12-08-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/08/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-  الواجب الثالث عشر من واجبات حج التمتع ( رمي الجمار ).
وفيه:- ان الأمر بالرجوع بقوله عليه السلام:- ( فلترجع فلترم الجمار كما كانت ترمي ) كما يحتمل ان يكون المقصود منه بيان الوجوب وانه يجب عليها ذلك - أي الرجوع - كذلك يحتمل ان المقصود هو الإشارة إلى انه بالنسيان والجهل لا يسقط ما عليه الرمي من الحكم بل التدارك ممكنٌ حتى بعد الجهل والنسيان فمتى ما حصل التذكّر والالتفات فلترمِ كما يقال ذلك بالنسبة إلى القنوت فانه لو سأل السائل وقال:- ( رجل نسي أن يقنت في الركعة الثانية قبل أن يركع ) فانه لو أجيب بمثل جملة ( فليقنت بعد ركوعه ) لا يقصد من ذلك بيان الوجوب وإنما يقصد بيان أن التدارك ممكنٌ وأنّ محلّ القنوت مستمرّ وباقٍ فبإمكانه أن يقنت، إنّ هذا احتمالٌ وجيهٌ أيضاً بحيث لا ظهور للجملة في الأوّل في مقابل هذا الثاني وبذلك تعود العبارة مجملة.
إن قلت:- نحن نشعر بالوجدان ظهور فعل الأمر في الوجوب يعني مثل ( فلترجع فلترمِ ) إنّ هذين فعلان - أي هما فِعْلا أمرٍ - والأمر ظاهر في الوجوب بالوجدان فلماذا إذن نشكك في استفادة الوجوب منها ؟
قلت:- نحن نسلّم ظهور الأمر في الوجوب ولكن نسلّم بذلك لو جاء الأمر مستقلاً وابتداءً كما إذا قيل ( إرم الجمار في اليوم الحادي عشر وفي اليوم الثاني عشر )، أمّا إذا جيء بصيغة الأمر بعد افتراض الفوات والنسيان فإنه في هذه الحالة من أين لك أن ظاهر الأمر الوجوب ؟! فلا ينبغي الخلط إذن بين الموردين، فالأمر ظاهرٌ في الوجوب إذا كان ذلك ابتداء، أمّا إذا كان وأرداً بعد افتراض السائل وجود نسيانٍ أو جهلٍ فالأمر لا يكون ظاهراً في الوجوب بل يكون محتملاً لكِلا الأمرين كما مثّلنا بمسألة القنوت ( فليقنت بعد الركوع ) فانه لا يفهم منه الوجوب، فالعبارة إذن مجملة.
وعلى منوال هذه الرواية وأخواتها ما دلّ على أنّ من التفت في اليوم الثاني عشر إلى أنه ترك الرمي في اليوم الحادي عشر إمّا كُلّاً أو بعضاً فانه توجد روايات دلّت على أنّ الملتفت في اليوم الثاني عشر عليه أن يقضي، من قبيل صحيحة عبد الله بن سنان:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ أفاض من جمع حتى انتهى إلى منى فعرض له عارض فلم يرمِ[1] حتى غابت الشمس، قال:- يرمي إذا أصبح مرّتين مرّة لما فاته والأخرى ليومه الذي يصبح فيه وليفرّق بينهما يكون أحدهما بكرةً وهي للأمس والأخرى عند زوال الشمس )[2]، وعلى منوالها غيرها، فإنها قالت:- ( فليرم إذا أصبح مرّتين مرّة لما فاته وأخرى ليومه الذي يصبح فيه ) وموضع الشاهد هو العبارة الأخيرة وهي قد دلّت على أنّه يرمي رمياً ثانياً ليومه الذي يصبح فيه - الذي هو اليوم الحادي عشر -.
نعم قد تقول:- هذه خاصّة باليوم الحادي عشر ولا تدلّ على وجوب الرمي في اليوم الثاني عشر فهي إن دلّت فقاصرة عن إثبات تمام المدّعى بل تثبت نصفه.
