جلسة 40

المفطرات

هذا وقد ذكر السيد الحكيم: إنّ المناسب هو الجمع بشكل آخر، وذلك بحمل الروايات الناهية عن الارتماس والدالة على أنّه مضرّ على الكراهة الوضعية، والمقصود منها هو البطلان بدرجة مخففة لا تستدعي وجوب القضاء بل رجحانه ـ واستند في ذلك ـ قدس سرّه ـ إلى بناء الفقهاء حيث إن ديدنهم وطريقتهم قد جرت في باب الماهيات المركبة على أنّه: كلما اجتمع نهي مع الترخيص حمل النهي على الكراهة الوضعية بقرينة الترخيص، وهنا حيث نهي عن الارتماس وقيل: لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب عن ثلاث خصال: الارتماس[1]... فالمناسب هو الحكم بالبطلان وأنّ الارتماس مبطل للصوم وموجب للقضاء؛ لأنّه نهي في مقام بيان ماهية الصوم، ولكن هذا لو خُلينا نحن والنهي المذكور، أما بعد ورود الموثقة[2]  الدالة على عدم وجوب القضاء والترخيص في تركه فيحمل النهي السابق على البطلان بدرجة مخففة، أي الكراهة الوضعية هذا ما أفاده قدس سرّه[3].

وأشكل السيد الخوئي بإشكالين[4] أو بإشكال واحد يمكن توضيحه ببيانين:

البيان الأول: أنّ الكراهة الوضعية لا معنى لها من الأساس، والكراهة المتصورة هي الكراهة التكليفية، وأما الأحكام الوضعية فلا تقبل الكراهة والاستحباب، إذ لا معنى لأن تقول: يستحب الفساد أو تكره الصحة، إن هذا ليس بوجيه وإنما الوجيه أن تقول: تستحب الإعادة، فالاستحباب والكراهة ينسبان إلى فعل الإعادة والقضاء دون الصحة والبطلان.

وهذه الكبرى التزم بها ـ قدس سرّه ـ واستفاد منها في كثير من موارد الفقه، فمتى ما تعارضت روايتان هما في مقام بيان الحكم الوضعي، أو بتعبير أخر للإرشاد للمانعية أو للشرطية أو الصحة أو البطلان فلا يُجمع بينهما بالحمل على الكراهة والاستحباب، فلو كانت إحدى الروايتين تقول من شك في الثنائية أعاد صلاته، والاُخرى تقول: مضى في صلاته ولا يعيد، فلا يُجمع بينهما بالاستحباب؛ لأنّهما ناظرتان إلى حكم الوضع فالاُولى ترشد إلى بطلان الصلاة بالشك والثانية ترشد إلى عدم البطلان، ولا معنى لحمل الاُولى على الاستحباب، وإنّما ذلك وجيه لو كانت إحدى الروايتين تقول: اغتسل للجمعة، والاُخرى تقول: لا بأس بترك غسل الجمعة، فتُحمل الاُولى على الاستحباب، إذ هما ناظرتان إلى الحكم التكليفي، فيمكن الجمع بما ذُكر بخلافه فيما تقدم.

وهذه نقطة مهمة إذ لها الأثر في كثير من موارد الفقه، فالسيد الحكيم مثلاً وغيره يجمعون بالحمل على الكراهة والاستحباب حتى في الروايات الناظرة إلى الأحكام الوضعية، بينما السيد الخوئي لا يرتضي ذلك ويُخصّصه فيما إذا كانت ناظرة للأحكام التكليفية.

البيان الثاني: أنّ موثقة إسحاق التي قالت: «ليس عليه قضاء ولا يعودن» هي واضحة في الصحة، وكأنّها تقول: الصوم صحيح ولكن لا يعود، بينما الروايات الاُخرى من قبيل لا يضر الصائم ما صنع.. هي واضحة في المفطّرية والبطلان، وكأنّها تقول: يبطل الصوم بالارتماس، فواحدة تقول: لا يبطل الصوم، والاُخرى تقول: يبطل الصوم، ومن الواضح أنّ مثل هذين اللسانين لا يقبلان الجمع عرفاً، فإنّهما لو طُرحا على العرف لا يجعل إحداهما قرينة على التصرّف في الآخر، بل يراهما متعارضين تعارضاً مستقراً، وإنما يجمع العرف في مثل ما إذا قيل: صلِّ صلاة الليل، ثم قيل: ولا بأس بتركها، فإن هذين الكلامين لو طرحا على العرف جعل الثاني منهما قرينة على التصرّف في الأول.

وبكلمة اُخرى: أنّ شرط الجمع العرفي هو أننا لو جمعنا بين الكلامين وجعلنا أحدهما إلى جنب الآخر لما لاحظ تناقضاً بينهما، كما هو الحال في المثال الثاني فأنّه لو جُمع بين الكلامين وقيل هكذا: صلِّ صلاة الليل ولا بأس بتركها لم يرَ تناقضاً في البين، وفي مثله يكون الثاني قرينة على التصرّف في الأول ويحمل الأول على الاستحباب، وهذا بخلافه في المثال الأول، فأنّه لو جمع بين الكلامين وقيل: يفسد الصوم بالارتماس وهو صحيح عند الارتماس لكان التناقض في نظر العرف واضحاً، وفي مثله لا يمكن الجمع العرفي، وحيث إنّ مقامنا من هذا القبيل، إذ الروايات الاُولى تقول: يفسد الصوم بالارتماس، والثانية تقول: هو صحيح عند الارتماس، فلا يمكن الجمع بينهما؛ لأنّه عند جعل إحداهما إلى جنب الاُخرى يلاحظ أنّ التعارض واضح بينهما.

