جلسة 143

كفارات الصوم

وقد يتسائل البعض لماذا يجب إشباع الفقير؟، أوَلا يمكن أن يقال: إن تقديم الطعام له بالمقدار المتعارف كماً يكفي في صدق الإطعام حتى وإن لم يشبع، فلو فرض أن الإنسان المتعارف كان يشبع بتقديم صحن واحد له فلو قدم الصحن المذكور وأكله صدق آنذاك أن فلاناً قد أُطعم حتى لو فرض أن المقدّم له كان لخصوصية فيه لا يشبع بصحن واحد، وعليه فما الدليل على لزوم تحقق الإشباع بعد ما كان عنوان الإطعام صادقاً بتقديم المقدار المتعارف؟

ويمكن الجواب: أنه إن قلنا: إن عنوان الإطعام عرفاً لا يصدق إلاّ بتحقق الإشباع فاعتبار الإشباع يكون آنذاك واضحاً، واما إذا لم نقل بهذا فيمكننا التمسك لاعتبار الإشباع بصحيحة أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن أوسط ما تطعمون أهليكم؟ قال: «ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك»، قلت: وما أوسط ذلك؟ فقال: «الخلّ والزيت والتمر والخبز، يشبعهم به مرّة واحدة»، قلت: كسوتهم؟ قال: «ثوب واحد»[1] ، فإنّ قوله ـ عليه السلام ـ: «... يشبعهم به مرّة واحدة...»، واضح في اعتبار الإشباع.

بقي أمر آخر من هذه الناحية، وهو أنه هل يلزم أن تكون الوجبة ليوم كامل أو يكفي أن تكون وجبة واحدة لفترة واحدة كالظهر مثلاً؟

المنسوب إلى الشيخ المفيد ـ قدّس سرّه ـ هو الأوّل، ولكن ذكر ذلك في كفّارة اليمين بالخصوص مستنداً إلى رواية سماعة المروية في (تفسير العياشي) عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: سألته عن قول الله (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ)[2] في كفّارة اليمين؟ قال: «ما يأكل أهل البيت يشبعهم يوماً»، وكان يعجبه مدّ لكلّ مسكين، قلت: أو كسوتهم، قال: «ثوبين لكلّ رجل» [3]، فإن قوله ـ عليه السلام ـ: «... يشبعهم يوماً...»، يدل على أن اللازم تقديم جميع وجبات اليوم ولا يكفي تقديم وجبة واحدة.

ولكن الرواية ضعيفة سنداً بالإرسال [4]، على أنه يمكن تفسير «يشبعهم يوماً» بمعنى يشبعهم في يوم من الأيام، وذلك صادق بتقديم وجبة لهم من وجبات اليوم، فلو دعانا شخص على وجبة الظهر صح أن نقول: إن فلاناً أشبعنا أو أطعمنا يوم كذا.

ومع التنزل وافتراض التمامية سنداً ودلالة نقول: هي معارضة بصحيحة أبي بصير المتقدمة، حيث ورد فيها: «...يشبعهم به مرّة واحدة...»، فإنها صريحة في كفاية المرة الواحدة، بينما رواية العياشي ظاهرة في اعتبار اليوم الكامل فتحمل على الاستحباب، كما في سائر الموارد التي يجتمع فيها دليلان أحدهما صريح والآخر ظاهر، فإنه يأوّل الظاهر لأجل الصريح، وإذا تم هذا فهو المطلوب.

وأمّا إذا لم يتم ذلك وكانت المعارضة مستقرة، بمعنى أنه لا يمكن الجمع العرفي بالحمل على الاستحباب ونحوه، فيلزم الحكم بالتساقط، ويُرجع آنذاك إلى ما تقتضيه الأُصول العملية، وهي تقتضي البراءة من الزائد، إذ ذمتنا قد اشتغلت جزماً بإطعام وجبة واحدة، وأمّا ما زاد على ذلك فنشك باشتغال الذمة به فتجري البراءة بلحاظه، وبذلك نصل إلى نفس النتيجة، وهي كفاية الوجبة الواحدة، هذا كله في النقطة الثانية.

