39/01/23


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/01/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

ثم إن الشيخ الشيرازي ذكر شيئاً آخر وأراد أن يجعله وجها لإثبات جواز الأخذ بنية الرد غير مسألة المعارضة والرجوع إلى الأصل:- وهو أن دليل ( لا يحل ما امرئ ) يمكن أن نقول هو لا يشمل مورد الأخذ بنية الرد فإن المنصرف منه أو الظاهر منه هو ما إذا كان أخذ مال الغير بنية سيئة بأن يأكل مال الغير أو يتصرّف فيه كأن يسكن فيه كما يفعله الناس العاديون فإنهم يستولون على مال الغير كالسيارة فيبيعونها أو البيت يسكنونه أما أن يأخذ مال الغير لأجل ردّه فهذا يمكن أني قال إنَّ الرواية منصرفة عنه فإذن لا يوجد دليل من الأساس قبل أن تصل النوبة إلى المعارضة.

فهنا يصير ترقٍّ ولا حاجة إلى أنَّ نجعل المعارضة بين ( لا يحل مال امرئ مسلم ) وبين ( كلّ معروف صدقة ) ثم نرجع إلى الأصل ، بل نقول ابتداءً لا يوجد دليل على المنع مادام الهدف سليماً وهو الردّ فهنا دليل ( لا يحلّ ) منصرف عن مثل هذه الحالة ولا يشملها ، فحينئذٍ يجوز الأخذ لعدم الدليل على المنع فإنه إذا لم يوجد دليل على المنع فإنَّ الأصل في الأشياء هو البراءة ، فحينئذٍ يجوز الأخذ لعدم وجود مانعٍ - أي بعد عدم وجود ( لا يحل مال مرئٍ ) بعد وجود الانصراف - ، ونصّ عبارته:- ( عدم شمول أدلة المنع عن التصرّف في مال الغير للتصرف لأجله بل القدر المتيقن أو الظاهر منها بالانصراف هو التصرف لانتفاع الآخذ المعبر عنه بالأكل المعبر عنه بقوله عز وجل " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " )[1] .

ونذكر فائدة جانبية:- وهي أننا بينا في علم الأصول وكذلك الفقه أن الظهور أو الانصراف متى ما ثبت عرفاً فنأخذ به ولا يهمنا من أي منشأ كان لأنك تدعي الظهور أو الانصراف والانصراف أيضاً ليس له ظهور وسيع ولكن له ظهور في هذا المجال فهو بالتالي راجع إلى الظهور ولا تتقيد بكلمات صاحب الكفاية وتقول هل هذا الظهور ناشئ من كثرة الوجود أو من كثرة الاستعمال وإذا كان ناشئاً من كثرة الاستعمال فنأخذ به وإلا فلا ، فإذا كان ظهوراً بالوجدان فخذ به - لا أنه ظهور كاذب أي كان ظهوراً بادئ ذي بدء ثم بعد ذلك يتبيّن عدم وجوده - وفي موردنا أدعى الشيرازي أنه يوجد انصراف ، فيوجد ظهور في أنَّ ( لا يحل ) إذا كان الهدف منه أن يستفيد الأخذ فإذا سلّمنا بهذا الظهور فنأخذ به فإنَّ هذا ظهور ليس نشئاً من كثرة الاستعمال ولا يهمنا من أين نشأ ولكن مادام يوجد ظهور ويوجد انصراف فنأخذ به - فمرة تقول لا يوجد انصراف فهذه قضية ثانية ولكن إذا سلّمنا به كما سلّم به الشيخ محمد تقي الشيرازي وكما سلّم به جماعة كما سيأتي فمن سلّم به لا نأتي ونقول لهم من أين نشأ هذا الظهور كلا بل نأخذ به ولا نفتّش عن سببه - ، وقد بينت سابقاً أنه لا يقولن قائل: إنه سوف لا نحتاج إلى القواعد الأصولية ؟ والجواب:- أنا أريد أن أقول إنَّ هذه القاعدة باطلة وهي أنَّ الظهور الحجة هو الناشئ من كثرة الاستعمال ، فأنا أنكر كونها قاعدة لا أننا نريد ابطال القواعد الأصولية ، بل القاعدة الأصولية الصحيحة هي أنه ( متى ما حصل ظهور وجداني جزمي فخذ به ولا تفتش عن سببه ).