وجوابه واضح:- فإنه يمكن أن نضمّ عدم القول بالفصل، أي لا يحتمل التفصيل بين اليومين ففي اليوم الحادي عشر يجب ولكن في اليوم الثاني عشر ليس بواجب . وهذه طريقة نافعة للفقيه يستعين بها في مثل هذه الحالة وهي طريقة جيّدة مادام قد فرضنا أن هناك اطمئنان بعدم التفصيل بين اليومين فمادام قد فرضنا ذلك فحينئذٍ إذا ثبت الوجوب بلحاظ اليوم الحادي عشر يثبت بلحاظ اليوم الثاني عشر أيضاً من باب هذا الاطمئنان على عدم التفصيل.
وعلى أيّ حال الجواب عن هذه الطائفة هو نفس الجواب المتقدم عن الطائفة السابقة:- فيحتمل أن لا يكون المقصود أنه يجب عليه أن يرمي في اليوم الحادي عشر بعنوان اليوم الحادي عشر بل لعلّ المقصود هو أن المحلّ لا يفوت بنسيان رمي جمرة العقبة في اليوم العاشر بل تبقى الوظيفة، فوظيفة أمس تبقى ووظيفة هذا اليوم تأتي بعدها فكلمة ( فليرمِ لهذا اليوم ) لا يُقصد منها بيان الوجوب بل يقصد منها بيان أنّ هذه الوظيفة تبقى والتدارك ممكنٌ ولكن بعد الاتيان بالقضاء أوّلاً، فلا يستفاد حينئذٍ من ذلك الوجوب، وحيث إنّ العبارة تحتمل هذا وتحتمل ذاك فهي مجملةٌ من هذه الناحية.
الرواية الثالثة:- صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إرمِ في كلّ يوم عند زوال الشمس وقل كما قلت حين رميت جمرة العقبة )[3]، بتقريب أنها قالت:- ( إرمِ في كلّ يومٍ عند زوال الشمس )، والمقصود من قوله ( كلّ يوم ) يعني اليوم الحادي عشر والثاني عشر ولعله بإضافة اليوم الثالث لمن غربت عليه الشمس وهو في منى والقدر المتيقّن هو اليوم الحادي عشر والثاني عشر وبذلك يثبت المطلوب فان كلمة ( إرمِ ) هي أمرٌ والأمر ظاهر في الوجوب.
وفيه:- إنّها لم تقل ( إرمِ في كلّ يوم ) وانما قالت ( إرم في كلّ يومٍ عند زوال الشمس ) فذكرت الظرفيّة - أي عند زوال الشمس - فلو كانت لا تذكر الظرف يعني كانت تقول ( إرم في كل يوم وقل كما قلت .. ) لكان بالإمكان استفادة الوجوب منها أمّا بعد أن قالت ( إرم عند زوال الشمس ) فيأتي آنذاك احتمال أن يكون المقصود هو بيان شرطيّة حلول الزوال وأنه عند الزوال يحلّ آنذاك الرمي نظير ما يقال ( توضأ بالماء الطاهر ) و ( صلّ إلى القبلة ) و ( استقبل بذبيحتك القبلة ) فإن هذا لا يفهم منه الوجوب، فجملة ( استقبل بذبيحتك القبلة ) ليس المقصود منها أنه يجب عليك الاستقبال بما هو وإنما المقصود هو أنه إنْ أردت أن تذبح فيجب عليك الاستقبال، وهكذا في ( توضأ بالماء الطاهر ) فإن المقصود هو أنك إن أردت الوضوء فيلزم أن يكون بالماء الطاهر، وهكذا في ( صل إلى القبلة ) يعني إذا أردت الصلاة فتوجه إلى القبلة لا أن المقصود ابتداءً أنّه تجب الصلاة وإنما المقصود هو بيان شرطيّة الاستقبال لصحّة الصلاة أو شرطيّة طهارة الماء لصحّة الوضوء وهكذا، وهنا يحتمل أن يكون هذا هو المقصود وأنّه إن أردت أن ترمي فليكن عند الزوال، فهو بيانٌ لشرطيّة الزوال، فالمقصود هو هذا لا أنّه يراد أن يقول إنّ الرمي واجبٌ - كما ذكرنا في تلك الأمثلة -وبهذا تعود الرواية مجمّلة من هذه الناحية . نعم لو كانت تقول ( إرم في كلّ يومٍ ) من دون قيد ( عند الزوال ) ففيها دلالة على الوجوب، أمّا بعد التقييد المذكور فلعلّ ذلك لبيان شرطيّة الزوال ولو بنحو الاستحباب.
