جلسة 44

المفطرات

الشق الثالث: أن يُفترض الارتماس في الواجب المعيّن غير شهر رمضان، كما إذا فُرض أنّ المكلّف ارتمس بعد الظهر في قضاء شهر رمضان، فإنّه بعد الزوال يتعيّن الاستمرار في القضاء ويصير من قبيل الواجب المعيّن، وهنا حكم ـ قدس سرّه ـ ببطلان الصوم، واحتاط بالبطلان بالنسبة إلى الغسل بعد أن استظهر الصحة حيث قال: (الظاهر صحة غسله إلاّ أن الاحتياط لا ينبغي تركه) [1].

والوجه فيما أفاده قدس سرّه:

أما بالنسبة إلى بطلان الصوم فلأنّه يبني ـ قدس سرّه ـ على مفطرية الارتماس من دون اختصاص بشهر رمضان.

وأما بالنسبة إلى صحة الغُسل فباعتبار أنّ المكلّف بمجرد أن يقصد الارتماس، أي المفطّر والقاطع يفسد بذلك صومه، وإذا فسد الصوم فلا يعود هناك مانع من صحة الغُسل، إذ المانع هو الصوم والأمر به فإذا سقط كان الأمر بالغُسل ثابتاً بلا مانع.

وهذا البيان يتم بشرطين:

الأول: أن يُبنى على أن نية القاطع ـ المفطّر ـ موجبة لفساد الصوم حتى في غير شهر رمضان ولا يختص ذلك بشهر رمضان.

الثاني: أن يُبنى على أنّ صوم غير شهر رمضان إذا فسد فلا يلزم الاستمرار بالإمساك عن المفطّرات.

وأما إذا بُني على لزوم الإمساك كما في شهر رمضان فلا يمكن الحكم بصحة الغُسل الارتماسي بعد فساد الصوم؛ لأنّ المكلّف منهي عن مزاولة المفطّرات حتى بعد الفساد بما في ذلك الارتماس، فيكون منهياً عنه في الآن الثاني والثالث والرابع.... إلى الغروب، وبما أنّه لا يجزم بتمامية الشرطين المذكورين ـ نية المفطّر مفطّرة في غير شهر رمضان وأنّ الإمساك ليس بواجب بعد فساد الصوم في غير شهر رمضان ـ فلذلك احتاط ـ قدس سرّه ـ في المتن بالبطلان، وأنّه لا ينبغي ترك الاحتياط بإعادة الغُسل، هذا كله على مبانيه قدس سرّه.

وأما بناءً على ما صرنا إليه من عدم مفطّرية الارتماس، فالمناسب بطلان الغُسل لأنّه منهي عنه تكليفاً بنهي مستمر في كل جزء من أجزاء الصوم إلى الغروب، فحينما يشرع الصائم في الغُسل يتوجه إليه النهي، وفي الآن الثاني يكون النهي متوجهاً إليه أيضاً وهكذا، وحيث إنّ النهي مفسد للعبادة فيقع الغُسل باطلاً.

الشق الرابع: أن يُفترض الارتماس في الواجب غير المعيّن أو في الصوم المستحب، وقد حكم ـ قدس سرّه ـ بفساد الصوم وصحة الغُسل، أما فساد الصوم فلأنّه يرى أنّ الارتماس مفطّر في جميع أنحاء الصوم لعدم اختصاص الروايات بصوم شهر رمضان، وأما صحة الغُسل فلعدم النهي عنه بعد فرض جواز إفساد الصوم لكون الواجب غير معيّن أو كون الصوم مستحباً، هذا على مبناه قدس سرّه.

وأما بناءً على ما انتهينا إليه فالمناسب صحة الصوم والغُسل معاً.

أما صحة الصوم فلفرض البناء على عدم مفطّرية الارتماس، وأما صحة الغُسل فلعدم حرمة مزاولة الارتماس ما دام الصوم مستحباً أو واجباً غير معيّن، فإنّه لا يحتمل حرمة الارتماس مع فرض استحباب الصوم أو عدم تعيّنه.

السادس: إيصال الغبار الغليظ منه وغير الغليظ إلى جوفه عمداً على الأحوط، نعم ما يتعسر التحرّز عنه فلا بأس به، والأحوط إلحاق الدخان بالغبار [2].

