جلسة 56

المفطّرات

وفيه: أننا لو أردنا أن نتماشى مع الألفاظ والكلمات والحروف، فما اُفيد وجيه فإنّ المحتلم في الليل إذا استمر به النوم إلى ما بعد الفجر يصدق عليه عنوان أصابتني جنابة فإنّ المحتلم قد أصابته الجنابة جزماً، كما أنّه يصدق عليه عنوان فلم اغتسل حتى طلع الفجر فإنّه حقاً لم يغتسل إلى طلوع الفجر، فالألفاظ والكلمات صادقة عليه، ولكن نقول: إنّ الإنسان العرفي إذا كان ناظراً إلى حالة الاحتلام وأراد السؤال عنها فيشير إليها بعنوانها الخاص، ولا يُعبّر بمثل التعبير المذكور ـ أصابتني جنابة فلم اغتسل حتى طلع الفجر ـ بل يقول استيقظت بعد الفجر فرأيت نفسي محتلماً قبل الفجر، وهذا يعني بعبارة اُخرى: أنّ التعبير المذكور منصرف عرفاً عن حالة الاحتلام، وهذه نقطة مهمة عند مواجهة الروايات فإنّ مُسايرة الكلمات والألفاظ ليست جيدة إذا تجاوزت عن الحدّ العرفي، فيبقى علينا أن نلاحظ أنّ الإنسان العرفي هل يُعبّر بهذا التعبير عن مثل حالة الاحتلام وما أشرنا إليه من الانصراف؟ أو بتعبير آخر: أنّ الإنسان العرفي لا يُعبّر عن حالة الاحتلام بالتعبير المذكور إن لم نجزم به فلا أقل هو مطلب محتمل، فالانصراف إن لم يكن جزمياً فلا أقل من كونه محتملاً، وهذا الاحتمال يكفينا في عدم جواز التمسك بالإطلاق.

وهذه المسألة وإن لم تبحث في علم الاُصول في مبحث الإطلاق ولكنها قضية مهمة، وحاصلها: أنّ الانصراف إذا كان جزمياً فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالإطلاق، وأما إذا كان محتملاً بشكل وجيه كما هو الحال في المقام حيث نحتمل أنّ المقصود هو الجنابة غير الاحتلامية والتي يكون ترك الاغتسال منها ناشئاً من الاختيار، ففي مثل ذلك هل يصح التمسك بالإطلاق؟

المناسب هو عدم التمسك؛ لأنّ مدرك التمسك بالإطلاق هو السيرة العقلائية ونحن لا نجزم بانعقاد السيرة على التمسك بالإطلاق في الحالة المذكورة، فيلزم الاقتصار على القدر المتيقن وهو حالة الجزم بعدم الانصراف أو كونه محتملاً بشكل ضعيف.

وبالجملة أن مقامنا داخل تحت هذه الكبرى.

نعم، من لم يُسلّم بالانصراف المذكور صغروياً ويقول: إن العرف يقصد من التعبير المذكور الأعم، أي بنحو يشمل حتى مثل حالة الاحتلام، فيصح له التمسك بالإطلاق والحكم بشمول الصحيحتين لحالة الاحتلام كما صار إلى ذلك المشهور.

وعليه فالفتوى بمفطّريّة الاحتلام بالنسبة إلى قضاء شهر رمضان أمر مُشكل، بل قد يقال: إنّ البقاء على الجنابة ما دام بلا تعمّد ولو لم يكن بسبب الاحتلام، كما إذا فُرض فقدان الماء أو ضيق الوقت أو ما شاكل ذلك، فلا يضرّ كل ذلك بصحة القضاء لانصراف الصحيحتين إلى حالة الاختيار والتعمّد، فقوله: فلم اغتسل حتى طلع الفجر منصرف إلى أني لم اغتسل باختياري، وهذا الانصراف إن لم يكن جزمياً فلا أقل من كونه محتملاً بشكل وجيه، ومعه لا يصح التمسك بالإطلاق بناءً على القاعدة التي أشرنا إليها وهي أنه متى ما كان الانصراف محتملاً بدرجة وجيهة فلا يصح التمسك بالإطلاق لعدم الجزم بانعقاد السيرة على العمل بالإطلاق في مثل ذلك.