هذا مضافاً إلى أنّ الرواية المذكورة قد اقترنت بمجموعة من المستحبّات فلنقرأها بالكامل وذلك يحتاج إلى مراجعة المصدر - أي التهذيب - وهذه أحد نقاط الضعف في الوسائل فإنه حينما يقرأ الشخص الرواية في الوسائل لا يجد فيها جملةً من المستحبّات بل يجد هذا المقدار :- ( إرم في كلّ يومٍ عند زوال الشمس وقلت كما قلت حين رميت جمرة العقبة ) يعني يوجد مستحب أو مستحبان، ولكن إذا رجعنا إلى المصدر وجدنا فيها الكثير من المستحبات ونصها:- ( إرمِ في كلّ يوم عند زوال الشمس وقل كما قلت حين رميت جمرة العقبة فابدأ بالجمرة الأولى فارمها عن يسارها من بطن المسيل وقل كما قلت يوم النحر ثم قم عن يسار الطريق فاستقبل القبلة واحمد الله واثن عليه ثم تقدم قليلاً فتدعوا  وتسأله ان يتقبل منك ...)[4]، إنّ المستحبّات فيها كثيرة وهذا كما قلنا في أبحاثٍ سابقةٍ يمكن أن يزلزل استفادة الوجوب حتى بناءً على مسلك حكم العقل فأنّ العقل إنما بلزوم الامتثال فيما إذا لم تكن العبارة مقرونة بجملة من المستحبّات أمّا إذا كانت مقرونةً بجملةٍ من المستحبّات فحكم العقل بالوجوب هو أوّل الكلام.
الرواية الرابعة:- رواية بريد العجلي:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ نسي رمي الجمرة الوسطى في اليوم الثاني، قال:- فليرمها في اليوم الثالث لما فاته ولما يجب عليه في يومه، قلت:- فان لم يذكر إلا يوم النفر ؟ قال:- فليرمها ولا شيء عليه )[5].
وقد قال السيد الخوئي(قده) عن هذا الحديث:- ( إنّه صريحٌ في وجوب الرمي في اليوم الحادي عشر والثاني عشر ).
وفيه:- إنه إذا أريد استفادة الوجوب من الأمر بالرمي حيث قال:- ( فليرمها في اليوم الثالث لما فاته ) فقد تقدّم أن هذا مجملٌ ولعله لبيان إمكان التدارك وأن المحلّ باقٍ بَعدُ كما في جملة ( فليقنت ) إذا فاته القنوت قبل الركوع فليقنت بعد الركوع، وإذا كان المقصود هو الاستشهاد بكلمة ( يجب ) في عبارة ( ولما يجب عليه في يومه ) وأنّ التعبير بكلمة يجب دالّ على الوجب بالصراحة، فهو(قده) لعلّه قال هي صريحة بالوجوب من هذه الناحية.
وهذا شيءٌ جيّدٌ لولا أن يناقش ويقال:- إنّ كلمة ( يجب ) تستعمل لغةً بمعنى الثبوت، فلعلّ المقصود من قوله ( لما يجب عليه في يومه ) أي لما هو ثابتٌ عليه في يومه، ونحن قد قرأنا في علم الأصول أنّ صيغة الأمر ومادته ظاهرتان في الوجوب للتبادر - وصيغة الأمر واضحةٌ مثل أرمِ ومادة الأمر مثل آمرك أو أنت مأمورٌ - وأمّا مادة الوجوب فلم نقرأ في علم الأصول أنّها دالة على الوجوب لأنها في الروايات لا تستعمل في الوجوب عادةً، ولعلّ هذا هو السبب في عدم إشارة الأصوليون إليها فمادّة الوجوب لم نقرأ في علم الأصول أنّها ظاهرة في الوجوب.
