38/05/09


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/05/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

وبكن قد يتمسك لإثبات الحرمة بوجهين:-

الأول:- التمسّك بصحيحة عمّار بن مروان فإنها وردت بنقلين ، والنقل الأوّل هو للشيخ الكليني حيث ورد هكذا:- ( سألت أبا جعفر عن الغلول فقال:- كل شيء غُلَّ من الامام فهو سحت .... والسحت أنواع كثيرة منها أجر الفواحش ومنها .... ، فأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله العظيم )[1] ، وعلى هذا النقل لا يمكن التمسّك بهذه الرواية لأنَّ الوارد فيها هو ( الرشا في الحكم ) وقد قلنا هذا يكون من التمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المفهومية ، أما الآن فنريد أن ندخل عنصراً ثانياً فنقول: إنَّ هذه الرواية قد نقلها الشيخ الصدوق(قده) عن نفس عمّار بن مروان وبطريق معتبر والعبارة الواردة فيها هكذا:- ( كل شيء غُلَّ من الامام فهو سحت ... واسحت أنواع كثيرة منها أجوز الفواحش ..... ومنها أجور القضاة ، .... فأما الرشا في الحكم ) ، والفارق بني النقلين هو أنه حينما عدّت الروية أنواعاً للسحت لم يذكر في النقل الأوّل من جملة الأنواع أجور القضاة ، أما في نقل الشيخ الصدوق فقد ذكرت ذكر أجور القضاة ، وحينئذٍ يقال: إنه حيما ندفع للحاكم المال لأجل أن يحكم بيننا فهذا يصدق عليه أنه أجور القضاة - يعني أجرة للقاضي على القضاء - فيكون مشمولاً للرواية .

إذن قد يتمسّك لإثبات الحرمة بالنقل الثاني في صحيحة عمّار بن مروان.

إن قلت:- إنَّ الرواية بالتالي هي مردّدة بين الزيادة والنقيصة ، لأنّ فقرة ( أجور القضاة ) ليست موجودة في النقل الأوّل وإنما هي موجودة في النقل الثاني فيصير أمرها مردّداً بين أن يكون ذكرها في النقل الثاني من باب الزيادة عند الصدوق ، ويحتمل أنه حصلت نقيصة في حقّ الشيخ الكليني فهو قد أنقص ، وعند الدوران بين الزيادة والنقيصة الأصل عدم الزيادة ، بمعنى أنَّ الزيادة التي ذكرت في نقل الشيخ الصدوق قد صدرت من أهلها ووقعت في محلها ، يعني هي ليست زيادة ، فإذا قلنا بأنَّ الأصل عدم الزيادة فسوف تثبت هذه الاضافة في نقل الصدوق ، وإذا لم تكن زيادةً فإذن سوف نأخذ بها وتكون حجّة ، وحينئذٍ نقول نحن نحتاج إلى ضمّ أصالة عدم الزيادة.

ونحن لا نبني على هكذا أصل بهذا الشكل ، بل لابد من ملاحظة الموارد ، فإذا رأينا أنه حصل لدينا الاطمئنان بحسب القرائن بأن هذا ليس بزيادة فنحكم بأنَّ هذا ليس بزيادة ، وأما إذا لم يحصل لدينا الاطمئنان فلا يوجد عندنا أصل عقلائي ثابت قطعي بواقع أصالة عدم الزيادة فإذن لا يمكن أن نثبت أنَّ هذه الجملة ليست زائدة في نقل الشيخ الصدوق لأنَّ أصالة عدم الزيادة لا نؤمن بها ، هذا إشكالٌ قد يوجه إلينا.

قلت:- إنه في هذا المورد العبارة كبيرة وليست حرفاً واحداً ، فلو كان حرفاً واحداً مثل ( الواو ) أو ( ثم ) فيحتمل أنه لا يوجد اطمئنان هنا ، أما إذا كان الموجود هو فقرة كاملة مثل ( ومنها أجور القضاة ) فاحتمال اشتباه الشيخ الصدوق وكتابته لهذا المقدار من الكلمات بعيدٌ جداً ، فيحصل اطمئنان بأنَّ هذا ليس زيادة وإن ما حصل من الشيخ الكليني هو نقيصة ، فإذن أصالة عدم الزيادة تكون محكّمة مقبولة لكن لا بعنوان أصل عقلائي كلّي وإنما بعنوان أنه يحصل الاطمئنان بأنَّ هذه جملة كبيرة ليست زيادة ، فإذن هذه الرواية بالنقل الثاني تكون حجّة لإثبات أنَّ أجر القاضي يكون حراماً لأنَّ الامام عليه السلام عدَّه من السحت.

وإذا كانت توجد مناقشة في هذه الرواية فتوجد رواية أخرى ، وهي صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في الصنف الرابع ، ونصّها:- ( قال:- سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ، فقال:- ذلك السحت )[2] ، إنه هنا عبّر بالرزق ، فالقاضي يأخذ الرزق على القضاء والرزق يعني الأجرة ، وهذا يدل على أن أخذ الأجرة على الحكم سحتٌ ، فالرواية تدل على أنَّ هذا سحت وهو لا يجوز.

