06-07-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/07/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-  مسألة ( 427 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
الرواية الثانية:- رواية أبي الصباح الكناني قال:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الدُّلْجَة[1] إلى مكة أيام منى وأنا أريد أن أزور البيت، فقال:- لا حتى ينشقّ الفجر كراهية أن يبيت الرجل بغير منى )[2]، إنه عليه السلام لم يجوّز الخروج من منى قبل أن ينشقّ الفجر فلو كان يكفي النصف الثاني لكان من المناسب الاكتفاء بذلك، هكذا قد يقال.
والجواب واضحٌ:- فإن هذه الرواية لم تجوّز حتى النصف الأوّل فالاكتفاء بالنصف الأوّل أيضاً لا تجوّزه ولذلك أمر الأمام عليه السلام بالبقاء إلى أن يطلع الفجر، فلو كان النصف الأوّل يكتفى به لجوّز قبل طلوع الفجر، فهذه الرواية في الحقيقة هي أدلّ على العكس - يعني تدلّ على أن البقاء في النصف الأوّل لا يكفي لا أن البقاء في النصف الثاني لا يكفي - وعلى هذا الأساس حيث إنَّ البقاء في النصف الأوّل مما لا إشكال في جوازه وقد دلّت بعض الروايات السابقة عليه فلابد من حمل النهي في هذه الرواية على الرجحان والأفضليّة، يعني الأفضل أن لا يجرج قبل ذلك، خصوصاً وأن الامام عليه السلام علّل بقوله:- ( كراهية أن يبيت الرجل بغير منى )، يعني لو خرج في الليل لعلّه لا يدرك النصف الثاني فسوف يبيت بغير منى فالنصف الأوّل لم يدركه لأنه خرج أوّل الليل إلى مكة والنصف الثاني لعلّه يطرأ له مانع يمنعه من الوصول إلى منى قبل النصف  الثاني . إذن التعليل لعله أنسب مع ما أشرنا إليه - يعني أن الحكم مبنيّ على الأفضليّة وليس على الإلزام -، هذا من حيث الدلالة.
وأمّا من حيث السند:- فقد رواها الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني، وطريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد لا إشكال فيه، ونفس الحسين بن سعيد الأهوازي لا إشكال فيه أيضاً، والكناني يمكن الحكم بوثاقته لما نقله النجاشي من أنه كان يسمّيه أبو عبد الله عليه السلام بالميزان لثقته، فإذن يمكن الحكم بوثاقته إن ثبت سند هذه الرواية - بحيث أن سندها لا تنتهي إليه هو نفسه - . إذن يوجد مجال للحكم بوثاقته.
إلّا أن المشكلة في محمد بن الفضيل فإنه مشتركٌ بين الثقة وغيره فيكون أمره مشكلٌ من هذه الناحية، فالروية من حيث السند هي محلّ إشكال.
الرواية الثالثة:- رواية عبد الغفار الجازي:- ( قال:- سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ خرج من منى يريد البيت قبل نصف الليل فأصبح بمكة، قال:- لا يصلح له حتى يتصدق بها صدقة أو يهريق دماً فإن خرج من منى بعد نصف الليل لم يضرّه شيء )[3]، بتقريب:- أنه حينما سُئِل عليه السلام عن الخروج قبل نصف الليل لم يجوّزه وقال ( لا يصلح له )، هذا ما قد يقال.
وفيه:- إن فقرة الاستدلال إمّا هي الأخيرة - يعني ( فإن خرج من منى بعد نصف الليل لم يضرّه شيء ) - بدعوى أنها تدلّ بالمفهوم على أن غير ذلك لا يجزي أمّا إذا فرض أنه أراد أن يبقى في منى من بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر فهذا يستفاد أنه لا يكفي، أو يكون مورد الاستدلال هو الفقرة السابقة - يعني ( يخرج من منى يريد البيت قبل نصف الليل، قال:- لا يصلح ) -.
فإن كان هو الأوّل يعني نريد أن نتمسّك بالفقرة الأخيرة فهي لا مفهوم لها بل أقصى ما تدلّ عليه هو أنه لو خرج بعد نصف الليل من منى فهذا لا يضرّه، يعني أن النصف الأوّل يكفي بقائه في منى، أمّا أنه لو دخل في منى قبل منتصف الليل وبقي حتى طلوع الفجر فهذا لا يكفيه ولا يصلح فهو مسكوتٌ عنه، فالفقرة الاخيرة أذن حياديّة وليس لها مفهوم.
