39/06/09


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/06/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- شروط البيع ( مسألة ( 47 ) - المكاسب المحرّمة.

الحكم الأول:- يعتبر في البيع الايجاب والقبول.

وهذا الحكم مسلّم ، ولكن ما هي وسيلة اثباته والاستدلال عليه ؟

ونلفت الانظار إلى شيء:- وهو أنَّ الأحكام الشرعية التي يراد الاستدلال عليها غالباً ما يكون من خلال النصوص من آيات أو روايات ، لكن في بعض الأحيان لا يكون الاستدلال بآية ولا برواية ، وهذه الأحكام التي سوف نذكرها هنا لعلّه في أكثرها لا نستعين بآية أو رواية ، نعم من بُعدٍ قد يكون ذلك أما من قربٍ فلا ، كما سوف نلاحظ:-

وقد يستدل على ذلك:- بأنَّ الايجاب والقبول معتبر في البيع من باب أنه عقد والعقد لا إشكال في أنه يعتبر فيه الايجاب والقبول.

والاشكال على هذا واضح:- فإنَّ هذا من باب تعليل الشيء بنفسه وليس بغيره ، إذ بالتالي اعتبار الايجاب والقبول معناه أنه عقدٌ فكيف تثبت أنه عقد ؟! ، فأنت غيّرت اللفظ فقط لا أنك استدللت عليه ، فأنت استدل على أنه لماذا يعتبر الايجاب والقبول ، يعني لماذا هو عقدٌ ؟ ، ولا معنى لأن تستدل على اعتبار الايجاب والقبول بكونه عقداً فإنَّ هذا من باب تعليل الشيء بنفسه.

ونظيره في باب العبادات ، فمثلاً يقال يعتبر في الوضوء القربة وفي الصلاة القربة وفي الصوم القربة .... وهكذا ، وما الدليل على ذلك ؟ قد تقول:- لأنه عبادة ، ولكن هذا من باب الاستدلال بنفسه ، يعني نفس الدعوى جعلناها دليلاً ، فأنت تقول لأنَّ الوضوء عبادة ، لكن العبادة معناها اعتبار قصد القربة ، فهذا ليس تعليلياً بشيءٍ آخر وإنما من باب تعليل الشيء بنفسه ، فأنت تعال وأثبت لي أنه عبادة.إذن في موردنا لا يمكن اثبات اعتبار الايجاب والقبول تمسّكاً بأنه عقد لأنَّ هذا تعليل للشيء بنفسه.والأنسب التمسّك بالوجوه الثلاثة التالية:-

الأوّل:- إنَّ المرتكز في الأذهان العرفية أنَّ البيع عقد يعتبر فيه الايجاب والقبول وهذا الارتكاز العرفي شيء جزمي لا يمكن أن يشك فيه ، وهو ليس ارتكازاً جديداً وإنما هو ارتكاز عقلائي والقضايا العقلائية عادة متوارثة ، فعلى هذا الأساس نذهب إلى صدر الاسلام حينما نزلت الآية الكريمة ( أحل الله البيع ) أو ( أوفوا بالعقود ) مثلاً نقول البيع لا يصدق عرفاً إلى بالإيجاب والقبول وهكذا العقد ، فهما إذن معتبران معاً ولا يكفي أحدهما من باب الارتكاز العرفي الذي لا شك فيه ، ولا تتم وتقول وحيث إنَّ هذا الارتكاز لا رادع عنه فيثبت امضاؤه فإنَّ هذا لا نحتاج إليه فإنَّ هذا اثبات للموضوع وليس اثباتاً للحكم فإنَّ موضوع البيع لا يصدق عرفاً وارتكازاً إلا بالإيجاب والقبول وهذه القضية لا تحتاج إلى الامضاء الشرعي فالامضاء الشرعي هو بأحل الله البيع وأوقوا بالعقود ونحن نريد أن نقول لا يصدق البيع إلا بالإيجاب والقبول وهذه قضية ارتكازية متوارثة موجودة حين نزول الآيات الكريمة.

الوجه الثاني:- إنه يكفينا الشك في كونه يعتبر فيه كلا الأمرين أو يكفي الايجاب بلا قبول أو القبول بلا إيجاب ، فهذا الشك يكفينا للوصول إلى ما نريد وهو اثبات اعتبار الايجاب والقبول في البيع وفي امضائه ، وذلك من باب أننا نشك في صدق مفهوم البيع من دون اجتماعهما ، يعني مع فرض تحقق أحدهما نشك في صدق عنوان البيع فيصير المورد من اجمال المفهوم.

