37/08/16


تحمیل

حكم مجهول المالك بعد التصدق:-

قلنا إنّ حكم مجهول المالك هو الفحص حتى اليأس فإذا حصل اليأس فحينئذٍ الحكم هو التصدّق ، فإن جاء المالك ورضي فبها وإن لم يرض فهل يضمن المتصدّق الذي عثر على مجهول المالك أو لا يضمن ؟

المناسب بمقتضى القاعدة بقطع النظر عن الرواية - ولا توجد رواية - هو عدم الضمان لأنه عمل بالوظيفة الشرعية إذ الشرع قال له تصدق به بعد اليأس وقد عمل هذا المكلف بوظيفته الشرعية وقد تصدّق بعد اليأس فيكون الضمان بحاجة إلى دليل ، وحيث لا دليل فلا موجب للضمان ، بل البراءة تقتضي العدم ، فنتمسّك بأصل البراءة بعد عدم الدليل على الضمان.

إن قلت:- الدليل موجودٌ وهو ( لا يحلّ مال امرئٍ إلا ألا بطيبة نفسٍ منه ).

والجواب:- إنّ المالك الحقيقي قد أجاز بالتصرّف ، والمالك الحقيقي هو الشارع المقدّس حيث قال لي تصدّق به بعد اليأس وبعد إجازته فالضمان هو الذي يحتاج إلى دليل ، وهذه قاعدة في كلّ موردٍ من هذا القبيل فإذا أجاز المالك الحقيقي وهو الشرع فبعدما أجاز في التصرّف فالضمان هو الذي يكون محتاجاً إلى دليل ، فإذا شكننا في الضمان فننفيه بأصل البراءة بعد عدم الدليل ، وقلنا إنّ دليل ( لا يحلّ ما ل امرئ ) لا ينفع لأنّ الشرع قد أجاز بالتصرّف ، وهذا من قبيل الأكل من بيت العمّة والخالة والأخ فهو يجوز فأنا أكلت من بيتهم فحينما جاءوا وقالوا نحن لا نقبل فقبولهم ليس بمهم بعد أن أجاز الشارع ذلك والضمان يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك ، فإذن لا ضمان.

نعم في باب اللقطة وردت بعض الروايات الدالة على أنّ المالك إذا جاء بعد التصدّق - أي بعد السنة لأن اللقطة مقيّدة بالفحص بعد السنة - فحينئذٍ فهو مخيّر بين أن يرضى بالتصدّق فيحصل على ثواب الصدقة وبين ما إذا لم يرض فيضمن الذي تصدّق والثواب يصير للمتصدّق ، وننقل في هذا المجال روايتين:-

الأولى:- وهي لعلي بن جعفر:- ( وسألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرّفها سنة ثم يتصدّق بها فيأتي صاحبها ما حال الذي تصدّق بها ولمن الأجر هل عليه أن يردّ على صاحبها أو قيمتها ؟ قال:- هو ضامنٌ لها والأجر له إلا أن يرضى صاحبها فيدعها والأجر له )[1] ، ودلالتها واضحة على الضمان - أي ضمان المتصدّق الملتقط -.

تبقى من حيث السند:- فقد رواها صاحب الوسائل(قده) من كتاب عليّ بن جعفر عن أخيه ، وحينئذٍ يأتي ذلك الكلام وهو أنّ هذه الرواية صحيحة أو لا ؟ وقلنا بأنّ السيد الخوئي(قده) والسيد الشهيد(قده) ذهبا إلى صحّة الطريق لأنّ كتاب علي بن جعفر كان عند صاحب الوسائل(قده) وهو ينقل عنه حيث إنه قال يوجد عندي بعض الأصول ومنها كتاب عليّ بن جعفر ، وهو له أكثر من طريق إلى الشيخ الطوسي(قده) ذكرها في بعض الفوائد وهي صحيحة ، والشيخ الطوسي عنده طريق معتبر إلى كتاب عليّ بن جعفر فلا توجد مشكلة في البين ، هذا ما كان يذكره العلمان وهو شيء وجيه.

ونحن نقول:- هذا وجيهٌ إذا كان الطريق من صاحب الوسائل إلى الشيخ الطوسي على نسخةٍ معيّنة ، ولكن نحتمل أنه ليس طريقاً بلحاظ النسخة وإنما هي إجازة تبركية إذ لا قرينة تدلّ على أنّ الطريق على نسخةٍ معيّنة ، ولا نقول حتماً هي تبركية بل نقول يحتمل أنها تبركيّة فلا تنفع إذن.

يبقى قد تشكل وتقول:- إنّ الشيخ الطوسي أيضاً كذلك ، فهو حينما ينقل عن أصول الأصحاب فالطرق المذكورة في الفهرست والمشيخة كذلك ؟

قلت:- هناك قرائن - وقد ذكرت هذا أكثر من مرّة - تدلّ على أنها كانت على النسخة.