وأمّا إذا كان مورد الاستدلال هي الفقرة السابقة - يعني ( يخرج قبل نصف الليل، قال:- لا يصلح ) - فإن هذه الفقرة لا تدلّ على أنه من نصف الليل إلى الفجر لا يكفي لأنه قد فرض أنه خرج قبل نصف اليل واصبح بمكة إذن فاته النصف الأوّل لأنه خرج قبل نصف الليل وفاته النصف الثاني، فكلا النصفين قد فاتاه فالحكم بعدم الإجزاء يكون على طبق القاعدة وأمراً وجيهاً لأنه فاته المبيت في كِلا النصفين.
إذن لا تنفعنا الفقرة الأخيرة ولا الفقرة الأوّلى خصوصاً وأنها تضمّنت حكماً يمكن أن يقال بأنه مهجورٌ وذلك الحكم وهو أنّه لو لم يبِت في منى يتصدّق صدقةً أو يهريق دماً فإن المعروف بين الفقهاء أنَّ من لم يبِت في منى فعليه دمٌ أمّا أنّه يتصدّق بصدقةٍ فلا، وعلى هذا الأساس الرواية قد تضمنت أمراً مهجوراً وهذا قد يوجب ضعفها وإن كان عذا لا يشكل ضعفاً على مذهب المشهور الذين يقولون بالتفكيك بين فقرات الرواية.
وإذا رجعنا إلى سندها وجدناه هكذا:- ( الشيخ عن سعد عن محمد بن الحسين عن النظر بن شعيب عن عبد الغفار الجازي ) وطريق الشيخ إلى سعد بن عبد الله القمّي لا إشكال فيه، ونفس سعد من ثقاة أصحابنا، ومحمد بن الحسين  يعني ابن أبي الخطّاب من أجلّة أصحابنا، وعبد الغفار الجازي قد وثّقه النجاشي، ولكن المشكلة في النظر بن شعيب فإنه لم تثبت وثاقته بل لم يوثّق.
الرواية الرابعة:- رواية قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:- ( سألته عن رجل بات بمكة حتى أصبح في ليالي منى، فقال:- إن كان أتاها نهاراً فبات حتى أصبح فعليه دم شاة يهريقه وإن كان قد خرج من منى بعد نصف الليل فأصبح بمكة فليس عليه شيء )[4]، بدعوى أنه عليه السلام حكم بأنه لو خرج بعد نصف الليل فأصبح بمكة فليس عليه شيء يعني أنّ ما سوى ذلك عليه شيء، ومن مصاديق ( ما سوى ذلك ) هو أن يفترض أن يكون في مكّة في النصف الأوّل ويكون في منى النصف الثاني فهذا عليه شيءٌ وهذا معناه أنّه لا يجزيه . هكذا قد يقال.
ولكن يرد عليه:- إن غاية ما تدلّ عليه هو أنّ هذا إذا خرج بعد نصف الليل كفاه لأنه بقي النصف الأوّل، أمّا أنّ بقاء النصف الثاني لا يجزي أو يجزي فهو شيءٌ مسكوتٌ عنه لا أنّه نستفيد بالمفهوم عدم الاكتفاء به، فالرواية من هذه الناحية لا نستفيد منها ما أريد.
مضافاً إلى أن السند هكذا:- ( عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر )، والمشكلة في عبد الله بن الحسن فإنه لم تثبت وثاقته إلّا على أصلٍ وهو أن أولاد الطيبين طيبون أيضاً فإذا ثبت هذا الأصل فبها، ولكن الظاهر أن هذا لا أصل له.
ومن خلال هذا كلّه اتضح:- أن المناسب هو الحكم بكفاية المبيت في أحد النصفين بما في ذلك النصف الثاني لا خصوص النصف الأوّل، نعم تحفظاً من مخالفة ما نسب إلى الأصحاب - على ما نقل صاحب الرياض(قده) من أنهم يقولون باختصاص الإجزاء بخصوص النصف الأوّل - فالمناسب الاحتياط بالاكتفاء بخصوص النصف الأوّل.
وعلى أيّ حال كان من المناسب للسيد الماتن(قده) أن يحتاط في المتن والحال أنّه لم يحتط، فالاحتياط شيءٌ في محلّه ولو على مستوى الاحتياط الاستحبابي.