وهذا جواب تنزّلي ، لأنه لا يوجد عندنا اجمال مفهوم واقعاً ، فنحن نعلم بحسب الارتكاز العقلائي أنه يعتبر الايجاب والقبول ولا يوجد عندنا اجمال مفهومي في أنفسنا ، ولكن نقول لو نتلنا فهذا جواب ودليل تنزّلي وقلنا إنه عرفاً وعقلائياً يشك في اعتبارهما معاً في صدق عنوان البيع ومفهوم البيع فهذا الشك يكفينا لأنه بالتالي لا يمكن أن نتمسّك بإطلاق ( أحل الله البيع ) أو ( أوفوا بالعقود ) لأنه يصير من باب التمسّك بالإطلاق أو بالعام في مورد اجمال المفهوم ، فإذن اجمال المفهوم يكفينا للوصول إلى الهدف وهو اعتبار الايجاب والقبول معاً.

الوجه الثالث:- التمسّك بقاعدة السلطنة ، والمقصود هو قاعدة السلطنة العقلائية وليست قاعدة السلطنة الشرعية التي هي بلسان ( الناس مسلّطون على أموالهم ) فإنَّ هذا ليس بثابت برواية معتبرة وإنما هي عبارة تعلمناها من الحوزة فلا معنى لأن ندور مدار ألفاظها ، وإنما مدركها السيرة العقلائية والارتكاز العقلائي على أنَّ كل انسان هو مسلّط على ماله وهذا ثابت بلا إشكال ، وهذا الارتكاز متوارث وممضى[1] ، فإذن نتمسك بقاعدة السلطنة العقلائية في المقام ونقول إنَّ مقتضاها هو أنَّ الايجاب وحده من دون قبول لا يكفي لتحقق الانتقال لأنه خلاف قاعدة السلطنة العقلائية ، إذ لو كان يكفي الايجاب من دون قبول فسوف يدخل في ملك المشتري شيء ويخرج من ملكه شيء والمفروض أنَّ المشتري لم يقبل ، فإذا تحقق البيع في الايجاب فقط ففي حالة الشك نثبت عدمه من خلال قاعدة السلطنة ، وهكذا العكس فالقبول من دون إيجاب أيضاً يعني أنه سوف يخرج المبيع من ملك البائع بمجرّد قبول المشتري وهذا خلاف قاعدة السلطنة فإذا شككنا فقاعدة السلطنة تدل على عدمه.

ولعله بالتأمل يمكن الحصول على وجوهٍ أخرى[2] تدل على اشتراط الايجاب والقبول.

الحكم الثاني:- يكفي في تحقق البيع كلّ لفظٍ يدل عليه.

والوجه في ذلك:- هو أنَّ الدليل قد دلّ على امضاء البيع ( أحل الله البيع ) ، أو العقد ( أوفوا بالعقود ) ، أو التجارة ( تجارة عن تراض ) ، وحينئذٍ كلّ لفظ ٍ يدل على البيع عرفاً فسوف يصدق عنوان البيع فيشمله ( أحل الله البيع ) ، ويصدق آنذاك عنوان العقد فيشمله ( أوفوا بالعقود ) ، وهكذا يشمله عنوان التجارة عن تراض فيشمله ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ، فإذن كل منها يدل على البيع من دون تخصيصٍ بلفظٍ دون آخر.

ومنه يتضح النظر فيما حكي عن بعض:- من أنه لا يكفي انشاء البيع بالألفاظ المجازية ، قال العلامة في التذكرة:- ( الرابع من شروط الصيغة التصريح فلا يقع بالكناية مع النية مثل أدخلته في ملكك أو جعلته لك أو خذه مني بكذا أو صلطتك عليه بكذا عملاً بأصالة بقاء الملك ولأن المخاطب لا يدري بم خوطب )[3] .

