38/08/12


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/08/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

وفي هذا المجال قد يتمسك بالآية الكريمة تارة وبالروايات الشريفة تارة أخرى:-

أما الآية الكريمة فنقصد بها قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله ما لا تفعلون ﴾[1] ، ولعل دلالتها واضحة ولا تحتاج إلى تقريب.

ولكن قد يشكل بإشكالين:-

الاشكال الأول:- إنَّ دلالتها على الحرمة محل تأمل فإنه لا توجد صيغة نهي أو اثبات عقاب حتى يثبت من خلاله التحريم ، نعم هي قالت ﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾ وهذا تأنيب والتأنيب أعم من الحرمة بل قد يكون على العمل غير المحبّب والمكروه ، وهكذا قالت ﴿ كبر مقتاً عند الله ﴾ فإنه لو أريد استفادة التحريم من هذه الفقرة فنقول إنَّ المقت عبارة عن البغض أي كبر بغضاً وعظم بغضاً أن يقول الإنسان شيئاً لا يفعله وهذا التعبير ربما يقال فيه دلالة على الحرمة ، ولكني من المترددين في استفادة التحريم منه فإنَّ المبغوض بالكراهة الشديدة أيضاً مبغوض بغضاً شديداً ولكن ليس بدرجةٍ يوجب استحقاق العقوبة والذي يدل على التحريم هو أن يبلغ البغض إلى درجةٍ يوجب استحقاق العقوبة ، والآية الكريمة لا تدل على أنَّ هذا البغض يبلغ درجة استحقاق العقوبة بل نحن من المترددين ، والأمر إليك.

الاشكال الثاني:- إنَّ الآية الكريمة مجملة لا من حيث الدلالة على التحريم أو الكراهة كما كان في الاشكال الأوّل ، كلا بل لنفترض أنها دالة على التحريم ولكن ما هو المحرّم ؟ إنَّ المحرّم هو ﴿ أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾ فيحتمل أنَّ المقصود على وزان ﴿ أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم ﴾ فالمقصود هو أن تأمر غيرك كما لو كنت تنهى الناس عن الغيبة ولكنك تغتاب الناس ، فهذا الشخص يأمر بشيء ولكنه لا يطبّق ذلك ، فالآية الكريمة ناظرة إلى هذا ، ومحل كلامنا ليس في الأمر بشيء مع المخالفة في مقام التطبيق وإنما كلامنا في الوعد بشيء مع مخالفة لذلك الوعد ، فيحتمل أنَّ الآية الكريمة ناظرة إلى الأمر مع عدم التطبيق وليس مع الوعد مع الخلف.

وقد يجاب عن الاشكال الثاني بالأجوبة الثلاثة التالي:-

الجواب الأوّل:- أن يدعى التمسّك بالإطلاق فنقول الآية مطلقة فقابلة لشمول هذا وذاك وليس بينهما مانعة جمع ، وكلاهما يصدق عليه ( قال شيئاً لم يفعل ) فكما ينطبق على تلك الآية الكريمة ينطبق على هذه الآية الكريمة يعني كما ينطبق على الأمر بشيء مع مخالفة الأمر ينطبق أيضاً على الوعد مع مخالفته فلا توجد مانعة جيع بينهما فنتمسّك بالإطلاق فيصير كلاهما محرما وذلك هو المطلوب.