هذا وقد يورد على القاعدة التي أشرنا إليها بإشكالين:

الأوّل: أنّه بناءً على ما ذُكر لا يبقى لدينا إطلاق يمكننا التمسك به، إذ ما من مُطلق الا ونحتمل الانصراف فيه.

الثاني: أنّ الانصراف بدرجة معتدٍ بها أمر غير منضبط، والحوالة عليه في المنع من انعقاد الإطلاق حوالة على أمر غير منضبط.

وكلاهما يمكن دفعه.

أمّا الأوّل فباعتبار أنّ الانصراف المحتمل لا يمنع من التمسك بالإطلاق رأساً بل يمنع منه بلحاظ خصوص الجهة المحتمل فيها الانصراف، ففي المثال السابق يمتنع التمسك بإطلاق الصحيحتين بلحاظ المحتلم، وأما بلحاظ ما إذا كانت الجنابة من حلال أو حرام، وبالإنزال أو بدونه فلا يمتنع التمسك بالإطلاق؛ لعدم الانصراف المحتمل باللحاظ المذكور.

وأمّا الثاني فباعتبار أنّه يمكن تقديم قاعدة منضبطة، بأن يقال: إنّه في كل مورد لا يستهجن العرف من المتكلّم تفسيره لكلامه المُطلق بالحصة الخاصة، فلا يصح التمسك بالإطلاق ويكون احتمال الانصراف احتمالاً مقيّداً به، كما هو الحال في الصحيحتين، فإنّه لو فسّر الراوي مقصوده وقال: إنّي اُريد منه غير حالة الاحتلام لم يكن ذلك مستهجناً.

مسألة 986: لا يبطل الصوم ـ واجباً أو مندوباً، معيّناً أو غيره ـ بالاحتلام في أثناء النهار، كما لا يبطل البقاء على حدث مس الميت ـ عمّداً ـ حتى يطلع الفجر[1].

تشتمل المسألة المذكور على نقطتين:

النقطة الاُولى: أنّ الصائم لو احتلم بعد الفجر فلا يضرّ ذلك بصومه، ولا تلزمه المبادرة إلى الغُسل من دون فرق بين أفراد الصوم، والوجه في ذلك هو عدم الدليل على مفطّريّة الاحتلام في أثناء النهار، ومعه يتمسك إمّا بصحيحة محمد بن مسلم[2] الحاصرة للمفطّرات في ثلاث خصال، بناءً على صحة التمسك بها وأنّ ما صنع صادق حتى على مثل ما يتحقّق بدون الاختيار، أو يتمسك بأصل البراءة على أنّ النوبة لا تصل إلى الأصل لاشتمال المسألة على روايات خاصة قد دلّت على عدم مفطّريّة الاحتلام، من قبيل موثّقة ابن بكير ـ في حديث ـ قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الرجل يحتلم بالنهار في شهر رمضان، يتم صومه كما هو؟ فقال: «لا بأس»[3]، وغيرها.

نعم، جاء في رواية إبراهيم بن عبد الحميد، عن بعض مواليه قال: سألته عن احتلام الصائم؟ قال: فقال: «إذا احتلم نهاراً في شهر رمضان فلا ينام حتى يغتسل»[4]، ولكن يردّها أنّها ضعيفة السند بالإرسال، ومن جهة اُخرى فهي لا تدلّ إلاّ على وجوب الاغتسال قبل النوم من دون دلالة على بطلان الصوم، فلو استمر الصائم إلى الغروب من دون نوم بدون اغتسال فصومه لا إشكال فيه.

يبقى شيء وهو أنه لو فُرض أنّ الصائم قد علم من نفسه أنه لو نام في أثناء النهار لاحتلم جزماً، فهل يجوز له النوم؟ وهل يفطر بالاحتلام إذا تحقّق منه؟

أجاب الشيخ العراقي[5] أنّ ذلك مصداق للاستمناء الاختياري فيكون مفطّراً لأن الاستمناء من أحد المفطّرات كما سيأتي، وأحتاط السيد اليزدي في (العروة)[6] بترك النوم.

_________________________

[1] منهاج الصالحين 1: 265.

[2] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه، ب 1، ح 1.

[3] الوسائل 10: 103، أبواب ما يمسك عنه، ب 35، ح 2.

[4] الوسائل 10: 104، أبواب ما يمسك عنه، ب 35، ح 5.

[5] حاشية العروة الوثقى 3: 564.

[6] العروة الوثقى 3: 547.