وفي مقام المناقشة نقول:- إنَّ هذا الانصراف أو هذا الظهور ليس واضحاً لنا وإلا يلزم أن تقول كما مثلنا بأنه إذا كانت عندي قطعة قماش وأنت جئت وأخذتها إلى الخياط فخاطها ولكني لا أريد ذلك فهل تقول إنَّ دليل ( لا يحل مال امرئ مسلم ) منصرف عنه ؟!! فهل تلتزم بذلك ، أو كان عندي بيت خرِب وأنت هدمته وبيته بناء جيداً مناسباً لي وأنا لا أعلم بذلك وبعد علمي لم أقبل بذلك فهل هذا جائز وأنَّ ( لا يحل مال امرئ لا يشمله ) لا يشمله ؟!! إنَّ هذا غريب ، والالتزام به شيء صعب.

وهذا الذي ندّعيه أوضح إذا نظرنا إلى التوقيع الشريف ، لأنه في مسألة اشتراط الرضا توجد روايتان الأولى من خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف ( يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه )[2] ، الثانية هي ما كتب إلى الناحية المقدسة حيث توجد أراضٍ راجعة إلى أهل البيت عليهم السلام فيأتي شخص فيتصرّف فيها فيعمّرها فكتب إلى الناحية المقدّسة في ذلك فجاء في الجواب ( لا يحل لأحد التصرف ) ، وسند الرواية معتبر ، وهي قالت ( لا يحل لأحد التصرف ) ، فهذه الرواية فيها لفظ التصرف أما تلك الرواية فقد قالت ( لا يحل مال امرئ ) فالمتعلّق هنا محذوف لابد من تقديره كنقله وأكله أو تصرّفه ، أما في هذه الرواية فالموجود هو التصرّف والحال أنَّ الناحية المقدّسة صدر منها التوقيع بأنه لا يجوز والحال أنَّ هذا تصرّف لصالح المالك ، ونصّ الرواية:- ( وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا هل يجوز القيام بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتساباً للأجر وتقرباً إليكم [ إلينا ] فلا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه )[3] ، هذا كلّه بالنسبة إلى ما أفاده الشيخ محمد تقي الشيرازي(قده).

ومنه يتضح التأمل فيما أفاده السيد الخوئي(قده)[4] :- فإنه في بداية الأمر ذكر ما أشار إليه الشيخ الأعظم(قده) يعني قال إنَّ الأخذ بنيّة الردّ هو احسان وأمانة شرعية كما ذكر الشيخ الأعظم(قده) ، ثم ذكر بعد ذلك[5] أن الحديثين المانعين من التصرف في مال الغير لا يشملان مثل ذلك - يعني أخذ المغصوب لأجل ردّه على صاحبه - أما الحديث الأوّل فالمنصرف منه أن يتصرّف الآكل بالأكل والشرب أي التصرّف لنفعه ، أما إذا كان التصرف لنفع المالك المغصوب منه فهذا التصرّف منصرفٌ عنه الحديث ولا يشمله.

وهكذا بالنسبة إلى الحديث الثاني ، وهو ( لا يجوز التصرف في مال الغير إلا بإذنه ) ، فإنَّ فيه كلمة ( تصرّف ) والتصرّف عبارة عن التقليب والتقلُّب مثل السيارة وأنت تركب فيها ، أما إذا فرض أنك تأخذ المال المغصوب منه وتحافظ عليه وتردّه إلى صاحبه فهذا ليس تصرفاً.

أقول:- ما ذكرناه في مقام التعليق الذي ذكرناه على الشيخ الشيرازي(قده) يأتي هنا أيضاً.

منه يتضح التأمل في افاده الشيخ التبريزي[6] أيضاً فإنه ذكر نفس مطلب الشيرازي والخوئي ولكن صعّد اللهجة وقال:- إنه حتى إذا كنا نعلم بأنَّ المالك لا يرضى ولكن مع ذلك يجوز الأخذ بنيّة الردّ حتى لو صرّح بعدم الرضا .

