32/04/29


تحمیل

إن قلت :- إن ما ذكرته في الجواب شيء جميل ، فنحن نؤمن أيضا بكون التنجيز يكفي في ثبوته عقلا بقاء الجعل مع إحراز الموضوع بلا حاجة إلى إحراز الفعلية ، وهكذا التعذير يكفي فيه عدم بقاء الجعل بلا حاجة إلى توسيط نفي الفعلية حتى يلزم محذور الأصل المثبت ، ولكن تبقى مشكلة وهي انك رتبت أثرا عقليا على الاستصحاب فاستصحبت بقاء الجعل ورتبت عليه التنجيز- الذي هو حكم عقلي - كما رتبت على استصحاب عدم التحريم ، فمثلا التعذير الذي هو حكم عقلي ، ونحن قد قرأنا سابقا إن الأحكام العقلية لا يمكن أن تترتب على الاستصحاب وتجعل أثرا له .

قلت :- قد بينا ذلك سابقا والآن نكرر من جديد إذ قلت إن الآثار غير الشرعية هي على نحوين :-

الأول :- أن يكون الأثر غير الشرعي أثرا للمستصحب بوجوده الواقعي الحقيقي .

الثاني :- أن يكون الأثر الحكم العقلي أثرا للمستصحب بوجوده الواقعي الأعم من الحقيقي والتعبدي

ومثال الأول :- نبات اللحية ، فانه اثر لبقاء الحياة ولكنه اثر لبقاء الحياة بوجودها الواقعي الحقيقي فإذا كان الشخص باقيا على قيد الحياة واقعا وحقيقة فقد نبتت لحيته وأما إذا لم يكن باقيا على قيد الحياة حقيقة وواقعا لا يثبت نبات اللحية ، وهنا يلزم محذور الأصل المثبت ، لان استصحاب الحياة لا يثبت بقائها بنحو الحقيقة بل بنحو التعبد فلا يلزم من ذلك ترتب نبات اللحية لان الموضوع لنبات اللحية هو الحياة الحقيقية واقعا وهي لم تحرز الآن وإنما هي تحرز لو نزل جبرائيل مثلا واخبر بأنه حي فإذا قطعت قطعا وجدانيا بحياته فسوف اقطع بنبات لحيته ، أما إذا لم تثبت الحياة حقيقة وإنما ثبتت تعبدا أي من خلال الاستصحاب فموضوع نبات اللحية لم يتحقق حقيقة وإنما تحقق تعبدا وذلك لا يكفي الإثبات نبات اللحية .

ومثال النحو الثاني :- استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الشرعي ، فان العقل يحكم بان من خالف التكليف الشرعي هو مستحق للعقوبة ولكن لا خصوص ما إذا التكليف الشرعي ثابتا حقيقة ووجدانا أي بالقطع الوجداني بل العقل يقول حتى لو ثبت التكليف بنحو التعبد الشرعي كفى ذلك بحكمي باستحقاق العقوبة على المخالفة ، فالموضوع لاستحقاق العقوبة على المخالفة هو وجود التكليف واقعا ، ولكن سواء كان وجودا واقعيا حقيقيا أو كان وجودا حقيقا بالتعبد ، وفي هذا النحو الثاني لا يلزم محذور الأصل المثبت لأنه بعد ثبوت بقاء التكليف ببركة الاستصحاب سوف يكون التكليف محرزا بالتعبد والمفروض أن البقاء التعبدي يكفي لحكم العقل بالاستحقاق ، فيكون موضوع حكم العقل محرزا بالوجدان والقطع وليس بالتعبد ، لان الموضوع كما قلنا هو الأعم من الحقيقي والتعبدي وهذا الوجود الأعم محرز بالقطع واليقين الوجداني وليس بالتعبد فيثبت الأثر العقلي لثبوت موضوعه بنحو القطع الوجداني.

