37/06/23


تحمیل

الموضوع:- الولاية للجائر - مسألة ( 36 ) – المكاسب المحرمة.

الأمر الرابع:- قال الشيخ الأعظم(قده) ذكرنا في الأمر الثالث أنه إذا دار الأمر بين ضرري مؤمنين أجنبيين فلا رجحان لأحدهما بل لا يجوز للوالي المكره أن يضرّ هذا ولا ذاك والمفروض أنه لو تركهما فسوف لا يلحقه ضرر إلا - وهذا استثناء من الأمر الثالث وأنا ذكرته فيما سبق - إذا كان ضرر المؤمن الآخر هو القتل ، بأن قال له السلطان ( اسلب مال المؤمن الأوّل وإن لم تفعل فسوف أقتل المؤمن الثاني ) ، إنه في مثل هذه الحالة يجوز نهب مال المؤمن الأول ، بل بالأحرى يجب ذلك ، ويكون ضامناً لمال المؤمن الأوّل.

فإذن يوجد حكمان في هذا الأمر الرابع:-

الأوّل:- جواز نهب مال الأول في سبيل انجاء المؤمن الثاني من القتل.

الثاني:- أن يكون الوالي الذي نهب مال المؤمن الأوّل ضامناً لماله ، ونصّ عبارته:- ( بل اللازم في هذا المقام[1] عدم جواز الاضرار لمؤمن ولو لدفع الضرر الأعظم عن غيره ، نعم إلا لدفع الضرر في وجهٍ مع ضمان ذلك الضرر )[2] .

وما هو مدرك هذين الحكمين ؟

والجواب:-

أما الحكم الأوّل فوجهه:- هو دخول المورد تحت باب التزاحم؛ إذ أنّ نهب مال الأوّل حرام لأنه تصرّفٌ في مال الغير ، والتحفظ على دم الثاني شيء واجب فإنه يجب على كلّ مسلمٍ التحفظ على دم المسلم الآخر.

وقد تسأل عن مدرك وجوب التحفظ على دم المسلم ما هو ؟ قلت:- لا توجد رواية واضحة يمكن الاستناد إليها ، وإنما ادّعى صاحب الجواهر(قده) الاجماع والتسالم فقهياً على ذلك ، وأحد موارد الابتلاء التي تجعلنا نفتّش عن مدرك هذا الحكم هو أنّ الإسنان إذا كان ميّتاً سرسرياً فحينئذٍ هل يجوز إزالة الأجهزة الطبية عنه أو لا ؟ وهل يجب التحفظ هنا أو لا فنقول هذا ميّتٌ غاية الأمر أنه سوف يبقى يوماً أو يومين مثلاً فمن يقول بأنّ التحفّظ لازمٌ ويأخذ هذا الحكم حكماً مسلّماً بعرضه العريض فلا يجوّز حينئذٍ إزالة الأجهزة عنه ، نعم إذا زوحم بمؤمنٍ آخر خيف على حياته فهذه قضية ثانية ولكن ابتداء لا يجوز إزالة الأجهزة عنه بل يجب وضعها له ، أمّا إذا قلنا بأن دليل وجوب التحفّظ هو الاجماع والاجماع ليس من المعلوم أنه يشمل هذه الحالة التي فيها الانسان بحكم الميّت فهنا يوجد مجال.

إذن المورد مورد تزاحم بين حرمة نهب مال المؤمن والتصرّف فيه وبين وجوب التحفّظ على المؤمن الثاني عن القتل ، فهنا حكمان متوجّهان إلى الوالي ففي مثل هذه الحالة يصير تراحم ونطبق قواعد باب التزاحم ، وحيث إنّ الدم والحياة أهم فحينئذٍ يحكم بلزوم التحفّظ على الحياة مع نهب مال المؤمن الأوّل.

وهل يمكن التمسّك بمدرك آخر ؟ أعني ما دلّ على أنّ التقية قد جعلت لحقن الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية ، فنتمسك بهذه الرواية ونقول إنَّ التحفظ على الدم هو المقدّم باعتبار أنه لا تقية بلحاظ الدماء ، فلا يجوز أن أتقي بلحاظ الدم ، نعم يجوز لي أن أتقي بلحاظ الأموال فأسلب مال ذلك المؤمن الأوّل في سبيل التحفّظ على دم المؤمن الثاني إذ لا تقية في الدماء ؟

قد يقال:- إنّه لا يمكن ذلك ، باعتبار أنّ هذا الحديث ناظر إلى التقيّة ، وموردنا ليس من التقية؛ إذ المفروض أنه لا يلحقني أنا الوالي ضرر فأين التقية ؟!! إنّ التقية يلزم فيها فرض وجود ضرر يرجع إلى المتّقي الذي يريد أن يتقي لو لم يتّقِ ، أمّا إذا فرض أنه لا يلحقه ضرر فهذا ليس بتقيّة ، والمفروض في مقامنا أنه لا يلحقه ضرر ، فلا يكون المورد من موارد التقية ، وبالتالي لا يمكن لهذا الوالي أن يطبّق الحديث على نفسة ، فينحصر الأمر بالمدرك الأوّل - أعني باب التزاحم -.

