جلسة 122

كفارة الصوم

الثانية: رواية عبد الملك بن عمرو، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عمّن جعل لله عليه ألاّ يركب محرّماً سمّاه فركبه؟ قال:  لا أعلمه إلاّ قال:  «فليعتق رقبة،  أو ليصم شهرين متتابعين، أو ليطعم ستّين مسكيناً»[1].

ودلالتها على المطلوب واضحة، فإن موردها النذر بقرينة قوله: (جعل لله عليه)، التي هي صيغة النذر وكان الجواب هو التخيير بين خصال الكفّارة الكبيرة، إلاّ أنه يمكن مناقشتها من جهتين:

الأُولى: من حيث السند فإن عبد الملك بن عمرو لم يرد فيه توثيق، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها لضعفها من هذه الناحية.

الثانية: من حيث حجية ظهورها باعتبار أن الراوي قال: (لا أعلمه إلاّ قال...)، وهذا من الناحية العرفية ينبئ عن وجود بعض التشكيك وعدم الجزم بالدقة لما سمعه الراوي من الإمام عليه السلام، وحجية الظهور في مثل ذلك مشكوكة، فإن مستند حجية الظهور هو السيرة، ولا يمكن الجزم بانعقادها في أمثال المورد المذكور، هذا بالنسبة إلى رأي المشهور.

وأما ما ذهب إليه صاحب (الوسائل) ـ من التفصيل بين ما إذا كان متعلق النذر هو الصوم فالكفارة هي كفارة إفطار شهر رمضان، وبين ما إذا كان المتعلق شيئاً آخر فيكون كفارة اليمين ـ فلا يمكن الأخذ به لعدم وجود دليل يدل عليه.

والنتيجة من كل هذا: أن الحق في المسألة ما تقدمت الإشارة إليه من كون الكفّارة كفارة اليمين.

هذا وقد جاء في صحيحة علي بن مهزيار ما نصه: كتب بندار مولى إدريس: يا سيّدي، نذرت أن أصوم كلّ يوم سبت، فإن أنا لم أصمه ما يلزمني من الكفّارة؟ فكتب وقرأته: «لا تتركه إلاّ من علّة، وليس عليك صومه في سفر ولا مرض إلاّ أن تكون نويت ذلك، وإن كنت أفطرت فيه من غير علّة فتصدّق بعدد كلّ يوم على سبعة مساكين، نسأل الله التوفيق لما يحبّ ويرضى »[2] .

وقد يناقش في هذه الصحيحة من ناحيتين:

الأُولى: من ناحية سندها حيث وقع فيه بندار مولى إدريس، وهو مجهول الحال.

ولكن يمكن الجواب بأن ذلك لا يقدح في سند الرواية باعتبار أن علي بن مهزيار قال: فكتب وقرأته... وبعد قراءة ابن مهزيار لجواب الإمام لا تعود حاجة إلى إثبات وثاقة بندار.

ولقائل أن يقول: إن المعرفة بالكتابة والخطوط وإن كانت ممكنة حيث يمكن التعرف على بعض الخطوط وتشخيص أصحابها، ولكن هذا التشخيص ناشئ من الحدس دون الحس، ومن الواضح أن حدس كل شخص حجة عليه بخصوصه، ولم يقم دليل على حجيته في حق غيره إلاّ في موارد خاصة كحجية رأي المجتهد على مقلده، أو حجية تقييم أهل الخبرة للأشياء التالفة، وليس مقامنا منها.

قلنا: إن معرفة الأشياء لها طرق ثلاث:

1 ـ الحس.

2 ـ الحدس المحض.

الحدس القريب من الحس، كما في الشهادة على العدالة، فإنها مقبولة جزماً، والحال أن العدالة ليست من الأشياء المحسوسة، سواء فسرت بالملكة أو بالاستقامة على جادة الشريعة، فإننا نصحب غيرنا إلى فترة ومن خلال صحبتنا يحصل لدينا جزم بسبب الاجتهاد والحدس بأنه عادل، ولكن ذلك حدس قريب من الحس فيكون مقبولاً.

وهكذا الحال في معرفة الخطوط فإنها وإن كانت ناشئة من الحدس إلاّ أنه قريب من الحس، وفي مثله جرت السيرة على القبول، وعليه لا مشكلة في الرواية من هذه الناحية.

الثانية: من ناحية المتن حيث يشكل في موردين:

الأوّل: أنه ورد فيه «سبعة مساكين» وليس عشرة، فتكون مخالفة لما انتهينا إليه من كون الكفّارة كفارة يمين التي هي إطعام عشرة مساكين.

إلاّ أنه يمكن دفع ذلك بأن المضمون المذكور مهجور بين الأصحاب ولم يقل به أحد، ولأجل الهجران المذكور تسقط الرواية عن الاعتبار من هذه الناحية.

