38/11/23


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/11/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 37 ) حكم الضرائب – المكاسب المحرمة.

والرواية هي ما راه لشيخ الكليني عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد وحمد بن محمد جميعاً عن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام ، والرواية صحيحة لأنه سهل بن زياد وإن ورد في السند ولكن ي يوجد معه غيره وهو أحمد بن محمد وهو إما ابن عيسى أو البرقي وكلاهما ثقة ، كما أن العدّة لا مشكلة فيها ، والحسن بن محبوب ثقة وهشام بن سالم ثقة وأبي عبيدة الحذّاء ثقة أيضاً وهو صاحب الرواية في المعرفة ( من بنى مسجداً كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنَّة ) ، فإذن الرواية صحيحة ، ونصّها:- ( سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم ، قال:- فقال:- ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ، قيل له:- فما ترى في مصدِّق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا فنقول بِعناها فيبيعنا فما تقول في شرائها منه ؟ فقال:- إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس ، قيل له:- فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسّم لنا حظنا ويأخذ حظّه فيعزله بكيلٍ فما ترى في شراء ذلك الطعام منه ؟ فقال:- إن كان قبضه بكيلٍ وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل )[1] .

ويمكن التمسّك بجميع الفقرات الثلاث لإثبات جواز أخذ الخرا أو الزكاة من الظالم بشراء أو بهبة أو غير ذلك وإن كان موردها الشراء ولكن بضم عدم الفرق يثبت الباقي ، بل يمكن أن أقول هي تدل على المفروغية عن ذلك فإن أصل الجواز مفروغ عنه ولذلك السائل لم يسأل عن أصل الجوا وإنما أخذ يُسأل عن أمورٍ جانبية أخرى فلو كان أصل الجواز محل اشكال كان الأنسب له أن يسأل عن أصل الجواز فعدوله في السؤال إلى قضايا جانبية يدل على المفروغية عن اصل الجواز.

وإذا ذهبنا إلى الفقرة الأولى التي ورد فيها ( سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق ، فقال:- لابأس حتى تعرف الحرام بعينه ) فهي تدل أيضاً على أن الجواز مفروغ عنه في ذهن السائل وإنما سأل عن أنه يأخذ زيادةً فإذا أخذ زيادةً فسوف يصير هذا الشيء الذي يشتريه مخلوطاً بالحرام لأنه أخذ أكثر فالمشكلة هي من حيث أخذه للأكثر وإلا إذا لم يأخذ أكثر فلا مشكلة أبداً والجواز واضح ، وإنما المشكلة في أنه أخذ أكثر والامام عليه السلام قال حيث لم يتعيّن لك الحرام فلا بأس بالشراء.

إذن الفقرة الأولى لو أخذناها لوحدها فهي أيضاً فيها دلالة مستقلة على الجواز.

وهكذا بالنسبة إلى الفقرة الثانية التي ورد فيها ( فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا فنقول بعناها فيبيعنا فما تقول في شرائه منه ، فقال:- إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس ) ، إن هذه الفقرة تدل على أنَّ أصل الجواز شيء مفروغ عنه وإنما الكلام في أنه يحتمل أنَّ هذا الشراء مكروه فمن حيث الكراهة مثلاً قد لا يحبّب الشراء وإلا فأصل الجواز لا كلام فيه ، وإلا إذا كان أصل الجواز فيه كلام لكان من المناسب أن يقول هكذا ( قيل له: فما ترى في مصدِّق يجيئنا يأخذ منا صدقات اغنامنا فهل يجوز شراؤها ؟ ) فيصير السؤال عن أصل الجواز وهو لم يسأل عنه وإنما سأل عن أنني اشتري ما دفعته أنا وهذا قد تكون فيه حزازه من هذه الناحية أي من ناحية أنه ما أخذه منيّ فأنا اشتريه فالحزازة من هذه الناحية هو يسأل عنها.

وهكذا بالنسبة إلى الفقرة الثالثة التي هي ( فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل ... ) فإنه يظهر منها أنَّ السؤال هو أنه هل يجوز الاعتماد على الكيل السابق أو لابد من كيل جديد ، فأصل الجواز إذن لا كلام فيه فإنَّ السائل ذهب إلى قضية جانبية وهي أنه هل يجوز الاعتماد على الكيل السابق والامام عليه السلام أجاب وقال ( إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشراء ذلك منه بغير كيل ).

والخلاصة من كل هذا:- إن الرواية فيه دلالة بقطع النظر عن كل فقرة فقرة وفيها دلالة بلحاظ كل فقرة فقرة أما أن فيها دلالة بلحاظ كل فقرة فقرة فقد أوضحناه وقلنا مثلاً في الفقرة الأولى سأل أنه يأخذ أكثر من الحق الواجب فهل يجوز الشراء فهو سأل عن جواز الشراء في حالة العلم بأخذ الزيادة فيظهر أن أصل الجواز مفروغ منه في ذهنه ، وهكذا الفقرة الثانية والثالثة ، فكلّ فقرة باستقلالها فيها دلالة ، وهناك دلالة للرواية بقطع النظر عن كلّ فقرة فقرة بالبيان الذي أشرنا إليه وهو أنَّ أصل الجواز لو كان محلّ إشكال لكان المناسب السؤال في البداية بشكلٍ مستقل فيقول السائل للإمام عليه السلام: هل أصل شراء الصدقات وغيرها جائز أو لا ؟ ، فعدم سؤاله والذهاب إلى خصوصيات وقضايا جانبية يدل على أنَّ الجواز شيء مفروغ عنه في ذهن السائل ،.

