39/07/17


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/07/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- وقوع البيع بالمعاطاة - مسألة ( 51 ) - المكاسب المحرّمة.

إنَّ السيرة التي يستدل بها في المقام تارة يقصد بها شيرة المتشرعة ، وأخرى يقصد بها سيرة العقلاء ، وعلى التقديرين قد يشكل على التمسّك بها كما سوف نلاحظ ، وكان من المناسب فنّياً للشيخ الأعظم(قده) أن يصنع ذلك ، يعني يقول ( مرّة يتمسّك بسيرة المتشرعة ويمكن أن يورد عليها كذا ، ومرة يتمسّك بسيرة العقلاء ويمكن أن يورد عليها كذا ) ، فمن المناسب تنقيح المباحث بهذه الصورة.

أما بالنسبة إلى سيرة المتشرعة:- فقد يورد عليها بإيرادين:-الأوّل:- ما أشار إليه الشيخ الأعظم(قده) من احتمال نشوئها من التسامح.

وفي مقام التعليق نقول:- إنَّ سيرة المتشرعة ليست دائماً بمستوى واحد وبشكلٍ واحد ، بل ربما يحتمل نشوئها من التسامح أحياناً وربما أحياناً يكون هذا الاحتمال ضعيفاً ، وسنوضح هذا من خلال الأمثلة ، فمثلاً بالنسبة إلى المحارم كالعمة والخالة وبنت الأخت وغيرهن فهذه يجوز لها الكشف عن رقبتها ويديها ، وهل توجد رواية تدل على ذلك ؟ إنه لا توجد رواية ، ولا تتعب نفسك في البحث عن رواية ولكن افترض أنه لا توجد رواية كما ليس من البعيد أن يكون الواقع كذلك وإنما الموجود في الآية الكريمة ﴿ ولا يبدين زينتهن إلا .... ﴾ يعني أمام الأخ وابن الأخ وغيرهما من المحارم ، أما ما هي الزينة ؟ يعني الوجه والعنق أما اكثر من ذلك كاليد أو غيرها فكيف ؟ فالمقصود أنه كيف نثبت جواز ذلك لغير الوجه والعنق ؟ يمكن التمسّك له بسيرة المتشرعة فإنَّ عماتنا وخالاتنا نزورهن وهنَّ لا يضعن الخمار على رؤوسهن إلا إذا كانت ذات عفة زائدة ولكن هذا من باب الاحترام للطرف لا من باب أنَّ هذا لازم ، ولكن السيرة جارية على كشف ما أشرنا إليه من اليد والرقبة وهذه سيرة متشرعة ثابتة جزماً ومن البعيد التشكيك فيها واحتمل نشوئها من التسامح - أي التسامح من الطرفين - ليس موجوداً ، ولا تقل إنَّ هذا موجود في هذا الزمن أما في ذلك الزمان فلم يكونوا هكذا ، فنقول إنَّ هذه عادة لا نحتمل أنها نشأت في أوساط المتشرعة جديداً بل هذه سيرة متشرعة بهذا المقدار يمكن أن يقال هي مسلّمة واحتمال نشوئها من التسامح ضعيف جداً.

ونذكر قضية عليمة:- وهي أنه هل نحتاج إلى دليل على جواز النظر إلى رقبة أو اليد المحارم أو غير ذلك ، فبقطع النظر عن السيرة هل يوجد دليل غير الآية والرواية على ذلك ؟ نعم يوجد دليل وهو القصور في المقتضي ، يعني عدم الدليل ، فإنَّ الدليل قد دل على أن الأجنبية لابد وأن تستر بدها أما المحارم فلم يدل الدليل على ذلك ، فنعم يجوز النظر إلى بدن المحارم ولكن بشرطين الأوّل عدم الاثارة فإنَّ هذا شرط قد يقال بأنَّ الاجماع قام عليه أو غير ذلك ، والثاني عدم جواز النظر إلى العورة فإنَّ هذا خرج بالدليل ، أما في غير ذلك فلا دليل على حرمة النظر إليه ، فيجري أصل البراءة.

ونذكر فائدة جانبية:- وهي أنه ما هي العورة ؟ إنها معلومة ، ولكن السيد الخوئي(قده) أراد أن يوسّع فيها فقال هي ما بين السرّة والركبة ، وذلك لمعتبرة الحسن بن علوان[1] ونصّها:- ( عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن السحين بن علوان عن جعفر عن أبيه عليه السلام أنه قال:- إذا زوج الرجل أمته فلا ينظرن إلى عورتها ، والعورة ما بين السرّة والركبة )[2] ، بتقريب أنَّ قوله عليه السلام: ( والعورة ما بين السرّة والركبة ) ليس المقصود عورة خصوص الأمة بل هو يبيّن العورة بشكلٍ عام ، فعلى هذا الأساس لا يجوز النظر إلى هذا المقدار ، وهو(قده) كتب ذلك في الرسالة العملية ولكنه احتاط ولم يفتِ بذلك ، وسبب الاحتياط إما لأجل أنه يوجد احتمال أنها ترجع إلى الأمة فقط ، أو لأجل أنه هذا مخالف للمشهور وعنده إذا كانت هناك مخالفة للمهور فهو لا يفتي وإنما يحتاط ، فالمهم أنه احتاط في هذه القضية.

