32/11/17


تحمیل

وقد يستدل على عبادية الطواف بالوجوه الثلاثة التالية:-

الوجه الاول:- قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) فانه يدل على أن اللازم هو الإتيان بالحج والعمرة لله عز وجل ، وهو وان كان ناظراً إلى مرحلة الإتمام والبقاء إلا أنه حيث لا يحتمل الفرق بينها وبين مرحلة الحدوث فيثبت بذلك وجوب الإتيان بالعمل من بداية لله عز وجل.

 ونضم إلى ذلك مقدمة ثانية وهي أن الحج وهكذا العمرة هما اسمان لمجموع الأفعال وليس هما شيئاً وراء الأفعال إذ المركب عين أجزاءه ، وحيث أن من أحد الأجزاء هو الطواف فيثبت بذلك عباديته.

 هذا ما قد يستدل به ، ولعل السيد الخوئي(قده) ذكره في بعض كلماته.

وفيه ما أشرنا إليه سابقاً:- من أن وجوب الإتيان بالعمل لله يحتمل أمرين :-

الاول:- ما نستفيد منه ويثبت به المدعى وهو أن يكون المقصود هو لزوم قصد التقرب بالعمل لله ، وبذلك تثبت العبادية.

الثاني:- أن يكون المقصود ذلك في مقابل الشرك ، فلا يجوز إشراك غير الله عز وجل عند الإتيان بالعمل ، فالشرك مبغوض لله عز وجل أما أنه يلزم الإتيان به لله حتى في حالة عدم إشراك غيره به فهو شيء مسكوت عنه ، فالآية تريد أن تنبه على مبغوضية الشرك ولا تريد أن تقول ان قصد الله شيء لازم حتى إذا لم يقصد الشرك .

 ونظير هذا ما يقال في قوله تعالى ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين )[1] فانه قد استدل بعض بهذه الآية على عبادية جميع العبادات إلا ما خرج بالدليل حيث تقول الآية ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) أي للعبادة.

 ونفس هذا الجواب الذي ذكرناه يأتي هنا فيقال ان هذه الآية يستفاد منها مبغوضية الشرك ، فكلما دار الأمر بين الشرك والإخلاص فالشرك محرم ، أما أنه إذا لم يُرِد أحدٌ الشرك فهل يلزم الإتيان بالعمل بقصد القربة لله ؟ انه لا يستفاد ذلك ، وحيث أن الآية مرددة بين الاحتمالين فلا يمكن التمسك بها لإثبات المطلوب ، بل غاية ما يثبت هو حرمة الشرك وبطلان العمل المشتمل عليه.

الوجه الثاني:- التمسك بالرواية التي تقول ( بني الإسلام على خمسة أشياء الصلاة والزكاة والحج....... ) فان أحد الأشياء التي بني عليها الإسلام هو الحج ، وحيث أن من البعيد بناء الإسلام على الأمر التوصلي - أو بالأحرى غير العبادي - فيثبت بذلك عبادية الحج وهو المطلوب.

 والمقدمة المهمة التي يستعان بها في هذا الوجه هي ( ان من البعيد بناء الإسلام على أمور توصلية وليست عبادية ) وهذا ما تمسك به السيد الخوئي(قده) في بعض كلماته أيضاً.

وفيه:- ان هذا أقرب بالكلام الخطابي منه بالكلام العلمي ، وإذا غضضنا النظر عن ذلك وسلمنا الاستبعاد المذكور فيمكن أن نقول ان غاية ما يثبت بهذا الوجه هو أن الحج عبادي في الجملة ، أما أنه يلزم أن يكون عبادياً بكل أجزاءه فلا إذ البعيد هو أن يبنى الإسلام على شيء هو بأجمعه توصلياً أما أن يكون بعضه أو أغلبه عبادياً فهذا ليس بعيداً ، وحيث نحتمل أن الطواف من القسم الذي لا يعتبر فيه قصد التقرب فعليه لا يمكن أن نثبت بهذا عباديتة.

الوجه الثالث:- التمسك بقوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت ....) فانه يدل على أن الذي اشتغلت به الذمة هو الحج المنتسب لله عز وجل حيث قالت الآية ( ولله على الناس حج البيت ) والحج المنتسب لله عز وجل ليس هو إلا ما قصد به القربة . وهذا ما أشار إليه السيد الخوئي (قده)[2] .