والجواب:- نحن نسلّم أنه لا يصدق عنوان التقيّة بلحاظ الوالي ، لكن كيفما كان فإنه يستفاد من هذا الحديث أنّ دم المؤمن لابدّ من التحفّظ عليه ولا يجوز إعمال التقيّة التي تسبب قتله ، وعلى هذا الأساس نطبّق هذا الحديث لا بعنوان التقيّة بل لأجل ما نستفيد منه وهو أنّ دماء المؤمنين يلزم التحفّظ عليها وقد شرّعت التقيّة لأجل حفظ دماء المؤمنين ، وإذا استفدنا هذا فإذن يصحّ التمسّك بالحديث لكن لا بمنطوقه المأخوذ فيه التقيّة حيث لا تصدق التقيّة هنا بل بما نستفيده منه وهو لزوم حفظ دماء المسلمين.

فإذن يمكن أن نذكر هذين المدركين لإثبات تقدّم حفظ دم المؤمن ، فينهب مال المؤمن الأوّل في سبيل الحفاظ على دم المؤمن الثاني.

وأمّا بالنسبة إلى الحكم الثاني فوجهه:- هو أنّ ما دلّ على أنَّ ( من أتلف مال الغير فهو له ضامن ) وهذا الوالي هو قد أتلف مال المؤمن الأوّل فيكون ضامناً.

إن قلت:- لِمَ لا نطبّق حديث نفي الاكراه ، لفرض أنّ الوالي مكره حيث يريد أن ينقذ المؤمن الثاني ؟

قلت:- إنّ المورد ليس من موارد الاكراه لما أشار إليه الشيخ(قده) من أنّ شرط انطباق الاكراه أن يتضرّر الشخص لو لم ينفّذ أمر السلطان أو يتضرر بعض أقاربه - ونحن أضفنا الأجانب الذين ألمهم يكون ألماً له - ، وفي المقام الأمر ليس كذلك ، فإذن في مثل هذه الحالة لا يمكن تطبيق حديث نفي الاكراه حتى يرفع لنا الضمان.

هذا مضافاً إلى أنّ شرط تطبيق حديث نفي الاكراه هو أنّ لا يلزم خلاف المنّة ، وفي المقام يلزم خلاف المنّة؛ إذ المؤمن الأوّل سوف يتلف ماله من دون ضمانٍ وتعويضٍ وهذا خلاف المنّة بالنسبة إليه ، والحديث لا يشمل مورد خلاف المنّة فإنّه امتنانيٌّ بقرينة ( رفع ) فإنّ الرفع يستبطن هذا المعنى ، يعني أنّ الرفع لا يستعمل إلا في موارد الامتنان ، كما أنّ كلمة ( أمتي ) تدلّ على ذلك ، فهذان اللفظان - معاً أو كلّ واحد على حدة - يدلان على الامتنان ، فالحديث لا يشمل المورد الذي هو خلاف المنّة.

إن قلت:- صحيح أنه لو طبقنا الحديث يلزم خلاف المنّة على المؤمن الأوّل ولكن بالتالي إذا لم نطبّقه فسوف يلزم ثبوت الضمان على الوالي وهو خلاف المنّة أيضاً ؟

فإذن تطبيق الحديث لرفع الضمان هو خلاف المنّة ، كما أنَّ عدم تطبيقه يلزم خلاف المنّة أيضاً ، إذ تطبيقه يلزم منه رفع الضمان وهو خلاف المنّة على الأول ، وعدم تطبيقه يلزم منه الحكم بالضمان على الوالي وهو خلاف المنّة أيضاً ، فبالتالي يلزم المخالفة للمنّة من تطبيق الحديث ومن عدم تطبيقه معاً فلماذا ترجّح عدم تطبيق الحديث ؟

قلت:- إنّ اللازم هو أن لا يلزم خلاف المنّة بلحاظ التطبيق ، فالتطبيق مشروطٌ بأن لا يلزم منه خلاف المنّة ، وأما عدم التطبيق فلم يؤخذ فيه عدم خلاف المنّة ، فتطبيق الحديث حيث أنه جاء امتنانياً فشرط تطبيقه أن لا يلزم خلاف المنّة ، أما عدم التطبيق فلا يلزم أن يكون امتنانياً ، فالمنّة معتبرة في التطبيق وليست معتبرة في عدم التطبيق ، وعلى هذا الأساس لا معنى لأن يلاحظ عدم التطبيق ويقال إذا فرضنا أنّا لم نطبقه يلزم بالتالي الضمان على الوالي وهو خلاف المنّة ، بل دعه يلزم خلاف المنّة ، فالمنة وعدم المنّة ليسا محذورين بلحاظ عدم التطبيق وإنما هما محذوران بلحاظ التطبيق ، وهذا مطلب ينبغي أن يكون واضحاً.

