جلسة 46

المفطرات

وأما الجواب الثاني ـ وهو التمسك بشهادة الصفّار ـ فباعتبار أننا نحتمل أن الرواية المذكورة[1] قد وصلت إلى الصفّار بنفس الصيغة التي وصلت لنا ـ أي بصيغة: (سمعته يقول...) ـ ولم يصل إليه مجموع الرواية بحيث كان الإمام ـ عليه السلام ـ مذكوراً في البداية ثم أُخذ بعد ذلك بإرجاع الضمير إليه، وما دمنا نحتمل ذلك فتسجيل الرواية في كتابه وإن دل على شهادته بأنّها صادرة من الإمام عليه السلام، ولكن هذه الشهادة اجتهادية فهو قد قطع وأدى اجتهاده وقطعه إلى أنّ المسؤول هو الإمام عليه السلام، ولكن من الواضح أنّ اجتهاد كل شخص حجة عليه وليس على الآخرين، فنحن نسلّم للسيد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ أنّ الشيخ الطوسي ـ قدّس سرّه ـ قد أخذ الرواية من كتاب الصفّار، كما نسلّم أنّ الصفّار لا يودع في كتابه إلاّ ما ورد عن الإمام، ولكن نسأل من أين ثبت عند الصفّار أن هذه الرواية هي صادرة من الإمام عليه السلام؟ إننا نحتمل أنّها وردت إليه بالصيغة المذكورة (سمعته يقول......) وأدى اجتهاده إلى أنّ المسموع منه هو الإمام، وهذا الاجتهاد كما ذكرنا ليس حجة علينا.

وعليه فكلا الجوابين ليس بتام.

والاُولى أن يجاب بجواب يحل مشكلة جميع المضمرات، وذلك بأن يقال: إنّ ذكر الضمير من دون مرجع قضية هي على خلاف اسلوب المحاورة، فالمتكلّم المتعارف إما أن يذكر مرجع الضمير، أو لا يستعين بالضمير رأساً، أم أنه يستعين به من دون تعين مرجعه فأمر لا يرتكبه الإنسان العرفي، فإذا دخل علينا شخص وقال: قلت له أو سمعته يقول......، وذكر ذلك ابتداءً من دون سابقة كلام يصلح الاعتماد عليه؟ كان ذلك غير مقبول.

إذاً متى ما ذكر الضمير فلا بد من وجود مرجع معهود، وحيث إنّه في الوسط الشيعي لا يوجد شخص معهود سوى المعصوم ـ عليه السلام ـ فبهذه القرينة يتعين كون المنقول عنه هو الإمام عليه السلام.

إن قلت: من المحتمل أنّ الطرفين يوجد لديهما شخص معهود واعتمدا في إرجاع الضمير على ذلك العهد الثابت بينهما، ففي الرواية المذكورة نفترض أنّ المروزي مع محمد بن عيسى يوجد بينهما شخص معهود وهو زرارة مثلاً، وحينما عبّر المروزي بكلمة (سمعته يقول....) اعتمد على هذا العهد الخاص، ومعه فلا يمكن إثبات أنّ ذلك الشخص المعهود هو الإمام عليه السلام.

قلت: هذا وجيه لو فرض أن المروزي ومحمد بن عيسى أرادا الاحتفاظ بالرواية لنفسهما، بحيث كل واحد يسجل تلك الرواية لنفسه فقط فهنا يأتي الاحتمال المذكور، أما إذا فرضنا أنهما أرادا إيصال هذه الرواية للأجيال القادمة بعدهما ـ كما هو لازم تسجيل الرواية في أصليهما الذي هو مؤلف للأجيال ـ فيتعين أن يكون ذلك المعهود شخصاً معروفاً لدى الجميع، وليس ذلك إلاّ الإمام عليه السلام، وبناءً على هذا تثبت حجية المضمرات حتى لو لم يكن المضمر من أجلة الأصحاب، وعليه فلا إشكال في الرواية من ناحية الإضمار.

