر ، حتى من زاوية المكرِه لا يوجد ضرر ، فلا أخاف ذلك لأني هربت منه ، أما إذا تخلصت بالتورية فإن اطلع على أني ورّيت فحينئذٍ سوف يعاقبني ، فالمدار ليس على خوف الضرر بلحاظ الواقع.

وسوف تصير النتيجة هي التفصيل بين إمكان التفصّي بغير التورية فلا ضرر واقعاً ولا ضرر من نظر المكرِه فلا يصدق الاكراه حقيقة ، وهذا بخلافه فيما إذا كان التفصّي بالتورية فإنه إذا اطلع المكرِه فالمكرَه يخاف من العقوبة فإذاً يصدق الاكراه حقيقةً ولا نحتاج إلى الروايات ، والشيخ(قده) إذا كانت عنده كلمة في هذا المطلب فهي هذه.وحينئذٍ صارت النتيجة هي أنَّ الشيخ(قده) انتهى إلى أنه إذا أمكن التفصّي بغير التورية لا يصدق الاكراه موضوعاً وحقيقةً ، لأنَّ المدار على خوف الضرر من زاوية المكرِه وهو لا يخاف من زاوية المكرِه إذا هرب إلى بلادٍ أخرى حتى لو اطّلع على ذلك ، وأما إذا كان التخلص بالتورية فيحث إني أخاف الضرر لو اطّلع لأنه لو اطلع فسوف يعاقبني فحينئذٍ يصدق الاكراه.

والاشكال عليه واضح:- إذ يقال له من أين لك هذا ؟ ، بل يلزم محذور ، وسوف نأتي بنقوضٍ عليه ، من قبيل ما لو أكرهني الظالم على أن أشرب الخمر وأنا أتمكن من التفصّي بالتورية بحيث أمسك الإناء وأصبّه في كمّي فهذا نحوٌ من التخلص بالتورية ، فعلى رأي الشيخ الأعظم(قده) أنت مكرَه وعليك أن تشربه ، لأنه لو اطّلع على أني قد أرقته في كمّي فسوف يعاقبني ، وهل تلتزم بهذا ؟!! إنه لا يمكن الالتزام بذلك ، وهكذا لو فرض أنه قال لي اقتل فلاناً ، وأنا أمسك السيف وأضعه على رقبته وأريه بأني قد ذبحته ولكن واقعاً الأمر ليس كذلك بل توجد عندي طريقة بحيث أريه أنه قد خرج الدم والحال أنه دم كاذب بأن وضعت صبغاً ، فلو اطلع المكرِه هنا على أني فعلت هذه القضية فسوف يعاقبني والحال أنه هل يقال بأني مكرَه ويلزم أن أذبحه ؟!! كلا ، فهذه نواقض واضح.

فإذاً ما أفاده شيء غريب ويرد عليه ما ذكرنا من هذا النقض.

والنتيجة النهائية:- إنه يعتبر في صدق الاكراه العجز عن التفصّي بغير التورية ، بل وبالتورية ، نعم إذا فرض أنه تصعب عليه التورية لغفلةٍ أو دهشةٍ فهذا لا يضرّ بصدق الاكراه ، وبالتالي ما ذكرناه يسجّل كإشكالٍ على السيد الماتن(قده) ، لأنه أيضاً ذكر أنَّ المدار على العجز عن التفصّي القدرة عن التفصّي بغير التورية أما القدرة على التفصّي بالتورية فهذا لا مدخلية له فإنه يصدق الاكراه.

والغريب أنه لا يوجد عنده هذا التفصيل بين التورية وغيرها في المحاضرات[2] ومصباح الفقاهة[3] ولكنه ذكره في متن المنهاج.

فإذاً هو في التقرير ينتهي إلى نفس ما انتهينا إليه بخلاف ما ذكره في المنهاج.

[1] حيث ذكر أنه يعتبر العجز عن التفصي بغير التورية كما لو تمكن من الهرب، فحينئذٍ هذا تفصّي بغير التورية هنا قال(قده) لا يصدق الاكراه يعني حقيقة وعرفاً لا للروايات، وذلك لأن الاكراه قد أخذ فيه عرفاً خوف الضرر على المخالفة وهذا حيث لا يخاف الضرر فلا إكراه، هذا يمكن أن يسرّى إلى إمكان التفصي بالتورية فيقال إنه مع إمكان التفصي بالتورية ايضاً لا يصدق الاكراه لأنه لا يوجد ضرر ففي كليهما يلزم أن يكن الأمر كذلك، يعني عرفاً من كان قادراً على التورية حيث لا يخاف الضرر فلا إكراه، وكلن لأجل الرايات هنا – يعني في خصص التفصي بالتورية نقول لا يعتبر العجز عن التفي بالتورية وإن كان عرفاً يعتبر في صدق الاكراه العجز عن التفصي بالتورية ولكن شرعاً لا يعتبر ذلك لأجل رايات نفي الاكراه والرايات الأخرى فمن البعيد حمل كل هذه الروايات على حالة العجز عن التفصي بالتورية، خصوصاً في قضية عمّار فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان شفيقاً عليه فلماذا لم يقل له إن عادوا فورّي، فهذا معناه أن العجز عن التفصي بالتورية ليس بمعتبر في حكم الاكراه – لا في حقيقته لأنه في حقيقته معتبر عرفاً لكن الشرع تسامح.
[2] محاضرات في الفقه الجعفري، الخوئي، ج2، ص250.
[3] مصباح الفقاهة، ج2، ص580- 581.