38/06/19


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/06/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 33 ) حكم حفظ كتب الضلال – المكاسب المحرمة.

وفيه:- إنَّ هناك حجة عقلائية تثبت عدم الجواز وهي خوف الضرر ، فإنَّ الخوف في باب الضرر - ومن الواضح إذا كان خوفاً معتداً به - فسيرة العقلاء جارية على أنهم يجتنبون عن الشيء مادام يخافون منه ، وهذه سيرة عقلائية ليست جديدة بل هي موجودة مع الحياة العقلائية ، فحتماً هي موجودة في زمن المعصوم وحيث لا ردع عنها فتكون حجة ، فيثبت بذلك أنَّ خوف الضرر حجة.

ومن هنا في باب الصوم يقال إنَّ المكلف إذا خاف على نفسه الضرر لو صام جاز له الافطار بل يجب ذلك ، لأنَّ الخوف حجة عقلائية ممضاة بعدم الردع ، وموردنا من هذا القبيل ، لأنَّ المفروض أنه يوجد عندنا خوف ، لأنَّ هذه الكتب مادامت موجودة فنحن نحتمل أنها سوف تحرفنا في يومٍ من الأيام فحينئذٍ لابد من اتلافها.

إن قلت:- صحيح أنَّ هذا الخوف حجة عقلائية ولكن يوجد رادع عن هذه السيرة وهو نفس الاستصحاب الاستقبالي ، فإنه إذا جرى فهو يقول لي لا تُعِر أهمية للسيرة ، فهو صالح لأن يكون رادعاً عن السيرة ، فعلى هذا الأساس وجود ما يصلح للردع وإن لم يكن رادعاً جزماً سوف يسقط ما انعقدت عليه السيرة عن الحجية ، وهكذا البراءة فإنَّ البراءة بإطلاق دليلها تشمل مقامنا فتصلح للردع عن هذه السيرة.

قلت:- إنَّ موارد انعقاد السيرة في القضايا الخاصّة كما في باب الضرر هنا لابد أن يأتي الردع في هذا المورد بالخصوص ، فيلزم أن تأتي رواية أو شيء آخر ناظر إلى هذا المورد بالخصوص ، كأن ترد رواية ولو ضعيفة في الردع - لأنَّ الرواية الضعيفة هنا تكفي للردع - ولكن نحتاج أن تأتي الرواية وتنظر إلى هذا المورد بخصوصه وتقول ( خوف الضرر هنا لا تعر له أهمية ) ، لا أنه يأتي مثل ( لا تنقض اليقين بالشك ) الذي دائرته وسيعة جداً ، وهكذا أصل البراءة فإنَّ مثل هذا كيف يصلح أن يكون رادعاً فإنَّ قوّة الردع لابد أن تتناسب مع قوّة المردوع ، فمادام توجد سيرة قويّة على هذا جزماً فيلزم أن يكون الردع مناسباً أما الردع بهذا الشكل فلا ينفع.

والخلاصة:- يمكن أن نثبت في هذا المورد أنه يلزم مادام المكلف يخاف الانحراف حيث إنَّ خوف الضرر حجة عند العقلاء فيلزمه أن يأخذ بخوفه وبالتالي يتجنّب هذه الكتب ويتلفها ، والاستصحاب والبراءة لا مجال لهما في هذا المورد لأنهما لا يصلحان للرادعية ، بل بالعكس أي تكون هذه السيرة مخصّصة أو مقيّدة لدليل الاستصحاب أو لدليل البراءة فالتفت إلى ذلك.

وأما إذا لم يخف الاضلال - كما في كتب التوراة والانجيل الموجودة الآن فإنه لا يحتمل أنها تؤثر علينا - فلا دليل على حرمة بقائها - أو بتعبيرٍ آخر على وجوب اتلافها - فإنَّ دليل خوف الضرر الذي ذكرناه لا يأتي هنا ، نعم ربما يتمسّك ببعض الأدلة على اثبات حرمة إبقاء الكتب حتى هذه الحالة الثانية ولكن سنبين هذا فيما بعد فانتظر قليلاً.

ثم إنَّ ما ذكره السيد الماتن(قده) في المسألة يتناغم مع ما ذكرناه:- يعني بتعبيرٍ آخر هو أيضاً قيّد بعدم الأمن من الضرر فإذا لم يأمن فلا يجوز حفظها وبالمفهوم أنه إذا أمن الضرر فلا بأس بحفظها ، والتوجيه الذي ذكرناه هو صالح لأن يكون وجهاً لهذا التفصيل ، فهو بالتالي يكون معتمداً على هذه النكتة التي أشرنا إليها وهي أنَّ خوف الضرر في موارد تضليل النفس وإضلالها عن الحقّ وعن الدّين حرام وفي مورد الخوف حيث إنَّ الخوف حجّة عقلائية فيجب السير على طبقه فلا يجوز حفظ هذه الكتب ، أما إذا لم يخف فلا مشكلة ، فما ذكره السيد الماتن(قده) يتناغم ويتفاعل مع ما ذكرناه ، وليس من البعيد أنَّ مستنده هو هذا.

