39/08/01


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/08/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 51 ) وقوع البيع بالمعاطاة - المكاسب المحرّمة.

متمم لتقريب التمسك بآية ﴿ أحل الله البيع ﴾:- ذكرنا عند تقريب التمسك بالآية الكريمة أنَّ الحل إما أن يقصد منه الحل الوضعي أو التكليفي ، فإذا كان يقصد منه الحل الوضعي فالآية الكريمة سوف تدل مباشرة على صحة البيع ونفوذة وبمقتضى الاطلاق لكل بيعٍ يشمل المعاطاة فيتم المطلوب بسهولة تامة ، وإن كان المقصود هو الحل التكليفي ، فحيث إنه لا يحتمل أنَّ نفس البيع بما هو اعتبار يكون حراماً تكليفاً حتى تأتي الآية وتقول هو حلال ، كلا بل هو اعتبار وليس تصرفاً فإنَّ التصرف هو الذي يحتمل أنه حرام تكليفاً أما الاعتبار فلا يحتمل فيه ذلك ، فإذن لابد وأن نوجّهه الحل إلى التصرفات ، يعني أحلّ الله التصرفات البعدية المترتبة على البيع من أكل وشرب واهداء واتلاف وكلّ التصرفات الأخرى ، ولازم اباحة جميع التصرفات عرفاً أنَّ البيع نافذ وصحيح وممضىً شرعاً ، فإذن بالمطابقة الآية الكريمة تدل على جواز التصرفات المترتبة على البيع وبالالتزام تدل على صحة البيع ، هكذا قرّبنا دلالة الآية الكريمة ، وقد قلنا ربما يظهر هذا التقريب بالكامل من عبارة مختصرة للشيخ الأعظم(قده).

إن قلت[1] :- إنه لا نحتاج إلى هذه الدلالة الإلتزامية بل تكفينا الدلالة المطابقية ، يعني مادام الحلّ التكليفي قد توجه إلى الآثار المترتبة على البيع من أكل وشرب واتلاف وغير ذلك فلا حاجة بعد هذا إلى اثبات أنَّ البيع صحيح ، لأنك تريد الآثار وهي قد ترتبت فإثبات صحة البيع لا داعي إليه ، فأنت اتعبت نفسك لإثبات صحة البيع من خلال التمسّك بالدلالة العرفية الإلتزامية والشيخ الأنصاري قال كلا بل هذه الدلالة ليست ثابتة ، ونحن قلنا له بأنَّ هذه الدلالة التي ذكرتها عقلية ونحن مقصودنا هو الدلالة العرفية ، وهذا تطويل بلا طائل ، فنحن نكتفي بهذا المقدار وهو أنَّ الحل التكليفي متوجه إلى الآثار المترتبة على البيع بلا حاجة إلى اثبات صحة البيع ، فحتى لو نذرت مثلاً وقلت ( إن كان البيع صحيحاً فسوف اتصدق بكذا ) فهذا النذر باطل لأنه غير راجح ويشترط في متعلّق النذر الرجحان ، فالآثار مادامت كلّها تترتب فحصل المقصود فلا حاجة إلى الاطالة ؟

قلت:- هناك شيء آخر مهم إن كان ثابتاً فنعم لا حاجة إثبات صحة البيع وهو التملك ، يعني أنَّ المشتري صارت هذه العين ملكاً له ، والتملّك ليس فعلاً من الأفعال حتى يتوجه إليه الحِلّ التكليفي ، فإنَّ الحلّ التكليفي يوجه إلى الآثار التي هي أفعال المكلف من أكلٍ وشرب وغيرهما ، أما التملّك الشرعي الذي يترتب عليه الأثر لأنه إذا صار تملّكاً شرعياً فسوف يترتب عليه الارث ، أما إذا لم يكن هناك تملّك شرعي فلا يترتب عليه الارث ، وهذه قضية مهمة جداً ، ونحن نريد البيع للتملّك الذي ينتقل إلى الورثة وليس فقط تلك الآثار من الأكل والشرب والاتلاف ، والتملّك ليس فعلاً للمكلف حتى نقول إنَّ الحلّ التكليفي يشمله ، وإنما هو أثر - سواء كان أثراً عقلائياً أو شرعياً أو اعتبار عقلائي أو شرعي فهذا مطلب ثانٍ - ، فبالتالي هو ليس فعلاً حتى يتوجه إليه الحلّ التكليفي والمهم هو اثبات التملّك ، فنحن ننتقل من حلّية هذه الآثار تكليفاً إلى إمضاء البيع حتى يثبت بذلك التملّك وبالتالي الارث.