وفيه:- إنَّ شرط التمسّك بالإطلاق وجود الجامع المعنوي ، أي أن يكون اللفظ دالاً للطبيعة ويكون للطبيعة الواحدة مصداقان أو مصاديق أما أنه يوجد تغاير وتباين بين الأفراد والاشتراك والاتفاق هو على مستوى اللفظ فقد فهذا ما يعبّر عنه بالاشتراك اللفظي يعني يشتركان في اللفظ فقط ، وفي باب الاشتراك الفظي لا يمكن التمسك بالإطلاق بل يحصل إجمال ، إذ لا يوجد جامع مشترك معنوي حتى يقال إنَّ المولى نهى عن الطبيعة الجامعة ولم يقيدها بقيد فيثبت الاطلاق ، لكن في باب الاشتراك اللفظي المفروض أنه لا توجد طبيعة موحدة ولذلك إذا قال ( جئني بزيد ) وكان يوجد عندنا زيدان فهل تستطيع أن تتمسّك بالإطلاق ؟ كلا فإنَّ هذا مجمل فإنَّ هذه أفراد متغايرة ولا يوجد جامع معنوي بينها ، ولو قلت: إنَّ الجامع موجود وهو الانسان ؟ فأقول: إنه لم يقل جئني بإنسان وإنما قال جئني بزيد فلو كان يقول جئني بإنسان فكلامك صحيح أما بعدما قال ( جئني بزيد ) وزيدٌ لم يوضع للطبيعة الجامعة بينهما وإنما وضع لهذا بوضعٍ ولذاك بوضعٍ آخر فيصير مجملاً وهذا من الواضحات فإنه في باب الاشتراك اللفظي يصير الفظ مجملاً فلا يمكن التمسّك بالإطلاق ، ومقامنا من هذا القبيل فإنَّ المعنيين متغايران ولا يوجد جامع مشترك بينهما معنوي موضوع له فإنَّ أحد المعنيين هو الأمر بشيء مع المخالفة والثاني هو الوعد مع المخالفة والوعد من مقولة والأمر من مقولة ثانية فهما من مقولتين مختلفتين ولا يوجد جامع معنوي بينهما ، فإذن لا يمكن التمسّك بالإطلاق.

الجواب الثاني:- وهو أن يقال: هناك قرينة في الآية الكريمة على أنَّ المقصود هو الوعد مع المخالفة وليس هو الأمر مع المخالفة وهي أن الآية عبرت بالقول فقال ( لِمَ تقولون ) هذا لا ينطبق على الأمر فإن الأمر لا يصدق عليه ( قال ) إنما يصدق ( قال ) إذا وعدك فإذا وعدتك أن أصنع لك الشيء الفلاني فهنا قلت شيئاً وخالفت أما إذا أمر وهو على المنبر بشيء وخالفه تحت المنبر فهذا لا يصدق عليه ( قال ) هكذا ربما يجاب.

وفيه:- إنَّ الأمر مع المخالفة عملاً هو أيضاً نحوٌ من القول فإنَّ الأمر يتحقق بالقول فيصدق على الآمر أنه قال شيئاً على المنبر ولم يطبّقه على الأرض ، فمن هذه الناحية يمكن أن يقال إنَّ الآية الكريمة صالحة أن تشمل الأمر بالشيء مع المخالفة عملاً فإن الأمر أيضاً هو نحوٌ من القول.

الجواب الثالث:- صحيح أنَّ الآية الكريمة يحتمل أن يراد منها الأمر بشيء مع المخالفة عملاً ولا يقصد منها محل حديثنا - وهو الوعد بشيء مع المخالفة - ولكن بعض الروايات فسّرتها بالوعد مع المخالفة ، من قبيل ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام :- ( عِدَةُ المؤمن أخاه نذرٌ لا كفارة له فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض وذلك قوله " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ")[2] ، إذن الرواية فسّرت الآية الكريمة بشكلٍ واضح بالوعد مع المخالفة وليس بالأمر مع المخالفة عملاً.

