36/01/21


تحمیل
الموضـوع:- أحكام المصدود - مسألة ( 439 ).
والكلام في المسألة يقع في نقاطٍ ثلاث:-
النقطة الأولى:- إنّ المصدود هل يلزم أن يكون تحلّله بالهدي أو يجوز أن يكون من دون هديٍ ؟
النقطة الثانية:- إذا بنينا على الحاجة إلى الهدي فهل يحتاج أيضاً إلى ضمّ الحلق أو التقصير كي يحصل التحلل ؟
النقطة الثالثة:- بناءً على الحاجة إلى الهدي هل يلزم ذبحه في مكان الصدّ أو يجوز تأخير ذلك إلى ما بَعدُ - يعني مثلاً إلى يوم النحر في منى - ؟
هذه نقاط ثلاث إذا اتضحت فسوف تتضح المسألة بالكامل.
النقطة الأولى:- هل يلزم الهدي في التحلّل ؟
نسب صاحب المدارك(قده)[1] إلى الأكثر ذلك - يعني أنّ أكثر الفقهاء يقول أنّ التحلّل يتوقّف على الهدي في الصدّ - ونسب الخلاف إلى علي بن بابويه وابن إدريس فإنهما لم يقولا بالحاجة في حصول التحلّل إلى الهدي وربما يظهر منه هو الميل إلى ذلك.
قال في الجواهر:- ( فما عن ابن إدريس وظاهر المحكي عن علي بن بابويه من سقوط الهدي وربما مال إليه بعض متأخري المتأخرين ... )[2]، إن قوله ( وربما ما إليه بعض متأخري المتأخرين ) إشارة إلى صاحب المدارك(قده).
وإذا رجعنا إلى السرائر فنصّ العبارة هكذا:- ( وبعضهم يخصّ وجوب الهدي بالمحصور لا بالمصدود وهو الأظهر لأن الأصل براءة الذمة ولقوله تعالى " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " أراد به المرض لأنه يقال أحصره المرض وحصره العدو )[3]، فعبارته واضحة في أنه يتبنّي عدم الحاجة في حصول التحلّل إلى الهدي لأنه قال بعد أن نقل القول بعدم الحاجة إلى الهدي:- ( وهو الأظهر ).
وقبل أن نذكر الدليل على عدم الحاجة إلى ذلك نقول:- لو فرض أننا راجعنا النصوص واستفدنا منها لزوم الهدي في التحلّل فبها، أو استفدنا منها عدم اللزوم فبها، أمّا لو لم نستفد هذا ولا ذاك فالقاعدة - أعني الأصل- ماذا تقتضي؟
والجواب:- ذكر غير واحدٍ كصاحب المدارك[4] وصاحب الحدائق[5]، وصاحب الجواهر[6] وغيرهم أنه نرجع إلى الاستصحاب يعني استصحاب بقاء الاحرام لأن المصدود قبل أن يُصَدّ كان محرماً سابقاً - يعني تحرم عليه محرمات الاحرام - فبالصدّ نشكّ هل تزول حرمة تلك المحرّمات من دون هديٍ أو يتوقف زوال الحرمة على الهدي فإذا لم يتحقّق الهدي نشك فنستصحب بقاء تلك الحرمة السابقة.
هذا ولكن ابن إدريس ذهب إلى أنّ الأصل هو البراءة كما لاحظنا ذلك في عبارته السابقة لأنه قال:- ( وبعضهم يخصّ وجوب الهدي بالمحصور لا بالمصدود وهو الأظهر لأنّ الأصل براءة الذمة )، فهو لم يتمسّك بالاستصحاب بل تمسّك بأصل البراءة، يعني نحن نشك هل أنّ ذمتنا قد اشتغلت بالهدي أو لا والأصل يقتضي البراءة من ذلك.