وجوابه واضح:- فان غاية ما يستفاد من الآية الكريمة هو أن الله عز وجل له علينا حج البيت ، فالذي اشتغلت به ذمتنا - وعبَّر عن الاشتغال بكلمة ( لله ) وهي كناية عن شغل الذمة لله عز وجل بالحج هو الحج ، أما أن تقول هو الحج المنتسب لله يعني القربي - فمن أين لك هذا ؟ فهو أجنبي عن الآية إذ هي لم تقل ( ولله على الناس حج البيت لله وبقصد القربة ).

 وهذا نظير باب النذر ، فالمكلف في باب النذر يقول ( لله علي أن أفعل كذا ان رزقني الله ولداً ) ، ويأتي السؤال هل النذر والوفاء به شيء عبادي أو توصلي ؟ فلو نذرت مثلاً ان رزقني الله ولداً أن أذبح ذبيحة للفقراء ، وقد رزقني الله بالولد ، ولكن مع الغفلة التامة ذبحت ذبيحة وقسَّمتها على الفقراء ثم بعد ذلك التفتُّ إلى النذر ولكن المفروض أني لم أقصد ذلك عند ذبحي للذبيحة وتوزيعها ، فهل يكفي هذا في تحقق الوفاء بالنذر ؟

 نعم يكفي ذلك ، وقد ذكره (قده) وتعلمناه منه في مجلس درسه لأني نذرت أن يكون لله علي أن أذبح ذبيحة وقد تحقق ذلك أما أنه يلزم أن أقصد الوفاء بالنذر ويلزم أن أقصد كون ذلك لله فهذا لا دليل عليه ولا يستفاد من صيغة النذر.

 ونفس الشيء نقوله في مقامنا فان صيغة ( ولله على الناس حج البيت ) غاية ما تدل عليه هو أن ذمة المكلفين قد اشتغلت لله بالحج ، أما أنه هو الحج المنتسب له عز وجل فلا يستفاد منها ذلك.

والخلاصة:- ان الوجه المهم في إثبات عبادية الطواف هو الارتكاز المتوارث على ما ذكرنا.

ويبقى شيء وهو:- ماذا يراد من قصد القربة والعبادية ؟ فهل يلزم الاستحضار ، يعني استحضار صورة الطواف في الذهن من البداية واستحضار أنه لله عز وجل وغير ذلك كما قد توهم ذلك عبائر بعضٍ على ما ينقل ؟

 كلا ان المقصود من القربة هو أن يكون الداعي هو امتثال الأمر الإلهي وحيث أنه قد دخل المكلف إلى المسجد الحرام ليس إلا بداعي الإتيان بالطواف وامتثال أمر الله فهذا هو قصد القربة ولا حاجة إلى أكثر من ذلك.

 والوجه في ذلك عدم الدليل على أكثر من هذا فتجري البراءة عنه ، فالداعي كافٍ في باب الطواف بل في كل العبادات لنفس النكتة.

 ومنه يتضح التأمل في عبارة بعض الفقهاء من قبيل ما ذكره صاحب المدارك(قده) بقوله ( وتجب مقارنة النية لأول الطواف ولا يضر الفصل الطويل..... )[3] فان هذا لا حاجة إليه فان النية ما دامت هي الداعي فهو عادةً متحقق قبل الطواف ويستمر مع بدايته فالتأكيد على لزوم مقارنته لبداية الطواف تأكيد على ما هو حاصل إذ عادة يكون الداعي ثابتا بمجرد الدخول إلى المسجد الحرام أو بمجرد إرادة الالتحاق في صف الطائفين فالتأكيد على هذا قد يورث الوسوسة.

 ومن المناسب عدم تسليط الأضواء على النية في كل العبادات ، فان الفقهاء يذكرون أحياناً بعض التفاصيل أو العبائر التي تورث الوسوسة ، وحتى في باب الصلاة لا حاجة إلى أن نقول يلزم النية إذ من الواضح أن المكلف حينما يريد أن يمتثل فلا غرض ولا داعي له إلا التقرب من الله عز وجل . نعم لا بأس بالتأكيد على أن الرياء مثلاً مبطل للعبادة فهذا شيء جيد.

[1] سورة البينة.

[2] المعتمد 4- 292.

[3] المدارك 8 125.