ومنه يتضح وجه الحكمين الآخرين اللذين ذكرهما في عبارة المتن ولذلك لا داعي لأنَّ نتكلم فيهما ، وأيضاً اتضح وجه تفصيل الماتن(قده).

لكن يبقى شيء في عبارة المتن:- حيث إنّه ذكر أنه إذا أمن من الضلال فيجوز حفظها وكذا يجوز إذا كان لمصلحةٍ أهم كما لو كان لأجل ردّ هذا الكتاب كما قلنا ، وجَعْلُ هذا الثاني عدلاً للأوّل يعطي أنه يجوز ابقائها لأجل الردع حتى مع خوف الضلال على نفسه حيث قال ما نصّه:- ( يحرم حفظ كتب الضلال مع احتمال ترتّب الضلال لنفسه أو لغيره فلو أمن من ذلك أو كانت هناك مصلحة أهم جاز ) فجعل ( أو كانت هناك مصلحة أهم جاز ) عدلاً لـ( أو أمن ) معناه أنه لو كانت هناك مصلحة أهم فيجوز إبقاؤها حتى لو لم يأمن على نفسه من الضلال وهذا يصعب الالتزام به ، فإنَّ مصلحة حفظ النفس من الضلال أهم من أيّ مصلحةٍ أخرى ، بل لابد من تعديل العبارة بشكلٍ وآخر.

نعم إذا فرض أنه كان آمناً على نفسه من الضلال ولكن بقاءها قد يؤدي إلى تضليل غيره فهو لو أبقى هذه الكتب سوف يردّها ويدحض حججها وبالتالي سوف يحافظ على مجموعة من الناس فهنا لا بأس بحفظها ، لأننا نقول إنَّ الدوران سوف يصير بين إضلال شخصٍ واحدٍ وبين الحفاظ على مجموعة كبيرة ، ففي مثل هذه الحالة ليس من البعيد أن نقول إنَّ دحض هذه الكتب وردّها أهم وإن حصل إضلال لشخصٍ آخر مادام ذلك الشخص ليس هو الذي يحفظ الكتب ، فما ذكره(قده) يتمّ في الغير ، فكان من المناسب له أن يقيّد العبارة بشكلٍ يبيّن فيه ذلك ، فلابد إذن من أن يقيد الشق الثاني الذي ذكره بقوله ( أو كانت هناك مصلحة أهم ) ويقول ( بين ما إذا دار الأمر بين هذا وبين ضلال غيره لا نفسه ) فيخرّج النفس من ذلك ، والمهم إنه إذا كان المنظور هو الغير فلا بأس أما أن نبقي العبارة على حالها فهي تشمل حالة ما لو كان يخاف الضلال على نفسه ولازمهما أنه يجوز ابقائها لدحض الحجج الواردة فيها وإن أدّى ذلك إلى إضلال من حفظها وهذا لا يمكن الالتزام به لما أشرنا إليه ، هذه قضية ينبغي الالتفات إليها.

وهناك قضيّة أخرى:- وهي أنَّ الشيخ الأعظم(قده) عبّر في المكاسب بتعبيرٍ أراه جيداً حيث قال:- ( وقد تحصّل أنَّ من ذلك أنَّ حفظ كتب الضلال لا يحرم إلا من حيث ترتّب مفسدة الضلالة قطعاً أو احتمالاً قريباً فإن لم يكن كذلك أو كانت المفسدة المحققة معارضة بمصلحةٍ أقوى ....... فلا دليل على الحرمة إلا أن يثبت إجماع )[1] ، فإنَّ هذه العبارة لا يرد عليه الاشكال الذي ذكرناه ، بينما عبارة السيد الماتن(قده) يرد عليها هذا الاشكال.

وهناك قضيّة أخرى:- وهي أنه من خلال ما ذكرناه اتضح أنَّ الكتاب لابد أن نفسّره بتفسيرٍ أعم ، والحفظ أيضاً لابد من تفسيره بشكلٍ أعم ، والاتلاف أيضاً لا بد من تفسيره بشكلٍ أعم لا كما توحي به العبارة بادئ ذي بدء ، وهذا على طبق الدليل الذي ذكرناه ، يعني أنَّ الدليل الذي ذكرناه يجعلنا أن نفسّر كلّ واحدٍ من هذه الأمور بتفسيرٍ آخر.