وهذه قاعدة ذكرها هو وغيره كشيخه النائيني ـ قدس سرّه ـ وطُبّقت في مجالات مختلفة. إذاً في مقامنا لا يمكن الجمع العرفي للنكتة المذكورة، وهو أنه لو جمع بين الكلامين لوحظ بوضوح التعارض بينهما، هذا حاصل ما أفاده قدس سرّه.

وكلا البيانين قابل للتأمّل:

أما الأول وهو أنّ الجمع بالحمل على الكراهة أو الاستحباب يختص بباب الأحكام التكليفية دون الوضعية ـ إذ لا معنى لقولك يستحب الفساد أو تكره الصحة ـ فلأنّ ما ذكره مبني على ملاحظة لفظ الصحة والفساد والاستعانة بهذين اللفظين، فهو ـ قدس سرّه ـ قد لاحظ لفظ الصحة والفساد وقال لا معنى لقولك يستحب الفساد أو الصحة، ومن الواضح أنّ هذين اللفظين لم يردا في نص شرعي لنتمسك بهما وإنماهما تعبير تداوله الفقهاء، والمهم ملاحظة واقع الصحة والفساد لا ملاحظة لفظيهما، وواقعهما عبارة عن الاعتبار، فالصحة اعتبار لازمه عدم القضاء والإعادة، بينما الفساد اعتبار لازمه القضاء والإعادة، وما دام هما اعتبارين فبالإمكان أن نتصور أنّ اعتبار الفساد يكون تارةً شديداً إلى حد يُلزم بالإعادة والقضاء، وذلك إذا كان الجزء مقوماً للماهية واُخرى يكون الاعتبار ضعيفاً بحدٍ لا يستدعي لزوم ذلك، بل رجحانه وذلك فيما إذا كان الجزء غير مقوم بل كان كمالياً.

نعم، قد يكون نظره ـ قدس سرّه ـ إلى قضية اُخرى أشار إليها في باب الأجزاء، وهي أنّ الجزء لا يتصور إلاّ مقوماً للماهية، ولا يتصور الجزء الكمالي المستحب بتقريب أنّ الشيء إذا كان مقوماً للماهية كان جزءاً وإلاّ لم يكن جزءاً رأساً وهنا يقال: إنّ عدم الارتماس إن كان مقوماً للصوم كان جزءاً واجباً، وإلاّ لم يكن جزءاً رأساً، فالكراهة الوضعية والجزئية بنحو الاستحباب أمر غير متصور.

والجواب: أنّ تركب الماهيات مجرد اعتبار، ولا محذور في اعتبار الجزء بنحو المقومية تارةً وبنحو الكمالية اُخرى، كما في الدار فأنّها مركب اعتباري والغرف جزء مقوم لها بينما الحديقة جزء كمالي لها، وما ذكره قياس للاعتباريات على التكوينيات، وهو قياس مرفوض.

وأما الثاني ـ وهو أنّ شرط الجمع العرفي عدم تحقّق التعارض لدى العرف عند ضم أحد الكلامين إلى الآخر ـ فهو وجيه من حيث الكبرى، وإنما الكلام في كون المقام صغرى لذلك، فلو فرض أنّ موثقة إسحاق تصرّح هكذا: الصوم عند الارتماس صحيح، وتلك تصرّح: هو باطل، لما أمكن آنذاك الجمع العرفي، ولكن المفروض أنّ موثقة إسحاق قالت: لا يجب القضاء، وتلك قالت: لا يرتمس في الماء ولو جُمع بين هذين الكلامين وقيل هكذا: لا يرتمس الصائم في الماء ولو فعل لا يجب عليه القضاء، لما لوحظ وجود تناقض بينهما، وعليه فكلا الإشكالين قابل للمناقشة.

والأولى في مناقشة السيد الحكيم أن يقال: إنّ بناء الفقهاء وإن جرى في باب بيان الماهيات المركبة على حمل النهي على الكراهة الوضعية عندما يرد ترخيص، ولكن هذا يتم لو كنا نحن مع النهي والترخيص من دون وجود شيء ثالث في البين يقول: «ولا يعودن» الذي هو ظاهر في الحرمة التكليفية، أما بعد وجوده فسوف يلزم التصرّف في شيئين: في الروايات الناهية عن الارتماس، حيث تحمل على الكراهة الوضعية، وفي فقرة «لا يعودن»، حيث تحمل على ذلك أيضاً، وهو أمر بلا موجب.

وإن شئت قلت: لو كانت لدينا صحيحة محمد بن مسلم وموثقة إسحاق ولم يكن شيء ثالث في البين فالحمل على الكراهة الوضعية وجيه، ولا يكون الحمل على الحرمة التكليفية أرجح من ذلك، أما بعد وجود فقرة «ولا يعودن» فسوف يلزم من الحمل على الكراهة الوضعية التصرّف في هذه الفقرة أيضاً، بينما بناءً على الحمل على الحرمة التكليفية لا يلزم التصرّف في الفقرة المذكورة، ومن الواضح أنّه إذا دار الأمر بين محلين يلزم من أحدهما مخالفة واحدة للظهور، ومن الأخرى مخالفتان، فالحمل الأول أرجح.

____________________

[1] الوسائل 10: 31، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 1، ح 1.

[2] الوسائل 10: 43، أبواب ما يمسك عنه الصائم..، ب 6، ح 1.

[3] مستمسك العروة الوثقى 8: 263.

[4] مستند العروة الوثقى 1: 155.