الإصباح في منى:-
هناك روايتان أو ثلاث روايات - والترديد ليس عفوياً وإنما لنكتةٍ سوف تتّضح إن شاء الله تعالى - يمكن أن يستفاد منها أنّ المبيت في منى بتمام الليل أو تمام النصف الأوّل أو تمام النصف الثاني كلّه ليس بلازمٍ وإنما اللازم هو أن يكون الحاج قبيل الصباح - أي قبيل الفجر -  في منى، فإذا أوصل نفسه إلى منى قبل أن ينشقّ الصبح ولو بفترةٍ قليلةٍ كفاه ذلك بلا حاجة إلى المبيت في النصف الأوّل أو النصف الثاني أو تمام الليل والروايات هي:-
الرواية الأوّلى:- صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:- ( إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلّا بها )[5]، والظاهر أن دلالتها واضحة فإنه عليه السلام قال مادمت قد خرجت قبل الليل من منى فحاول أن تكون فيها قبل الصبح وهذا معناه أن الإصباح في منى كافٍ.
وعلى منوالها صحيحة محمد بن مسلم - وهي بنفس المتن - عن أحدهما عليهما السلام:- ( أنه قال في الزيارة:- إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلّا بمنى )[6].
فإذن دلالة الرواية واضحة على المطلوب، ومن هنا قلت هي ثلاث روايات أو روايتين.
الرواية الثانية:- صحيحة العيص بن القاسم:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الزيارة من منى، قال:- إن زار بالنهار أو عشاءً من منى فلا ينفجر الصبح إلّا وهو بمنى وإن زار بعد نصف الليل أو السحر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكة )[7]، إنها دلّت على أنّه لو كان قد بقي نصف الليل الأوّل في منى فلا بأس أن يخرج بعد نصف الليل إلى مكّة وينشقّ عليه الصبح وهو في مكّة، أمّا إذا خرج في النهار أو عشاءً فهذا معناه أنّه لم يتحقّق منه المبيت في النصف الأوّل فهذا يلزمه أن يحلّ الصبح عليه وهو في منى فيكفيه هذا المقدار.
إذن هي تدلّ على التخيير بين المطلبين بين أن يبقى النصف الأوّل في منى وبين أن لا يبقى حتى النصف الأوّل ولا النصف الثاني ولكن المهمّ هو أنّه حينما يحلّ الفجر يكون موجوداً في منى، فإذن دلالتها على ذلك واضحة فماذا نفعل ؟
والجواب:- لو كنّا نحن والقاعدة فإمّا أن نقول نجمع بين هذه الطائفة المكوّنة من روايتين أو ثلاث وبين تلك الروايات التي قالت يلزمه المبيت في النصف الأوّل أو النصف الثاني بالحمل على التخيير كما يوحي به ذيل هذه الرواية الأخيرة - يعني صحيحة العيص بن القاسم - فإن قلنا إن هذا الجمع ممكن عرفاً فبها ونعمت وتصير النتيجة حينئذٍ كفاية الإصباح في منى بنحو التخيير، وإذا قلنا لا يمكن الجمع لأن تلك الروايات ظاهرة ظهوراً قويّاً في تعيّن أحد النصفين بحيث لا يمكن الجمع بالحمل على التخيير بينهما وبين الإصباح في منى فحينئذٍ يتساقطان بلحاظ مادّة الاجتماع - وهي الإصباح في منى من دون مبيت النصف الأوّل ولا مبيت النصف الثاني - فمقتضى روايات النصفين أنّ هذا لا يجزي ومقتضى هذه الروايات الأخيرة أنه يجزي فتصير معارضة  فيتساقطن فنرجع إلى ما تقتضيه الأصول والقواعد وهي تقتضي أنّ ذمتنا قد اشتغلت بأحد هذه الأمور جزماً - يعني الجامع - أمّا خصوص المبيت في أحد النصفين فإنه كلفة زائدة مشكوكة ننفيها بالبراءة فتعود النتيجة كما هي.
إنَّ هذا هو المناسب.
ولكن يبقى شيء يقف أمامنا:- وهو هجران الأصحاب لمضمون هذه الروايات الأخيرة، فإنه لم ينسب القول بمضمونها إلى أحدٍ، فلأجل وجود شبهة الهجران فحينئذٍ يكون المناسب هو الاحتياط الوجوبي بتعيّن أحد النصفين وعدم الاكتفاء بالإصباح في منى.



[1]  الدُّلْجَة أو الدُّلَجَة:- وهي السير ليلاً  أوّل الليل على ما قال بعضهم أو السير في الليل كلّه .