فالشيخ الأنصاري(قده) أطلق وقال يجوز الأخذ بنيّة الرد ولم يذكر حالة ما إذا كنّا نعلم بعدم الرضا بل سكت ، وليس من البعيد أنَّ مقصوده في حالة الشك ، فكيفما كان لا يوجد عنده تصريح ، أما الشيخ التبريزي(قده) فأراد أن يصرّح فقال ( حتى إذا صرّح المالك بعدم الرضا مع ذلك يجوز الأخذ بنية الردّ إليه ) ، ومثل ببعض الأمثلة العرفية فقال:- إنَّ هذا نظير أن تكون أموالك على وشك الغرق وجئت أنا لإنقاذها وحينما أردت أن أنقذها نادى المالك وقال لي أتركها فإني أريدها أن تغرق ففي مثل هذه الحال رغم أنه غير راضٍ يجوز حينئذٍ رفعها حتى لا تغرق ، وهكذا الحال بالنسبة إلى دقّ باب الغير ، فلو فرض أننا رأينا ناراً تتصاعد من دار الغير وهو قد قال لنا لا تدقّوا عليَّ الباب فحينئذٍ رغم أنه لا يرضى بذلك يجوز أن تدقّ الباب عليه وتخبره بالحريق.

فهو(قده) ذكر هذين المثالين كشاهدٍ على أنَّ التصرّف بداعي حفظ مال الغير يجوز حتى وإن كان المالك لا يرضى ويصرّح بعدم الرضا ، وأيضاً ذكر أنَّ حديث ( لا يحلّ مال امرئ ) لا يشمل هذا المورد ، أي ذكر نفس ما ذكره الشيرازي والخوئي(قده).

وفي مقام التعليق نقول:- إنه إذا صرّح بعدم الرضا فينبغي أن يكون عدم جواز التصرّف من الواضحات ، فلا يكون احساناً ولا غير ذلك.

وأما ما ذكره من المثالين فنقول:- إنَّ هذين المثالين لهما خصوصية ، فإنهما يدخلان تحت باب التزاحم ، يعني في مثال النار التزاحم يقع بين الحفاظ على نفس المؤمن وبين حرمة التصرّف بدقّ الباب ، فالدقّ حرام والحفاظ واجب ، فمن باب تقديم الأهم يجوز حينئذٍ دقّ الباب ، فلعل الجواز يكون من هذا الباب لا من باب أنَّ الأدلة منصرفة عنه ، وهكذا بالنسبة إلى مثال الثياب التي على وشك الغرق فنحن نقول إنَّ هذا تبذير واتلاف وهو حرام ، فعلى هذا الإساس إذا قلنا يجوز انقاذها فحينئذٍ يجوز انقاذها من باب وقوع المزاحمة بين التبذير وبين التصرّف في مال الغير من دون رضاه ، وحيث إنَّ حرمة التبذير أهم فحينئذٍ يجوز انقاذها والتصرّف فيها بالإنقاذ.

فإذن هذان المثالان لا يصلحان كشاهدٍ له لإمكان أن يدخلا تحت باب التزاحم ، ولكن نعود ونؤكد بأنه حتى في هذين المثالين كالمثال الأوّل - يعني التصرف في الثياب بالإنقاذ من الغرق - أوّل الكلام على أنه يجوز انقاذها مع التصريح بعدم الرضا ، فحينئذٍ إنَّ هذا التصرف يجوز هو أوّل الكلام فإنه ليس من الأمور الواضحة ، ولكن إذا ادّعينا أنَّ هذا من الأمور الواضحة فحينئذٍ يكون الوجه في ذلك هو باب التزاحم وهو ما أشرنا إليه.

والخلاصة من كل ما انتهينا إليه:- إنَّ صدق الاحسان في المورد محل تأمل مادام لا يحرز رضا المالك فلا يجوز ، ولكن عادةً يحرز رضاه ، وقد قلنا هذا بحثٌ علمي ، ودعوى انصراف الروايتين إلى التصرّف الذي يعود نفعه إلى المتصرّف عهدتها على مدّعيها.


[1] الحاشية على المكاسب، الشيخ الشيرازي، ص183 في وسط الصفحة تقريباً.
[4] تراث السيد الخوئي ( مصباح الفقاهة، الخوئي )، تسلسل35، ص767، آخر الصفحة.
[5] تراث السيد الخوئي ( مصباح الفقاهة، الخوئي )، تسلسل35، ص767، ص768.
[6] ارشاد الطالب، التبريزي، ج1، ص323.