ولكن التعليق على ذلك واضحٌ:- حيث عرفنا في أبحاثٍ سابقةٍ أنّه متى ما كان الشكّ يرتبط ببقاء الاحرام وعدمه فالأصل يقتضي بقاء الاحرام كما إذا شككنا أنّ الحلق متعيّن أم أنه يجوز التقصير أيضاً للحاج مثلاً فهنا لا معنى لأن نتمسّك بالبراءة بل نتمسّك باستصحاب بقاء الاحرام لأنّا بالتالي نشك في بقاء الاحرام أو عدمه، وإنما نرجع إلى البراءة لو كان الشكّ لا يرتبط ببقاء الاحرام - وبالإحرام - كما إذا شككنا مثلاً أنه هل يجب الرمي في اليوم الثالث عشر أو لا أو شكنا أنّ الرمي في اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر يتعيّن أن يكون بعد الزوال أو أنه يجوز قبل الزوال وبعده فهنا استصحاب الاحرام لا معنى له لأنّه قد أحلّ فيكون المرجع هو البراءة من تعيّن أحد الوقتين بخصوصه.
إذن هذا مطلبٌ سيّالٌ في باب الاحرام، فمتى ما كان الشك مستتبعاً للشك في بقاء الاحرام فالأصل يقتضي بقاء الاحرام، وأما إذا لم يستتبع ذلك فنتمسّك بالبراءة، وحيث إنّ المورد يكون فيه الشك في بقاء الاحرام فالمناسب هو كما ذكر الأعلام - وهو استصحاب بقاء الاحرام - وليس هو البراءة كما ذهب إليه ابن إدريس.
نعم لو فرض أنّا لم نبنِ على حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة للمعارضة بين استصحاب بقاء المجعول وأصالة عدم الجعل الزائد - كما يذهب إليه الشيخ النراقي والسيد الخوئي- فهنا استصحاب بقاء الاحرام لا يجري لأنه شكٌّ في شبهةٍ حكميّةٍ - يعني نشك أنّ الاحرام الذي هو بعبار أخرى بقاء المحرّمات هل هو باقٍ أو ليس بباقٍ فيكون الشك في حكم شرعيّ كليّ فاستصحاب بقا حرمة المحرمات يعارض بأصالة عدم الجعل الزائد -، إنه إذا بنينا على هذا فالاستصحاب لا مجال له وينحصر الأمر بالرجوع إلى البراءة حينئذٍ، ولذلك مثل السيد الخوئي(قده) لا يتمكّن أن يُجرِي استصحاب بقاء الاحرام - في هذا المورد أو في غيره - فبناءً على عدم حجيّة الاستصحاب في باب الأحكام نعم يكون الأصل هو البراءة، ولكن ابن إدريس بعيدٌ عن مثل هذه المطالب الجديدة، فإذن رجوعه إلى البراءة لا وجه له لفرض أن المورد من موارد الاستصحاب، وحيث إنا نبني على حجيّة الاستصحاب في باب الشبهات الحكميّة خلافاً للسيد الخوئي(قده) فلا مانع إذن من جريان الاستصحاب.
إذن النتيجة:- هي أنّ الأصل يقتضي لزوم التحلّل بالهدي وليس الأصل هو البراءة.
إن قلت:- حتى لو بنينا على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فهو لا يثبت وجوب الهدي إلا بنحو الأصل المثبت.
قلت:- نحن لا نريد أن نثبت عنوان وجوب الهدي فهذا العنوان ليس بمهمّ هنا، وإنما نحن نريد أن نعرف أنّه من دون الهدي هل هو مُحرِمٌ بعد أن يمكن أن يتحقّق الاحلال من دون الهدي وليس المهمّ هو وجوب إثبات الهدي بعنوانه والمفروض أنّ استصحاب بقاء الاحرام يثبت على أنّه مادمت لم تذبح الهدي فأنت باقٍ على الاحرام وهذا المقدار يكفينا.

ونعود للنصوص لنلاحظ أنها تدلّ على ماذا ؟
والنصوص هي الآية الكريمة والروايات الشريفة:-
أما الآية الكريمة:- فهي قوله تعالى:- ﴿ وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهيد محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ﴾[7].