وفي مقام المناقشة نقول:- افترض أنَّ هذه الرواية تدل على هذا ولكن توجد عندنا سيرة على خلاف ذلك ، فإذا سلّمت بوجود مثل هذه السيرة فعلى الأساس لابد من رفع اليد عن هذه الرواية ونقول إنَّ هذه قضية خاصة بالنسبة إلى المولى إذا زوّج أمته فإنه لا يستطيع أن ينظر إلى هذا المقدار ، أو نحملها على بعض المحامل ، ولعلّ أحد مناشئ عدول السيد الخوئي(قده) إلى الاحتياط دون الفتوى هو هذا.

فالمقصود أنه ربما يدَّعى أنَّ هذه السيرة وأمثالها ناشئة عن تساهل وتسامح ، وأما السيرة في مقامنا - أعني السيرة على التمسّك في مقام البيع بالمعاطاة - فاحتمال نشوئها من التسامح كما قال الشيخ الأعظم(قده) شيء بعيد جداً ، لأنه من البعيد جداً في الزمن السالف أنه إذا أراد أن يشتري شخص رغيف خبز من الخبّاز أو أراد أن يشتري بيضة أو بيضتين من صاحب الحانوت يقول له البائع بعتك رغيف خبز بمقدار كذا من المال وهو يقول قبلت ، وهكذا بالنسبة إلى شراء بيضة أو ما شاكل ذلك ، فانعقاد سيرة على أنَّهم في كلّ شيء يتعاملون بالبيع العقدي واللفظي هي ظاهرة من البعيد أنها كانت منعقدة ، ولو كانت موجودة لتساءل الأصحاب عنها وأنه هل اللفظ إذا صار بهذا الشكل أو بذاك الشكل فهذا يجوز أو لا ؟ ، فلم ينعكس من الروايات شيء من هذا القبيل فيمكن أن يحصل للفقيه الاطمئنان ، فمثل هذه السيرة لا يحتمل نشوؤها من التساهل ، ولو حصل تساهل فهو يكون في حقّ زيد وبكر وعمرو ، أما في حق زرارة ومحمد بن مسلّم وأمثالهما فالتساهل والتسامح غير موجود ، ولا يحتمل أنهم إذا ارادوا شراء رغيف خبز يجرون عقداً لفظياً فإنَّ هذا بعيد جداً ، فعلى هذا الأساس مثل هذه السيرة يمكن الجزم بأنها ثابتة ولم تنشأ عن تسامح ، لأنَّ مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأضراب هؤلاء حتماً كانوا هكذا ، فإذن من هذه الناحية يمكن دعوى سيرة المتشرعة ، وما ذكره الشيخ الأعظم(قده) من احتمال نشوئها عن التسامح ضعيف جداً ، وهذه السيرة يمكن ادّعاء أنها جارية حتى في الأمور الخطيرة لا أنها جارية في الأمور الحقيرة فقط ، إذن دعوى الشيخ الأعظم(قده) بأنها ناشئة من تساهل وتسامح غير وارد.

الثاني:- ما أفاده السيد الخوئي(قده)[3] من أنَّنا نحتمل أنَّ هذه السيرة لخصوصية فيها نشأت من التساهل والتسامح ، وذلك باعتبار أنَّ المنقول في كلمات الفقهاء أنهم كانوا يقولون أن المعاطاة لا تفيد الملك إلى زمن المحقق الثاني فهذه الفترة الطويلة لم تكن فيها سيرة على المعاطاة وإلا لو كانت هناك سيرة على المعاطاة بين الجميع كيف أن الفقهاء لم يقولوا بكونها مفيدة للملك ، يعني هي ليست مفيدة للملك ولكن مع ذلك السيرة منعقدة عليها والأخذ بها فإنَّ هذا بعيد جداً ، ولا أقل يولّد لنا احتمال أنها لا تفيد الملك لأجل ما ذكر من أنَّ الفقهاء لم يقولوا بإفادتها للملك إلى زمن المحقق الثاني ، فإذن لا تنفعنا هذه السيرة لنكتةِ خاصّة بها وهي أن المنقول عن الفقهاء إلى زمن المحقق الثاني أنها لا تفيد الملك ، فيولّد هذا احتمال نشوئها من التساهل والتسامح ، أو بعبارة أخرى ليست متّصلة بزمان المعصوم عليه السلام.