إن قلت:- إنَّ هذه الصحيحة ناظرة إلى الأجرة على منصب القضاء والتصدّي له لا نفس الحكم بينما محلّ كلامنا هو دفع الأجرة ليس مقابل المنصب وإنما على نفس الحكم ، فإذن هي لا تنفعن ؟

قلت:- إذا ثبتت حرمة الدفع للمنصب فبالأولوية العرفية يثبت أنَّ الدفع ازاء نفس الحكم يكون محرّماً.

إذن عندنا روايتان تدلان على أنَّ الأجرة مقابل الحكم شيء لا يجوز أحدهما صحيحة عمّار بن مروان بالنقل الثاني والثانية صحيحة عبد الله بن سنان ، هكذا قد يستدل بهاتين الروايتين على الحرمة.

ولكن يردّ ذلك ويقال:- صحيحٌ أنهما تدلان على حرمة الأجرة على الحكم وهذا مسلّم وصحيح ولكنهما ناظرتان إلى الزمن السالف ، فإنه في الزمن السالف كان القاضي هو قاضي جور ، فقاضي السلطان يحرم عليك الذهاب إليه فضلاً عن إعطائه مبلغاً من المال ، ونحن كلامنا في القاضي العادل المؤمن لكنه لسببٍ وآخر لا يحكم بيننا ونحن نعطيه مبلغاً من المال كي يحكم بيننا وهذا لا يكون مشمولاً لهاتين الروايتين ، إذن الروايتان ناظرتان إلى أجور القضاة في الزمن السالف والزمن السالف - في عهد الأئمة - لم يكن القاضي إلا قاضي الجور.

إن قلت:- نحن نتمسّك بالإطلاق وهنا لا يوجد ما يوجب الانصراف فإنَّ الانصراف إما أن ينشأ من كثرة الوجود وهو ليس بحجّة أو ينشأ من كثرة الاستعمال وهو حجّة ، ولكن كثرة الاستعمال هنا ليست موجودة فلا يكون هذا الانصراف حجّة.

قلت:- نحن أجبنا أكثر من مرّة بأننا لا نتقيّد بهذه القيود الأصولية ، بل المهم عندنا هو أننا إذا شعرنا بالانصراف حقاً فحينئذٍ لا نأخذ بالإطلاق ونسير وراء الانصراف مادام موجوداً وإن لم يكن المنشأ كثرة الاستعمال ، وهنا يوجد انصراف من هذا القبيل.

وإذا لم تقبل بهذا فهناك طريق آخر لحصول القناعة:- وهو أن نقول لو ظهر الامام عليه السلام وقال إنَّ مقصودي من ( أجور القضاة ) هم القضاة المعهودون في ذلك الزمان لا يستشكل عليه ولا يقال له ( إذن لماذا لم تقيّد ؟ ) ، ومادام لا يستهجن منه الاطلاق باعتبار أنَّ هذه هي الحالة المتعارفة - بل أصلاً التقييد يصير مستهجناً فعدم تقييد الامام حينئذٍ لا يكون مستهجناً - فلا يمكن التمسّك بالإطلاق آنذاك.

إذن كلتا الروايتين ناظرتان إلى سلطان الجور وقضاة الجور فلا تنفعان في المقام ، فإذن لا يمكن التمسّك بهما لإثبات الحرمة.

بل قد تصعّد اللهجة ويقال إنه يوجد دليل على الجواز:- وهو رواية حمزة بن حمران ، وقد رواها الشيخ الصدوق(قده) في معاني الأخبار عن أحمد بن محمد بن الهيثم عن أحمد بن يحيى عن بكر بن عبد الله عن تميم بن بهلول عن أبيه عن محمد بن سنان عن حمزة بن حمران:- ( سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:- من استأكل بعلمه افتقر ، قلت:- إنَّ في شيعتك قوماً يتحمّلون علومكم ويبثّونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البرّ والصلة والاكرام ، فقال:- ليس أولئك بمستأكلين إنّما ذاك الذي يفتي بغير علمٍ ولا هدىً من الله ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا )[3] .

وقال الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[4] :- إنَّ هذه الرواية بذيلها تدل على الجواز في موردنا ، يعني أنَّ الحاكم العادل يأخذ المال مقابل الحكم ، لأنها في ذيلها حصرت المستأكل المذموم بالذي يفتي بغير علمٍ ولا هدىً من الله ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا فإذا كان الهدف هو هذا فهنا يحرم عليه أخذ الأجرة ، أما ما نحن في صدده فهو الحاكم العادل الذي يفتي بعلمٍ وهدىً من الله ولا يبطل الحقوق ويريد أن يحكم بالعدل لكنه يطلب الأجرة على الحكم فهنا يكون أخذه للأجرة جائزاً.