إن قلت:- إما هو مدرك الحكم بالضمان ؟

قلت:- هو قاعدة ( من أتلف مال الغير فهو له ضامن ).

وما هو مدرك هذه قاعدة ؟

والجواب:- مدركها ليس إلا السيرة ، وإلا فلا يوجد مدرك لفظي له إطلاق تام - وقد تحصل على شيءٍ من هنا أو هناك ولكنه لا يوجد فيه إطلاق تام سنداً ودلالةً فإنّ ذلك يصعب تحصيله -.

فإذا كان المدرك هو السيرة فقد يشكك ويقال من قال إنّ السيرة انعقدت على الضمان في هذا المورد - يعني إذا فرض أن اتلاف المال كان بهدف حفظ دم المؤمن الثاني يعني ليس اشتهاءً ولا رغبة في ذلك وإنما لهدفٍ سامٍ - فإنّ هذه القضية ليست ابتلائية حتى نعلم أنّ السيرة الخارجية ماذا تقتضي وحتى نقول هي منعقدة جزماً على هذا ؟

قلت:- صحيحٌ أنّ السيرة عملاً وخارجاً ربما لم يثبت انعقادها ولكن إذا رجعنا إلى النكتة المرتكزة في أذهان العقلاء فهي وسيعة من هذه الناحية ولا تخصّص بموردٍ دون آخر ، فمن أتلف مال غيره ولو لعذرٍ يكون ضامناً غاية الأمر أنه يكون معذوراً ولا يكون معاقباً لا أنه لا يكون ضامناً رأساً.

وهذه القضية التي أشرنا إليها هي فرعُ بحثٍ آخر يذكر في باب السيرة العقلائية وأنّ المدار في تطبيق دليل الامضاء هل هو السيرة بمقدار وجودها الخارجي الفعلي أو أنّ المدار على النكتة المرتكزة في اذهان العقلاء بقطع النظر عن سعة وضيق العمل الخارجي ؟ فدليل الامضاء - أعني سكوت الشارع الذي نستكشف منه الامضاء - هل يشمل تلك النكتة ؟ فإن كانت وسيعة فيه حينئذٍ تكون ممضاةً على سعتها دون العمل الخارجي ، وهذا البحث له ثمرات مهمّة ومن جملتها قاعدة ( من حاز ملك ) ، ففي الزمن السابق كانوا يحوزون سمكةً أو حطباً أو ماءً أمّا أنه يحوز حيازة النفط أو الكبريت أو غير ذلك فهذه الظاهرة لعلها لم تكن موجودةً ، فلو فرضنا أنّ شخصاً حاز نفطاً فبناءً على أنّ المدار على السيرة بمقدار وجودها الخارجي فلا نستطيع أن نثبت أنّ هذا الشخص أحقّ به من غيره ، أما إذا كان المدار على ضيق وسعة النكتة العقلائية فالعقلاء لا يفرّقون بين أن يكون الشيء المحاز من قبيل السمكة أو قبيل النفط أو الكبريت أو ما شاكل ذلك ، وعلى هذا المنوال قس ما سوى ذلك وهو كثير.

فإذن هذا البحث نافع ، والشيخ الأصفهاني(قده) كما قرأنا يرى أنّ المدار على العمل الخارجي ، وهكذا السيد الخوئي(قده) على ما ببالي ، والبعض الآخر مثل السيد الشهيد(قده) كان يقول إنَّ المدار على النكتة العقلائية ، فإذا قلنا إنّ المدار على النكتة العقلائية فهي وسيعة ولا تختصّ بحالة ما إذا كان للشخص عذرٌ بل تشمل حتى إذا فرض أنه كان في اتلافه معذوراً ، ومادام المدار على النكتة فلا مشكلة من هذه الناحية ، فإذن الضمان موجود.

نعم يبقى شيء واحد وهو أنه بعد أن حكمنا بالضمان هل يستقرّ الضمان على الوالي أو أنه يتمكن من الرجوع على السلطان ؟

وهذا البحث لو لاحظته عملاً فإنه لا ينفع شيئاً لأنّه أيُّ شخصٍ الذي يستطيع أن يرجع إلى السلطان !! ولكنه كبحثٍ علميّ هل يتمكن أن يرجع إليه ؟ فإنه لا كلام في أن الوالي يضمن ولكن هل يستقر الضمان عليه أو يستقر على السلطان ؟ يوجد مجال في أن نقول يستقر الضمان على السلطان ، باعتبار أنه هو الذي أوقع الوالي في هذه المخالفة والعقلاء يرون مثل هذه الحال أنَّ الضمان ثابت على الذي سبّب وأوقع هذا الضرر ، وهذا بحثٌ آخر - وهو أنّ الضمان هل يستقر على الوالي أو السلطان – ولكن بالتالي يكون الوالي ضامناً.


[1] الذي هو اشارة الى الامر الثالث يعين لو دار الامر بين ضررين ماليين لمؤمنين.