نعم لو كان عندك طريق لإثبات التملّك غير ما سلكناه فنعم نسلّم أنه مادام التملّك ثابتاً فلا حاجة إلى اثبات صحة البيع ، فإذا فرض أنك أثبتَّ التملّك بطريقة من الطرق من غير الطريق الذي ذكرناه - هو التسّمك بالدلالة الإلتزامية العرفية - فهنا لا حاجة إلى اثبات صحة البيع ، ولكن الطريق منحصر بها ، فلا توجد عندنا وسيلة لإثبات التملّك والنقل والانتقال شرعاً إلا هذا الطريق.هذه فائدة علمية وهي متمّم لما تقدم ، والآن ننتقل إلى الاشكال الثاني.

أجاب السيد الخميني(قده)[2] عن الاشكال الثاني بما حاصله:- إنه تارة نفترض أنَّ الآية الكريمة تنفي المثلية التماثل لا أكثر ، يعني هي تقول هكذا ( الربا ليس مثل البيع ) من دون أن تبيّن الحكم وهو ( إنَّ الله أحلَّ البيع وحرّم الربا ) ، فهي تنفي المثلية من دن اثبات الحلية للبيع والتحريم للربا ، وأخرى نفترض أنها لا تتصدى لنفي المماثلة بالصراحة وإنما تبين حكمين أوحكماً واحداً ﴿ أحلّ الله البيع وحرّم الربا ﴾[3] ونحن ننتزع من بيان الحكم أو بيان هذين الحكمين نفي المماثلة ، فنفي المماثلة على هذا يصير مدلولاً التزامياً بينما على الأول سكون مدلولاً مطابقياً ، فإذا كان الآية الكريمة تنفي المماثلة بالدلالة المطابقية فهنا لا نستفيد الاطلاق ، أما إذا نفت المماثلة بالدلالة الإلتزامية ولكنها في الدلالة المطابقية أثبتت حكمين وهما أحلّ الله البيع وحرم الربا فبالالتزام ننتزع نفي المماثلة بينهما ، وفي مثل هذه الحالة لا مانع من التمسّك بالإطلاق لأنَّ الآية الكريمة ابتداءً تثبت الحلّية للبيع ، فإذا اثبتت الحلية ابتداءً من دون قيد فهنا يجوز التمسّك آنذاك بالإطلاق ، ونفي المماثلة قد فرضنا أنه مدلول التزامي ، وإلا فبالمطابقة فقد قالت الآية الكريمة ﴿ أحلّ الله البيع وحرّم الربا ﴾ ونحن انتزعنا أنه لا مماثلة فهنا يجوز التمسّك بالإطلاق ، لأنَّ المفروض أنَّ الآية الكريمة صبَّت حكماً على الموضوع حيث قالت ﴿ أحلَّ الله البيع ﴾ ، وقضية نفي المماثلة مدلول التزامي ما ورائي وليس مطابقياً ، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق.