ونحن نقول في مقام المناقشة:- إذا كنا ندّعي السيرة في زمن الغبية فربما يأتي ما أشار إليه من أنه من بعد الغبية لم تكن سيرة على المعاطاة وإذا كانت موجودة فهي ناشئة من تساهل وتسامح بقرينة أنَّ الفقهاء بأجمعهم لم يقولوا بكونها مفيدة للملك ، ولكن نحن لا نأخذ بهذه السيرة بل نذهب إلى السيرة في عهد المعصوم عليه السلام ونقول بأنَّ أصحاب الامام الصادق عليه السلام مثل زرارة وغيره حينما يشترون هذه الأمور - كالبيض والخبز وغير ذلك - هل كان عندهم هذه الظاهرة وهي أنه يكون الشراء والبيع بالعقد اللفظي ؟ إنَّ هذا بعيد جداً ، بل يمكن أن نقول إنه في زمن الجاهلية قبل الاسلام لم يكن عندهم هذا التقيد بالعقد اللفظي ، لأنَّ هذا من خصوصيات الاسلام فلو كان اللفظ والبيع العقدي معتبراً لكان من المناسب أن تأتي مؤشرات كثيرة تؤكد على اعتبار اللفظ والعقد اللفظي وقوفاً أمام تلك السيرة الثابتة قبل الاسلام ، وازالة تلك السيرة شيء صعب فنحتاج إلى نواهٍ كثيرة عن المعاطاة والحال أنَّ هذا ليس بموجود.

فإذن يظهر أنَّ السيرة ما بعد الاسلام كانت كما هي عليه قبل الاسلام من دون تمسّك بالعقد اللفظي بخصوصياته ، وإلا كما أشرنا إليه وهو أنه لاحتيج إلى الردع الكثير .فإذن نحن نتمسك بالسيرة الموجودة في زمن الأئمة عليهم السلام أو نضيف إليها سيرة ما قبل الاسلام لا السيرة الموجودة في زمن الغبية الصغرى حتى تقول إنَّ هذه السيرة لا تتلاءم مع دعوى الاتفاق على عدم صحة المعاطاة.إذن كلتا المناقشتين لسيرة المتشرعة محل تأمل ، هذا إذا كان المقصود من السيرة هو سيرة المتشرعة فالجزم بانعقادها شيء وجيه.

ولعل قائل يقول:- إنَّ سيرة المتشرعة هذه صحيح هي ثابتة ولكن لا بما هي سيرة متشرعة وإنما يحتمل أن ذلك حصل منهم بما هم عقلاء ؟

ولكن هذه المناقشة صغروية فنقول له:- افترض أنَّ هذا صحيح لأنَّ طبيعة العاقل تقتضي عدم التقيد بالألفاظ وأنه بعتك هذا بهذا واشتريت هذا بذاك ،كلا بل الطبيعة العقلائية تقتضي أني أذهب إلى الخباز وأقول له أعطني خمسة أقراص من الخبز وأعطيه الثمن من دون اجراء صيغة لفظية ، فهذه سيرة عقلاء وليست سيرة متشرعة ، ومن الواضح أنَّ هذا الاشكال سيّال في كل مورد تنعقد فيه كلتا السيرتين ، يعني نحتمل أن سيرة المتشرعة هي سيرة عقلائية ، وهذا المعنى موجود حتى في السيرة على حجية الخبر والأخذ به والظواهر ، فقد يتمسّك بالبعض بسيرة المتشرعة ولكن يوجد احتمال أنها نابعة من المتشرعة بما هم عقلاء فهنا كذلك ، فقد يشكل شخص بهذا الاشكال.

ولكن نقول:- إنَّ هذا مقبول وسوف تصير السيرة سيرة عقلاء ولكن مع ذلك تكيفنا هذه السيرة أيضاً ، فإنَّ عدم الردع يدل على الامضاء.بيد أنه قد يقال بوجود رادعين عن سيرة العقلاء هذه وهما:-

الأول:- قوله عليه السلام ( إنما يحلل الكلام ويحرّم الكلام ).

الثاني:- وجود روايات خاصة تدل على أنَّ أصحاب الأئمة كانوا يعقدون بالصيغة اللفظية.


[1] وهو من العامة ولكن وثقه النجاشي فلا مشكلة فيه.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج21، ص148، ابواب نكاح العبيد والاماء، ب44، ح7، ط آل البيت.
[3] التنقيح في شرح العروة الوثقى، الخوئي، تسلسل35، ص57. محاضرات في الفقه الجعفري، الخوئي، ج2، ص47.