هذا هو المفطّر السادس من المفطّرات التي ذكرها الماتن قدس سرّه، والبحث فيه يقع ضمن النقاط التالية:

النقطة الاُولى: وصول الغبار إلى الجوف مفطّر في الجملة، وقد وقع الكلام في أنّ مفطّرية الغبار هل هي مختلف فيها أو مجمع عليها فيما إذا بنينا على عموم مفطّرية الأكل حتى لغير المعتاد؟ ففي مسألة مفطّرية الأكل يوجد خلاف على ما أشرنا إليه في أنّ المفطّر هو أكل المعتاد فقط أو حتى غير المعتاد؟ فإذا بنينا على التعميم لغير المعتاد والذي منه الغبار فبناءً على هذا هل مفطّرية الغبار تصير إجماعية أو هي مختلف فيها؟

وقد ذكر المحقّق الحلّي ـ رحمة الله عليه ـ أنّها خلافية[3] حيث قال ما نصه: (وفي إيصال الغبار إلى الحلق خلاف)، وعلّق صاحب (الجواهر) ـ رضوان الله عليه [4] على ذلك بقوله: (بل لم أجد فيه خلافاً بين القائلين بعموم المفطّر للمعتاد وغيره إلاّ من المصنّف في (المعتبر) فتردد فيه)، ثم قال قدس سرّه: (اللهم إلاّ أن يريد المرتضى ومن تبعه على القول باختصاص المفطّر بالمعتاد).

وقد ذكر صاحب (الحدائق) ـ رحمه الله [5]: (أنّ الأصحاب قد اختلفوا في هذه المسألة).

ويمكن حصر أقوالهم في ثلاثة:

الأول: ما ذهب إليه الشيخ ـ قدس سرّه ـ في أكثر كتبه من أنّ إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمداً موجب للقضاء والكفارة، ومال إلى هذا القول صاحب (الوسائل) قدس سرّه.

الثاني: ما ذهب إليه ابن ادريس والشيخ المفيد ـ قدس سرّهما ـ من وجوب القضاء فقط دون الكفارة متى كان متعمداً.

الثالث: ما ذهب إليه جمع من متأخري المتأخرين وهو عدم الإفساد وعدم وجوب شيء من قضاء أو كفارة.

وقد اختار ـ قدس سرّه ـ القول الثالث وهو عدم الإفساد بقوله: (وهو الأقرب)[6]، إذاً المسألة محل اختلاف بين الفقهاء، ويمكن أن يستدل على المفطّرية بالوجهين التاليين:

الوجه الأول: أنّ مطلق ما يصل إلى الجوف مفطّر حسب ما يستفاد من النصوص، وبناءً على هذا ينبغي الحكم بمفطّرية الغبار إذا وصل إلى الجوف، وقد نقل هذا صاحب (المدارك) ـ قدس سره [7] عن بعض القائلين بمفسدية الغبار.

وفيه: أنّه إما أن يكون المقصود أنّ عنوان الأكل والشرب ليس بلازم، بل كل ما يصل إلى الجوف وإن لم يصدق عليه العنوان المذكور يكون مفطّراً بما في ذلك ما لو طعن الإنسان نفسه بسكينٍ فدخلت إلى جوفه، أو صبّ في احليله دواءً فوصل إلى جوفه، كما اختار ذلك العلاّمة في (المختلف)[8].

وجوابه: أنّه سيأتي ـ عند تعرّض السيد الماتن قدس سرّه [9] أنّ المفطّر خصوص عنوان الأكل والشرب لقوله سبحانه وتعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ اتمُّوا الصّيَامَ إلَى اللّيلِ) [10]، والتعميم لغير ذلك لا دليل عليه سوى ما ورد في الاحتقان بالمائع، ولكن هذا وارد في مورد خاص ولا يمكن استفادة التعميم منه والخروج بقاعدة كلية.

وأما إذا كان المقصود أنّ المفطّر هو عنوان الأكل والشرب وندّعي أنّ ذلك صادق باعتبار أنّ الغبار يدخل من الحلق والبلعوم، والأكل ليس إلاّ ذلك، أي اجتياز الشيء من خلال البلعوم فيصدق آنذاك على الغبار عنوان الأكل.

وجوابه: صحيح أنّ الأكل متقوم بذلك، ولكن يمكن أن يُدّعى أنّ الغبار حيث إنّه عبارة عن ذرات وأشبه بالبخار والغاز فلا يصدق عليه عنوان الأكل، لا لأنّ الأكل يختص بالمعتاد بل لأنّ الأكل عرفاً لا يصدق فيما إذا كان الجسم من قبيل الذرات وما شاكلها، ولذا سوف يأتي في مسألة استعمال جهاز الربو للمصاب بمرض ضيق التنفس أنّ ذلك جائز لعدم صدق عنوان الأكل بعد كون الخارج من الجهاز المذكور أشبه بالبخار والغاز المضغوط، وعليه فالمستند المذكور قابل للمناقشة.

_________________

[1] قد اختلفت طبعات منهاج الصالحين في هذا الموضع، ونحن قد سرنا على الطبعة العشرين لدار الزهراء، وأما على الطبعات الاُخرى فالشق الثالث ينبغي تقسيمه بدوره إلى شقين.

[2] منهاج الصالحين 1: 264.

[3] شرائع الإسلام 1 : 189.

[4] جواهر الكلام 16 :232.

[5] الحدائق الناضرة 13: 67.

[6] الحدائق الناضرة 13: 67.

[7] مدارك الأحكام 6: 52.

[8] مختلف الشيعة 3: 414.

[9] منهاج الصالحين 1: 267.

[10] البقرة: 187.