الإيراد الثاني: أنّ الرواية المذكورة تشتمل على بعض الاُمور التي لا يمكن الالتزام بالمفطّرية والكفارة فيها، فهي قد ذكرت المضمضة، والاستنشاق، وشم الرائحة الغليظة، وبعد أن ذكرت هذه الاُمور الثلاثة أخذت بذكر الأمر الرابع وهو الكنس وقالت: «أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين، فإن ذلك له مفطر مثل الأكل والشرب والنكاح»، وحيث إنّ الثلاثة السابقة لا تجب فيها الكفارة وليست مفطّرة للصوم فنحتمل أنّ المقصود من الرواية بيان حكم استحبابي في الجميع بما في ذلك الكنس، أي يستحب له صوم شهرين متتابعين، والمفطّرية تُحمل على المفطّرية بلحاظ درجة الكمال، وما دام هذا الاحتمال موجوداً فلا يمكن التمسك بالرواية آنذاك لإثبات مفطّرية الغبار، وتصير مجملة، وهذا إشكال سيّال يرد في جميع الروايات التي يثبت في بعض فقراتها الاستحباب. وقد بنى على هذا الإشكال صاحب (المدارك)[2] وصاحب (الحدائق)[3] رضوان الله عليهما.

وقد أُجيب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأوّل: أنّ الخبر المذكور هو في حكم أخبار أربعة حيث إنّه يشتمل على أربع فقرات فيكون أربعة أحاديث وهي هكذا:

الحديث الأول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له مفطّر مثل الأكل والشرب والنكاح.

الحديث الثاني: إذا استنشق الصائم في شهر رمضان متعمّداً فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له مفطّر مثل الأكل والشرب والنكاح.

الحديث الثالث: إذا شم الصائم في شهر رمضان رائحة غليظة فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له مفطّر مثل الأكل والشرب والنكاح.

الحديث الرابع: إذا كنس الصائم في شهر رمضان بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له مفطّر مثل الأكل والشرب والنكاح.

وما دامت لدينا أخبار أربعة فنقول: رفع اليد عن ظهور بعض هذه الأخبار لا يستلزم رفع اليد عن ظاهر الباقي الذي هو في مقامنا الخبر الرابع، وممن بنى على ذلك صاحب (الجواهر)[4] والشيخ الآملي[5] قدّس سرّهما.

ويردّه أنّه لو سلّمنا أنّ الخبر المذكور يرجع إلى أربعة أخبار وتنزّلنا عن المناقشة من هذه الناحية، فيمكن أن نقول: إنّ ما ذكر يتم لو فرض أنّ دليل حجية الظهور دليل لفظي له إطلاق فيتمسك بإطلاقه، فيقال: لا يمكن التمسك بهذا الدليل بلحاظ تلك الأخبار الثلاثة، وحيث يمكن تطبيقه على الخبر الرابع فيلزم تطبيقه عليه، ولكن من الواضح أنّ المستند ليس ذلك بل هو السيرة العقلائية الممضاة بسبب عدم الردع، وحيث إنّها دليل لبي لا إطلاق فيه فينبغي الاقتصار على القدر المتيقن، ونحن نحتمل ـ ويكفينا الاحتمال ولا نحتاج إلى دعوى الجزم ـ أنّ العقلاء لا يعملون بظهور الخبر الرابع في الوجوب ما دام اقترن به اقتراناً مباشراً أخبار ثلاثة يراد منها الاستحباب، وما دام يحتمل ذلك فلا يمكن التمسك بالظهور في الوجوب آنذاك.

الجواب الثاني: ما ذكره السيد الخوئي قدّس سرّه[6]، وهو أنّ اشتمال الرواية على بعض ما ثبتت فيه إرادة الاستحباب لقرينة قطعية خارجية لا يستوجب رفع اليد عن ظهور غيره في الوجوب، بناءً على مسلك حكم العقل في استفادة الوجوب والاستحباب، وهنا نقول: في الفقرات الثلاث الاُولى حكم العقل بالاستحباب للقرينة الدالة على الترخيص في ترك الكفارة، وهي الإجماع وبداهة الأمر في عدم وجوب الكفارة، ولكن لا يلزم أن يحكم به في الفقرة الأخيرة بل يحكم بالوجوب لعدم وجود قرينة تفيد جواز ترك الكفارة بالنسبة للغبار.

__________________

[1] الوسائل 10: 69 ـ 70 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم... ، ب22، ح1.

[2] مدارك الأحكام 6: 52.

[3] الحدائق الناظرة 13: 72.

[4] جواهر الكلام 16: 233.

[5] مصباح الهدى 8: 30.

[6] مستند العروة الوثقى 1: 147.