الثاني: أنه ورد فيها: «فتصدّق بعدد كلّ يوم على سبعة مساكين...»، فربما يُتوهم كون ذلك مخالفة ثانية لما عليه الأصحاب، باعتبار أنهم يقولون بإطعام عشرة مساكين لا بالتصدق عليهم.

إلاّ أن الأمر هيّن من هذه الناحية، فإن التصدق في اللغة وفي الروايات عبارة عن الإحسان للغير، غايته بشرط قصد القربة، فكل من أحسن إلى الغير قاصداً بذلك وجه الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان ذلك صدقةً وتصدقاً، ولذلك يطلق على الوقف عنوان الصدقة.

(مسألة 1008: تتكرر الكفارة بتكرر الموجب في يومين، لا في يوم واحد إلاّ في الجماع والاستمناء فإنها تتكرر بتكررهما، ومن عجز عن الخصال الثلاث فالأحوط أن يتصدق بما يطيق ويضم إليه الاستغفار ويلزم التكفير عند التمكن، على الأحوط وجوباً) [3].

تشتمل المسألة المذكورة على النقاط التالية:

النقطة الأُولى: أن الكفارة تتكرر بتكرر الموجب في يومين ولا تتكرر بتكرره في يوم واحد، وهذا ينحل إلى فرعين:

الأوّل: تتكرر الكفّارة بتكرر الموجب في يومين، ومستند ذلك واضح وهو التمسك بإطلاق أدلة الكفّارة، فإنها دلت على أن من أفطر في شهر رمضان متعمداً فعليه الكفّارة، وهذا كما يصدق على ارتكاب المفطر في اليوم الأول يصدق على ارتكابه في اليوم الثاني، وإلاّ يلزم عدم تكررها حتى لو كان الفاصل أكثر من يوم واحد كتسعة وعشرين يوماً، كما إذا ارتكب في اليوم الأوّل مفطراً ثم ارتكب في اليوم الثلاثين مفطراً آخر، فهل يحتمل أحد عدم تكرر الكفّارة في مثله؟ وعليه فلا ينبغي التشكيك من هذه الناحية.

الثاني: لا تتكرر الكفّارة بتكرر الموجب في يوم واحد، فلو أكل الشخص في الساعة الأُولى من النهار، ثم شرب في الساعة الثانية، ثم ارتكب مفطراً آخر في الساعة الثالثة لم تتكرر في حقه الكفّارة.

وقد ذكر المحقق في (الشرائع) [4] ـ قدّس سرّه ـ ثلاثة أقوال في المسألة:

الأوّل: أنها تتكرر مطلقاً.

الثاني: أنها لا تتكرر مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين تخلل التكفير أو تغاير جنس المفطر فتتكرر وإلاّ فلا.

والأنسب من هذه الأقوال هو العدم مطلقاً، والوجه في ذلك أن الكفّارة لم تترتب على عنوان الأكل والشرب حتى يتمسك بإطلاقها، فلو كانت لدينا رواية بلسان من أكل أو شرب ثبتت في حقه الكفّارة أمكن أن نقول بتكررها تمسكاً بالإطلاق، ففي المرة الأُولى يتمسك بها فتثبت الكفّارة، وهكذا في المرة الثانية والثالثة...، ولكن الأمر ليس كذلك وإنما الوارد في صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: في رجل أفطر من شهر رمضان متعمّداً يوماً واحداً من غير عذر، قال: «يعتق نسمة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستّين مسكيناً، فإن لم يقدر تصدّق بما يطيق» [5]، والمذكور فيها عنوان أفطر.

وهكذا الحال لو نظرنا إلى بقية الروايات المثبتة للكفّارة، فإنه قد أثبتتها لعنوان الإفطار، ومن الواضح أن العنوان المذكور يصدق على المرة الأُولى دون بقية المرات، ومعه كيف يحكم بوجوب الكفّارة في المرات الأُخرى بعد عدم صدق عنوان الإفطار عليها؟

_____________________

[1] الوسائل 22: 394، أبواب الكفارات، ب23، ح7.

[2] الوسائل 10: 379، أبواب بقية الصوم الواجب، ب7، ح4. وستأتي الإشارة إن شاء الله تعالى إلى الصحيحة المذكورة مرةً أُخرى عند التعرض إلى مسألة جواز الإتيان بالصوم المستحب في السفر إذا نذر الإتيان به كذلك، حيث يُستدل على جواز ذلك بالصحيحة المذكورة.

[3] منهاج الصالحين ج1 كتاب الصوم فصل الكفارات ص270.

[4] شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام ج1 ص144، طبعة انتشارات استقلال.

[5] الوسائل 10: 44 ـ 45، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب8، ح1.