النقطة الثالثة: يكفي المدّ الواحد وإن كان الأحوط تقديم مدّين، والحديث عن ذلك قد تقدم سابقاً في مسألة 1007 ولا نكرر.

النقطة الرابعة: أن المدار على مطلق عنوان الطعام ولا يلزم تقديم نوع خاص منه، والوجه في ذلك التمسك بإطلاق قوله سبحانه وتعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [5]، فإن الطعام في الآية الكريمة وفي غيرها لم يقيّد بنوع خاص، نعم ورد في كفّارة اليمين تفسيره بالحنطة والدقيق، فلاحظ: صحيحة الحلبي [6]، وصحيحة أبي حمزة الثمالي [7]، وورد تفسير ذلك بالخلّ والزيت والتمر والخبز، كما في صحيحة أبي بصير المتقدمة، وأضيف إلى ذلك اللحم كما في رواية أبي جميلة [8].

وقد ذكر غير واحد من الأعلام تخصيص ذلك بكفّارة اليمين، وقيل: يلزم في كفّارة اليمين دفع ما ذكر، أي لابدّ من دفع الحنطة أو دقيقها أو الخلّ أو الزيت أو التمر أو الخبز أو اللحم، وعلى هذا الأساس لا يكفي الأرز، وقد صار إلى ذلك السيد الحكيم [9] ـ قدّس سرّه ـ والسيد الخوئي [10] قدّس سرّه، بل إنّه في المتن قد أشار إلى ذلك بما نصه: نعم الأحوط في كفّارة اليمين الاقتصار على الحنطة ودقيقها وخبزها.

ولكن يمكن أن يقال إن الأمور المذكورة قد ذكرت من باب المصاديق والأمثلة، وإلاّ فمن البعيد أن يكون تقديم الأرز الفاخر لا يكفي ويتعين مثل دقيق الحنطة أو الخلّ وما شاكل ذلك، فالحكم بكونها أمثلة ومصاديق قريب جداً، بل يمكن للفقيه أن يقول شيئاً آخر، وهو: أن بعض الأمثلة التي ذكرت في الروايات كالخلّ مثلاً لا يكفي تقديمها للفقير في يومنا هذا، فإنها في ذلك الزمان كانت طعاماً وأداماً متعارفاً، فلو فرض خروجه في زماننا عن ذلك فلا يكفي تقديمه، وإذا كان عنصر الزمان والمكان مؤثراً على عملية الاستنباط في بعض الموارد فيمكن أن نعد هذا المورد منها، فيقال: إن المصاديق المذكورة في الروايات في باب الكفّارات لا تعمم إلى مثل زماننا، بل لابدّ من ملاحظة المصاديق الأُخرى للطعام.

__________________________

[1] الوسائل 22: 381، أبواب الكفارات، ب14، ح5.

[2] المائدة: 89.

[3] الوسائل 22: 377 ـ 378، أبواب الكفارات، ب12، ح9.

[4] كما هو الطابع العام في [تفسير العياشي]، فإن رواياته بشكل عام مراسيل حيث لا يذكر السند كاملاً، وليست له مشيخة في آخر الكتاب كما للشيخ الصدوق والشيخ الطوسي قدس سرهما، ليخرجها من الإرسال إلى الإسناد، ولذلك فإن روايات العياشي هي ضعيفة سنداً من هذه الناحية.

[5] البقرة: 184.

[6] الوسائل 22: 375، أبواب الكفارات، ب12، ح1.

[7] الوسائل 22: 376، أبواب الكفارات، ب12، ح4.

[8] الوسائل 22: 380، أبواب الكفارات، ب14، ح2.

[9] مستمسك العروة الوثقى 8: 376.

[10] مستند العروة الوثقى 1: 370.