وقد استعملت هذه الكلمة في الروايات لإرادة الثبوت، من قبيل رواية أبي جعفر عليه السلام:- ( ما من مؤمن يصاب بمصيبة في الدنيا فيسترجع عند مصيبته ويصبر حين تفجأه المصيبة إلّا غفر الله له ما مضى من ذنوبه إلّا الكبائر التي أوجب الله عليها النار )[6]، فان المقصود من كلمة ( أوجب ) أي الثابت، وهكذا ورد في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( التعزية الواجبة بعد الدفن )[7] فان المقصود من الواجب هو بمعنى الثابت، وهكذا ورد في الحديث:- ( إنّ من حقّ المسلم الواجب على أخيه إجابة دعوته )[8]فإنّ المقصود من الواجب يعني أنّ من حقّ المسلم الثابت على أخيه إجابة دعوته . وعلى أي حال من يراجع الروايات يجد أن هذا الاستعمال مألوف، وعلى هذا الأساس استفادة الوجوب قد يشكل من هذه الناحية فضلاً عن دعوى الصراحة . هذا مضافاً إلى أنه ورد في السند الحسن بن الحسين اللؤلؤي وهو وإن وثّقه النجاشي ولكن ضعّفه بن الوليد والشيخ الصدوق وأبو العباس بن نوح فالسند أيضاً يمكن التشكيك فيه.
ولا أحسن من أن يقال في إثبات وجوب الرمي في اليوم الحادي عشر والثاني عشر:- إن سيرة المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وإله وسلم والأئمة عليهم السلام قد جرت على الاتيان برمي الجمار في اليومين المذكورين ولا أحد يشكك في ذلك، فإذا قبلنا بهذا فنقول إنّ المسلين كانوا يأتون برمي الجمار في هذين اليومين بأي نيّة ؟ فهل يأتون بذلك بنيّة الوجوب أو بنيّة الاستحباب ؟ أو أن بعضهم يأتي به بنيّة الوجوب والبعض الآخر بنيّة الاستحباب ؟ هذه احتمالات ثلاثة ولا احتمال رابع لها في البين، والأوّل هو مطلوبنا، وأمّا الثاني فهو بعيدٌ لأن هذا يعني أنه قد حصل تحوّلٌ من الاتيان بها بنيّة الاستحباب إلى الاتيان بها بعد ذلك بنيّة الوجوب فإن السيرة في زماننا وما قبلة جارية على الاتيان بها بنيّة الوجوب حتى عند الفقهاء وليس عند عوام الناس فقط حتى تقول إنّ هذا ناشئ من الرسالة العمليّة، واحتمال التحوّل من الاتيان بها بنيّة الاستحباب إلى نيّة الوجوب ظاهرة غريبة فلو كانت ثابتة حقّاً لنقلت، ونفس التحولّ في مثل هذه القضايا بهذا الشكل هو بعيدٌ في حدّ نفسه، وأمّا بالنسبة إلى الاحتمال الثالث فهذا يعني وجود اختلاف بين المسلمين في تلك الفترة الزمنيّة ولو كان هذا الاختلاف ثابتاً لنقل إلينا والحال أنّه لم ينقل مثل هذا الاختلاف، على أنّ مثل هذا الاختلاف في زمن النبي صلى الله عليه وآله هو شيءٌ مستبعدٌ فمع وجود النبي كيف يختلف المسلون في الاتيان به بنيّة الوجوب أو الاستحباب ؟!، بل حتى  في زمن الأئمة عليهم كذلك فأتباع الأئمة عليهم السلام مع وجود الإمام يكون احتمال أنهم يختلفون في ذلك شيئاً بعيداً، وعلى هذا الأساس يكون المتعيّن هو الاحتمال الأوّل . ومرجع هذا التوجيه إلى الاطمئنان، يعني أنّ الفقيه يحصل له الاطمئنان بأن الاتيان برمي الجمار في هذين اليومين كان بنيّة الوجوب وهو المطلوب.


[1]  أي لم يرمِ جمرة العقبة في اليوم العاشر.