 ومن هنا ترى أن الفقهاء جرت سيرتهم على استصحاب وجوب صلاة الجمعة إلى زمن الغيبة ورتبوا على ذلك وجوب الامتثال ، والحال أن وجوب الامتثال حكم عقلي ، ولم يقل احد إن وجوب الامتثال اثر عقلي فاستصحاب بقاء وجوب الجمعة لإثبات بقاء وجوب الامتثال يكون أصلا مثبتا ، وإلا يلزم إلغاء الأحكام ، ولا يحتمل احد ذلك ، والنكتة في عدم توقفهم هو ما اشرنا إليه من أن وجوب الامتثال حكم عقلي موضوعه هو وجود التكليف وبقاءه بالبقاء الأعم من الحقيقي والتعبدي وهذا البقاء الجامع محرز بالوجدان والقطع الوجداني ، فيثبت وجوب الامتثال من باب إحراز موضوعه بنحو القطع فإذا أحرز الموضوع بنحو القطع ترتب الحكم العقلي من دون أن يلزم محذور الأصل المثبت ، وهذه قضية مهمة يجدر الالتفات إليها وحصلها أن محذور الأصل المثبت إنما يلزم لو كان الأثر غير الشرعي أثرا للمستصحب بوجوده الحقيقي فقط أما لو كان أثرا للمستصحب بوجوده الأعم من وجوده الحقيقي والتعبدي ، فبالاستصحاب سوف يحرز تحقق الموضوع بنحو القطع الوجداني ، فيترتب الأثر العقلي غير الشرعي من باب تحقق موضوعه بنحو القطع الوجداني .

 وإذا عرفنا هذا نطبق ذلك في مقامنا فنقول حينما نستصحب عدم التحريم- أي عدم وجود الجعل وعدم تشريع التحريم إلى زماننا هذا - فسوف يحكم العقل بالعذرية من باب أن حكم العقل بالعذرية هو عدم التشريع الأعم من كونه بنحو الحقيقة أو بنحو التعبد ، فالأثر هو اثر للمستصحب بوجوده الأعم من الحقيقي والتعبدي . فتأملوا في ذلك فانه نافع .

الإشكال الرابع :- وهو ما ذكره الشيخ النائيني أيضا[1] وحاصله ؛-إن عدم التحريم الثابت حالة الصغر يغاير عدم التحريم الآن حالة البلوغ فان ذلك العدم هو من باب عدم قابلية المحل حيث أن المحل لا يقبل التكليف حيث رفع عنه القلم ، بينما عدم التكليف الآن ليس من باب عدم قابلية المحل بل المحل قابل ولكن رغم ذلك لم يثبت الشرع له التكليف ، وما دام ذلك العدم يغاير هذا العدم فلا يجري الاستصحاب فأنهم اشترطوا في جريانه وحدة المستصحب .

وارجوا الالتفات إلى أني لم اقل وحدة الموضوع ، بل قلت وحدة المستصحب ، فانه في باب الاستصحاب يشترط أمران ؛ وحدة الموضوع وهذا شيء لم ينظر إليه هذا الإشكال - وإنما ينظر إليه الإشكال الأتي - وألان نريد أن نقول انه يلزم في الاستصحاب وحدة المستصحب وهنا المستصحب ليس بواحد ، فان العدم الثابت سابقا يغاير العدم الآن ، فذاك عدم من باب عدم القابلية من باب رفع القلم بينما العدم الآن هو ليس من باب عدم القابلية بل من باب أن العدم السابق قد ارتفع يقينا حيث صار الشخص له القابلية ، والعدم الذي نريد إثباته الآن لم نتيقن به سابقا ، فهو مشكوك الحدوث .

 إذن ما هو معلوم الحدوث سابقا قد جزم بانتفائه ، وما يشك قي ثبوته الآن لا يجزم بثبوته سابقا ، وهذه نكتة يجدر الالتفات إليها .

والخلاصة:- إن الشيخ النائيني يقول أن الاستصحاب لا يجري لان هذا العدم يغاير ذاك العدم .

[1] اجود التقريرات 2 - 190