وقد استدل بها العلامة في المنتهى[8]:- على أنّ المصدود يتوقّف حلّ إحرامه على الهدي.
وقد أشكل على ذلك بعدة إشكالات:-
الإشكال الأوّل:- إنّ الآية الكريمة ناظرة إلى المحصور يعني بسبب المرض وكلامنا هو في المصدود، فهي إذن أجنبية عن محلّ الكلام . ويظهر من عبارة ابن إدريس السابقة بيان نكتةٍ لانحصارها بالمحصور وعدم نظرها إلى المصدود وهي أنه قال:- ( ولقوله تعالى " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " أراد به المرض لأنه يقال أحصره المرض وحصره العدو )، وحاصل ما يريد أن يقوله هو أنّ الحصر بالمرض يأتي مع الهمزة فيقال ( أحصره المرض ) بينما بلحاظ العدو فيقال ( حصره العدو )، وحيث إنّه في الآية الكريمة ذكرت الهمزة حيث قيل ﴿ فإن أحصرتم ﴾ فهذا معناه أنّها ناظرة إلى المرض دون العدو.
وربما يظهر من صاحب المدارك(قده)[9] الميل إلى ذلك - يعني إلى اختصاصها بالمريض ولا تشمل المصدود -.
ويمكن أن يقال إنَّ صاحب السرائر هو رجلٌ محيطٌ باللغة والأدب وله تحقيقاتٌ في هذ المجال قد صرّح في بعض الموارد ( بأني سألت أو راسلت فلاناً اللغوي عن كذا فيقول كذا )، فإن مستنده هو أنّه في لغة العرب إذا لوحظ العدو فيقال ( حصره ) لا ( أحصره ).
ولكن نقول:- ما أفاده(قده) وإن كان مورداً للتقدير عندنا إلّا أنه لا يصلح للحجية إذ غاية ما يجيب(قده) هو أنّ فلان اللغوي هو الذي قال كذلك أو اثنين من اللغويين وهذا لا يصلح للحجيّة، فمجرد أنّ لغوياً واحداً او اثنين قالوا بذلك هذا لا يصلح للحجية، نعم لو فرض أنّ أهل اللغة كان عندهم اتفاقٌ على هذا الشيء أو الأكثر منهم على ذلك كان هذا وجيهاً أما أنّه مجرد ينقل فهذا لا يصلح كدليلٍ علميّ، فهذا المقدار الذي ذكره صاحب السرائر لا أرى له قيمة علميّة.
وذكر صاحب الحدائق(قده)[10]هذا الاشكال وقال:- أنّ التفرقة بالشكل المذكور بين المحصور والمصدود تفرقة خاصّة بالفقهاء أو خاصّة بعرف أهل البيت عليهم السلام حيث يظهر من بعض الروايات ذلك ولكن في أصل اللغة الحصر أعمّ فلماذا لا نأخذ بظاهر المعنى اللغوي الآية الكريمة وتبقى تلك التفرقة بين الحصر والصدّ عرفٌ خاصٌّ بالفقهاء وبالروايات ؟!!، قال(قده):- ( والفرق بين المصدود والمحصر إنما هو عرفٌ خاصٌّ عندهم صلوات الله عليهم كما نطقت به أخبارهم ).
وفيه:- إنّ الروايات إذا فرقّت بين المصدود والمحصور فيتولّد احتمالٌ وجيهٌ في أنّ المقصود في الآية الكريمة هو ذلك بحيث تعود كلمة ( أحصرتم ) على الأقل مجملة وليست ظاهرة في الأعمّ، فدعوى بقاء ظهورها في مطلق الحبس بعد تفرقة الروايات شيءٌ صعب.
ولعل الأنسب أن يجاب عن الإشكال:- بوجود قرينتين في الآية الكريمة تدلّان على أنّ المقصود هو الأعم دون الحصر بسبب خصوص المرض:-