والتعليق عليه واضح:- فنحن نقول يكفي كل ما يدل عليه عرفاً ، فإذا فهم عرفاً من التعبير إنشاء البيع فيشمله ( أحل الله البيع ) أو ( أوفوا بالعقود ) ولا تصل النوبة إلى أصالة بقاء الملك ، وهكذا لا تصل النوبة إلى الوجه الثاني الذي ذكره وهو ( ولأن المخاطب لا يدري بم خوطب ) ، فإنَّ العلامة قد فرض أنَّ عنوان البيع لا يفهم عرفاً ، فإذن هذا خارج عن محل الكلام ، إنما محل الكلام فيما إذا كان كناية ولو بعيدة أو مجاز ولو بعيداً ولكن يفهم منه البيع فهنا لا موجب للتوقف فإنه سوف يشمله الاطلاق ولا تصل النوبة إلى الوجهين اللذين ذكرهما.

وقال في مفتاح الكرامة:- ( قالوا في أبواب متفرقة كالسلم والنكاح وغيرهما أنَّ العقود اللازمة لا تثبت بالمجازات ...... وكذا لا تنعقد بشيء من الكنايات )[4] ، ونقل في موضعٍ آخر عن جامع المقاصد ( الجمع بين كلماتهم بحمل كلمات المانعة على المجاز البعيد والكلمات المجوّزة على المجاز القريب )[5] ، واستحسن الشيخ الأعظم(قده) ذلك في المكاسب[6] .

ونحن نقول:- إنه حتى لو كان المجاز بعيداً فمادام يفهم منه البيع فحينئذٍ يشمله اطلاق ( أحلّ الله البيع ) أو ( أوفوا بالعقود ) أو ما شاكل ذلك ، وإذا لم يفهم حتى ولو كان المجاوز قريباً فلا يكفي ذلك ، فالأولى أن نجعل المدار على الفهم العرفي للبيع.

وربما يقال في اثبات عدم كفاية المجاز والكناية ونحو ذلك:- بأنَّ أسباب تحقق الملكية هي أسباب شرعية توقيفية ، ومعه لابد وأن يقتصر على المتيقن ، وقد نقل الشيخ الأعظم(قده) هذا الكلام في المكاسب[7] .

ونحن نقول:- صحيح أنَّ أسباب النقل توقيفية شرعية ونقتصر على ما ذكره الشرع ، ولكن الشرع أعطانا قانوناً كليا فقال ( أحلّ الله البيع ) أو ( أوفوا بالعقود ) فهو أعطانا الحكم ولم يتدخل في الموضوع ، فهو قال ( أحل الله البيع ) يعني كلّما صدق البيع فهو حلال ممضىً ، أما متى يصدق البيع فهذه القضية لا شرعية ولا توقيفية وإنما المدار فيها على العرف ، فمتى ما صدق عنوان البيع عرفاً فحينئذٍ يكفي ذلك للإمضاء ، فنحن نسلمّ بأن أسباب النقل والانتقال شرعية توقيفية ولكن هذا لا يتنافى مع الحكم في نفس الوقت بجواز انشاء البيع بالمجاز القريب والبعيد والكناية القريبة والبعيدة مادام يُفهم البيع عرفاً ، فإنَّ الشرع جعل البيع سبباً للنقل والانتقال ، أما أنَّ البيع متى يصدق فهذه قضية تركها إلى العرف فنرجع فيها إلى العرف ، نعم لو اختلف العرف بأنَّ هذا يصدق عليه بيع أو لا فهذه قضية ثانية ، ويمكن أن يقال:- هنا لا يمكن التمسّك بإطلاق ( أحل الله البيع ) لأنه لابد أوّلاً من اثبات أنه بيع عرفاً ثم بعد ذلك نتمسّك بإطلاق ( أحل الله البيع ) ، فإذا شك واختلف عرفاً في صدق عنوان البيع فهنا لا يجوز التمسّك بالإطلاق ، إلا أنَّ هذا اختلاف صغروي وليس كبروياً ، فالمهم أن نتفق معك على الكبرى وهي أنه متى ما فهم العرف ورأى صدق عنوان البيع على المجاز ولو البعيد كفى ذلك في إمضائه وفي تحقق الانتقال به.


[1] وهنا نحتاج إلى الامضاء لأننا نريد اثبات حكم شرعي.
[2] كاستصحاب عدم ترتب الأثر / هذا ما ذكره بعض الطلبة أعزهم الله وقبله سماحة الشيخ الاستاذ.
[3] تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج10، ص9.
[4] مفتاح الكرامة، ج12، ص483.
[5] مفتاح الكرامة، محمد العاملي، ج12، ص485.
[6] كتاب المكاسب، الأنصاري، تسلسل16، ص126.
[7] كتاب المكاسب، الأنصاري، تسلسل16، 127.