فإذن هاتان دلالتان دلالة لمجموع الرواية ودلالة لكلّ فقرة فقرة ، فإذن أصل جواز الأخذ بشراءٍ من الجائر أمر ينبغي أن يكون مسلّماً ، نعم موردها كما اتضح هو الشراء ولكن من يريد أن يستشكل فهو لا يستشكل في خصوص الشراء بل في الانتقال سواء كان بشراءٍ أو بهديةٍ أو غير ذلك ، فإذا ثبت جواز الشراء ثبت ذلك بعدم الفصل ، وبهذا ننهي حديثنا عن الحكم الأوّل.

والنتيجة التي انتهينا إليها:- هي أنه يجوز للمؤمنين أخذ الزكاة أو الخراج التي أخذها الظالم من الناس وذلك بالشراء منه أو بالهبة أو غير ذلك ومستند ذلك هو هذه الرواية وما شاكلها ، بل وروايات أخذ جوائز السلطان التي ستأتي في مسألة ( 39 ).

الحكم الثاني:- أعني براءة ذمة المالك بأخذ الظالم ، وفي هذا المجال لم يتعرّض الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب لا من قربٍ ولا من بعدٍ إلى هذه المسألة وهذه قضية ملفتة وكان من المناسب أن يشير إلى ذلك ، نعم له عبارة لعلّ شخصاً يستفيد منها رأيه فهو قد قال:- ( ما يأخذه السلطان المستحل لأخذ الخراج والمقاسمة .... وإن كان مقتضى القاعدة حرمته ...... وكيف كان فما يأخذه الجائر باقٍ على ملك المأخوذ منه ومع ذلك يجوز قبضه من الجائر بلا خلاف معتد به بين الأصحاب )[2] ، هذا هو المقدار الذي ذكر والذي قد يستفاد منه رأيه في هذا الحكم الثاني وإلا لا يوجد غيره ، فهذه العبارة قد يستفاد منها رأيه لأنه قال ( وكيف كان فما يأخذه الجائر باقٍ على ملك المأخوذ منه ) فإذا كان باقياً على ملكه فربما يستشم منه أنه إذا كان باقياً على ملكه ولم يخرج عن ملكه فذمته ليست بريئة ، فهذه العبارة قد يستفاد منها ذلك وإن لم يكن هو في صدد براءة الذمة حصلت أو لم تحصل ولكن قد يستوحى منها عدم حصول براءة الذمّة ، إذ لو كان باقياً على ملك الذي عليه الزكاة أو الخراج فهذا معناه أنَّ ذمته لم تِصر بريئة ، إذ لازم البراءة خروجه عن ملكه ، فعلى أيّ حال هكذا ربما يستشم رأيه من هذه العبارة ، وإن كان يمكن أن يقال: إنه يريد أن يبيّن مقتضى القاعدة ولكننا خرجنا عنها فلا يمكن أن نستفيد من عبارته ذلك ، والأمر سهل.

والمناسب هو براءة الذمّة ، وذلك للوجوه التالية:-

الوجه الأوّل:- السيرة القطعية ، ببيان أنَّ الظلمة وخلفاء الجور من السلطة الأموية والعباسية وغيرهم كانوا يأخذون هذه الضرائب من المؤمنين فإنَّ أموال خزينة الدولة أكثرها من هذه الأمور فلو كان يجب الدفع ثانيةً ولا يكتفى بذلك الدفع لنقل ذلك التاريخ ولكثر السؤال عنه ، فلا أقل يسألون على أنه هل برئت ذمتنا أو لا والحال أنَّه لا يوجد سؤال عن ذلك فهذا يدل على أنَّ براءة الذمة كانت قضية مفروغ عنها والسيرة كانت على ذلك ولو كان ذلك محلّ شكّ لحصل السؤال ولنقل التاريخ أنَّ المسلمين كانوا يدفعون ثانيةً ولا أقل بعضهم كان يدفع ثانيةً ، يعني هي ظاهرة لابد أن تنقل ولكن لا يوجد نقل فإذن يحصل الاطمئنان بانعقاد السيرة على عدم الدفع مرّةً ثانية والامام عليه السلام لم يردع عن هذه السيرة وهي سيرةٌ حتى للمؤمنين ، فإذن هذا الدليل مورث للفقيه الاطمئنان الكامل.

الدليل الثاني:- صحيحة أبي عبيدة المقدّمة فإنه جاء فيها ثلاثة أسئلة والحال أنَّ حصول براءة الذمة لم يتعرّض إليه أبداً ، فلو كانت الذمة لم تبرأ أو كان هناك شك في براءة الذمة فلابد أن يجعل أحد الأسئلة المهمة هو السؤال عن براءة الذمة والحال أنه لم يسأل عن ذلك فيتّضح أن حصول براءة الذمة قضية مسلّمة ، بل لو لم تحصل براءة الذمة يعني كان المال باقياً على ملك الدافع وبالتالي لا يجوز شراء إبل الصدقة وغيرها والحال أن الامام عليه السلام جوّز ذلك والسائل سأله عن هذا في السؤال الأوّل فقال:- ( سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من ابل الصدقة وغنم لصدقة ... ) ، فإذا كان لم تحصل براءة الذمة فهذا يعني أنه باقٍ على ملك الدافع وإذا كان باقياً على ملك ذلك المؤمن الدافع فشراؤه يكون شراءً للمغصوب - أي مال الغير - فلا يجوز ، وهذا ينبغي أن يكون من الواضحات ، فعدم السؤال بل تجويز الشراء ه يدل على أنَّ براءة الذمة قضية مفروغ عنها.