والجواب:- إنَّ ما أفاده وجيه لو فرض أنَّ الآية الكريمة لم تبيّن شبهة وإنما ابتداءً كانت تبيّن حكماً فقط فهنا يتم ما ، ولكن المفروض أنَّ الأمر ليس كذلك ، فإنَّ الآية الكريمة بيّنت شبهة عندهم وهي أنهم قالوا لا فرق بين البيع والربا فالاثنين حلال ، فإنَّ الآية الكريمة قالت:- ﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ [4] ، فإذن الآية الكريمة ابتداء طرحت شبهة عندهم وهي أنه توجد مماثلة ومساواة بين البيع والربا وهي جاءت لتردّ هذه الشبهة.

إذن الاشكال الثاني يكون تاماً على مقتضى ما سرنا عليه ولكن يمكن أن نجيب عنه فيما بعد.

الاشكال الثالث:- إنَّ الآية الكريمة لو فرض أنها كانت بصدد بيان جعلٍ وتأسيس جعلٍ وإنشاء جعلً بحلية البيع وحرمة الربا بأن كانت تقول هكذا:- ( حلّلنا لكم البيع ايها المؤمنون وحرّمنا الربا ) فهنا يجوز التمسّك بالإطلاق لأنَّ هذا إنشاء وجعل تأسيس ، أما إذا كانت تخبر عن جعلٍ صدر فيما سبق وأنه فيما سبق صدر جعلٌ بحلّية البيع فهنا لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، إذ لعلّ الجعل السابق كان مقيداً بقيود والآية الكريمة ليست بصدد نقل ذلك الجعل بالكامل وإنما تنقله بمقدار الابتلاء ، فهي تقول هما من زاوية الحلّية والحرمة ليسا سواء ، فهي تريد أن تقول هذا المقدار فقط لا أكثر أما هل مطلق البيع قد امضيناه وأثبتنا الحلّية له فهي ليست بصدده إذا كانت ليست في مقام بيان جعلٍ تأسيسي ، والآية الكريمة يمكن أن يقال إنها كذلك ، فإنها تريد أن تشير إلى صدور جعلٍ فيما سبق حيث قالت ﴿ وأحل الله البيع وحرّم الربا ﴾ ، يعني صدر فيما سبق جعلٌ بحلّ البيع وتحريم الربا وهم قد اعترضوا على هذا الجعل ولم يقبلوه وقالوا لا فرق بين البيع وبين الربا فجاءت الآية الكريمة لتردّ عليهم وتقول بل شرعاً نحن أثبتنا جعلاً بحلّية البيع وتحريم الربا ، فهي تخبر عن جعلٍ صدر سابقاً وهذا إن لم يكن هو المقصود جزماً يكفينا أنه متحمل بدرجة وجيهة ، فلا يمكن إذن التمسّك بالإطلاق لأن الاطلاق دائماً هو من شؤون الجعل التأسيسي ، أما الإخبار عن جعلٍ حصل سابقاً فهذا لا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق .

وإذا قلت:- إنَّ هذا لم يذكر في بحث الاطلاق ، فهم لم يقولوا بأنَّ شرط التمسّك بالإطلاق أن يكون الجعل تأسيسياً ؟

فقلت:- إنَّ هذا لم يذكر لشدّة وضوحه ، فمادام هذا إخبار عن جعلٍ فلعلّ ذلك الجعل مقيّد بالصيغة الخاصة أو بأمور أخرى فالإطلاق لا يصح التمسّك به ، وإنما قلنا يحتمل أنه إخبار وليس تأسيسياً من باب أنَّ ( وأحلَّ ) هو إخبار ، وأضف إلى ذلك أنه يوجد اعتراض من قبلهم فمن اعتراضهم نفهم أنَّ هناك جعل بحلّية البيع وحرمة الربا وهم اعترضوا على ذلك الجعل وقالوا إنما البيع مثل الربا ، وهذا معناه أنه يوجد جعل سابق فجاءت الآية الكريمة لتؤكد ذلك الجعل السابق وتقول نحن قلنا بأنَّ البيع حلال والربا حرام ، أما هي فليست في صدد التأسيس فالإطلاق لا يمكن التمسّك به.


[1] والملحق المتمم يبدا من هنا.