لكن الذي قد يهون الخطب هو أنّ هذه الرواية نفسها موجودة في قرب الأسناد بنفس النصّ ، وكتاب قرب الاسناد مع كتاب عليّ بن جعفر هو واحد غايته أنَّ أحدهما مرتّب حسب الأبواب والآخر ليس بمرتّب حسب الأبواب ، وقرب الأسناد يرويه عبد الله بن جعفر الحميري عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر وعبد الله بن الحسن لم تثبت وثاقته ولكن هذا ليس بمهم ولكن وجود الرواية في كلا الكتابين ربما يولّد الاطمئنان للفقيه بصحّة نسبتها إلى عليّ بن جعفر وأنها ليست مزوّرة وليست مجرّد نسبة إلى عليّ بن جعفر بل النسبة صادقة وهو ينقل عن الإمام عليه السلام ، فإذن يمكن أن نقبل هذه الرواية بهذا البيان.

الثانية:- رواية حفص بن غياث حيث جاء فيها:- ( .... فيعرّفها حولاً فإن أصاب صاحبها ردّها عليه وإلا تصدّق بها فإن جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم فإن اختار الأجر فله الأجر وإن اختار الغرم غرم له )[2] ، ودلالتها واضحة.

بيد أنّ السند ضعيف لورود بعض الضعاف فيه من قبيل القاسم بن محمد الأصفهاني أو غيره . وعلى أيّ حال رغم تعدّد الأسناد لهذه الرواية لكنه يوجد في كلّ سند ضعفٌ وتكفينا الرواية الأولى ، أو أنّ مجموع الروايتين أيضاً يورث الاطمئنان للفقيه بأنّ الحكم هو الضمان ألا أن يرضى المالك.

ولكن في مقابل ذلك توجد رواية أخرى ربما توحي بأنه لا ضمان:- وهي رواية الحسين بن كثير عن أبيه قال:- ( سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام عن اللقطة ، فقال:- يعرّفها فإن جاء صاحبها دفعها إليه وإلا حبسها حولاً فإن لم يجد صاحبها أو من يطلبها[3] تصدّق بها ، فإن جاء صاحبها بعدما تصدّق بها إن شاء اغترمها الذي كانت عنده وكان الأجر له وإن كره ذلك احتسبها والأجر له )[4] ، إنه قد يقال إنها تدلّ على تخيير الملتقط وليس على تخيير المالك لأنّ الرواية قالت ( إن شاء اغترمها الذي كانت عنده ) يعني بعدما جاء المالك ولم يرض إن شاء اغترمها الذي كانت عنده الذي هو الملتقط وكان الأجر له يعني الملتقط وإن كره ذلك أي الملتقط احتسبها أي المالك عند الله تعالى والأجر للمالك ، فقد تعطي الرواية أنّ التخيير بيد الملتقط.

ولكن يوجد احتمال آخر في الرواية وهو أن يقال هكذا:- إن قوله ( فإن جاء صاحبها بعد ما تصدّق بها فإن شاء ... ) يعني أنَّ الملتقط مرّةً يحبُّ ومرّة لا يحبّ - فنرجعه إلى الملتقط - ، فإن شاء الملتقط اغترمها وكان الأجر له وإذا لم يحبّ ولكن مع ذلك عليه أن يدفعها إلى المالك ولكن يحتسبها عند الله عزّ وجلّ والأجر له ، فإذن يرجع كلا الشقّين إلى المتصدّق يعني الملتقط ، فالملتقط المتصدّق مرّة هو يحبّ ذلك فهذا جيّدٌ ومرّة لا يحبّ ذلك ولكن الشرع يشجعه فيقول له أنت احتسبها عند الله عزّ وجلّ والأجر يكون لك أيها المتصدّق ، فهذا أيضاً احتمال ، فالرواية إذن مردّدة بين احتمالين ، وفيها شيءٌ من الابهام والاجمال من حيث الدلالة ، فدلالتها ليست بشكلٍ واضحٍ حتى تعارض الروايتين السابقتين.

هذا مضافاً إلى أنّ سندها ضعيفٌ فإن الحسين بن كثير مجهول وهكذا كثير نفسه مجهول أيضاً ، فتبقى تينك الروايتان بلا معارضٍ فنأخذ بهما ، ولكن هذا كما ترى حكم خاصّ باللقطة ونحن كلامنا في مجهول المالك من دون أن يكون لقطة ، اللهم إلا أن تقول لا فرق بين اللقطة وبين مجهول المالك إذ كلاهما حتى اللقطة يصدق عليها مجهول المالك لأنّ مالكها مجهولٌ ، ولكن قبول الاطمئنان بهذه الدعوى شيءٌ صعب فإنّ مجهول المالك حكمه اليأس فلعل فيه فحصاً لفترةٍ أكثر من سنة بينما في اللقطة الفحص لفترة سنة ، فلأجل أنّ الفحص لفترة سنة في اللقطة يمكن للشرع أن يتشدّد به فيكون عليه ضمان إن لم يرضَ المالك بالتصدّق ، بينما هناك فلأجل أنّ الفحص حتى اليأس ولعلّه أكثر من سنة يتساهل الشرع في ذلك.

وعلى أيّ حال الروايتان واردتان في اللقطة ولم تردا في غير اللقطة فالتعدّي من اللقطة إلى مجهول المالك شيء مشكل ، فاتضح إذن أنّ مجهول المالك إذا تصدّق به من عثر عليه لا يجب عليه بعد ذلك الضمان.


[3] ليس من البعيد أن هذا ترديد من الراوي وألا لا يصير أن يقول الامام فإن لم يجد صاحبها أو من يطالب بها.