وقد يناقش هذا الجواب:- بأنَّ هذا بالتالي تمسّك بالرواية وليس بالآية الكريمة ، أجل إذ فرضنا أنَّ الرواية كانت مجملة في دلالتها على التحريم بينما الآية الكريمة كانت واضحة في التحريم بيد أنه كان يعوزها شيء وهي أن يثبت أن المقصود منها الوعد مع المخالفة فإذا جاءت الرواية وفسّرت الآية الكريمة بالوعد مع المخالفة وفرضنا أنَّ الرواية كانت مجملة كما في روايتنا هذه فإنها قد تكون غير واضحة في الدلالة على التحريم لأنها قالت ( عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض ) فإذا قلنا إنَّ ( عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له ) ليس فيه دلالة على الالزام وكذلك قلنا إنَّ عبارة ( فمن أخلف فبلخف الله بدأ ) لا دلالة فيها على الحرمة فإنَّ المخالفة تصير بالمكروه أيضاً ، وكذلك قوله ( ولمقته تعرّض ) لا دلالة فيها على الحرمة لأنَّ التعرض للمقت موجود في المكروه ، فإذا قلنا هكذا فسوف تصير الرواية قاصرة في الدلالة على التحريم ، ولكن الرواية استشهدت بالآية الكريمة وقالت إن المقصود من الآية الكريمة هذا المعنى فحينما قالت ﴿ لِمَ تقولون ما لا تفعلون ﴾ يعني المقصود الوعد مع المخالفة فحينئذٍ إذا ثبت بالرواية ذلك نذهب إلى الآية الكريمة فإذا كانت الآية الكريمة فيها دلالة على التحريم رغم أنَّ الرواية لا دلالة فيها على التحريم ، فإذن نستفيد في مثل هكذا مورد من ضمّ الرواية إلى الآية الكريمة وتفسير الآية الكريمة من خلال الرواية ، فليس دائماً نقول هذا تمسّك بالرواية وعودٌ إليها فإذا كانت الرواية لا تدل على التحريم فإذن لا نستفيد شيئاً ، كلا ليس الأمر كذلك ، بل أحيانا رغم أنَّ دلالة الرواية ضعيفة كما افترضناها هنا ولكن رغم ذلك نستفيد من الآية الكريمة إذا كانت دلالتها على التحريم ثابتة لأن اقصى ما كان يقف أمامنا بلحاظ الآية الكريمة أنها مجملة فلا يدرى أنَّ المقصود هو الأمر مع المخالفة أو المقصود هو الوعد مع المخالفة وبالرواية ثبت أنَّ المقصود هو الوعد مع المخالفة فيمكن التمسّك آنذاك بالآية الكريمة لو كان فهيا دلالة على التحريم رغم أنَّ الرواية ليس فيها دلالة على التحريم.

ومن باب الكلام يجرّ الكلام نقول:- توجد ثمرة ثانية ، وهي أنه كما إذا فرضنا أنَّ الآية الكريمة كانت تشتمل على اطلاق والرواية لم تشتمل على الاطلاق فتفسير الآية الكريمة من خلال الرواية سوف نستفيد منه أنّا سوف نتمسّك بإطلاق الآية الكريمة فيما إذا فرضنا أنَّ الرواية ليس فيها دلالة على الاطلاق ، فإذا لم يكن للرواية اطلاق فنتمسّك بإطلاق الآية الكريمة.

إذن هاتان فائدتان لضمّ الرواية إلى الآية الكريمة ، فعلى هذا الأساس سوف تصير النتيجة هي أنه لو سلّمنا أنَّ الآية الكريمة كانت مردّدة بين الأمر مع المخالفة عملاً وبين الوعد مع المخالفة ولكن باسطة الرواية سوف يتعيّن أنَّ الآية الكريمة ناظرة إلى الوعد مع المخالفة وليس مع الأمر مع المخالفة عملاً ، فإذا كانت كذلك والمفروض أنَّ الآية الكريمة تدل على التحريم فتثبت دلالة الآية الكريمة ، وهذه طرقة ظريفة ويندفع الاشكال حينئذٍ عن التمسّك بالآية الكريمة من خلال ضمّ الرواية إليها ، ولكن قلنا شريطة أن تكون الآية في نفسها دالة على التحريم ، ونحن في الاشكال الأوّل قلنا يوجد تأمل في استفادة التحريم منها فلذلك ضمّ الرواية إلى الآية الكريمة في المقام لا نستفيد منها شيئاً . هذا كلّه بلحاظ الآية الكريمة وقد اتضح أنه يشكل التمسّك بها لإثبات التحريم.