38/06/29


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- تشبه الرجال بالنساء وبالعكس.

قلنا إنَّ الطابع العام على روايات المسألة هو الضعف ولكن أهم الروايات كانت هي الرواية الثالثة - أي رواية جابر - والتي جاء فيها لعن الرجال المتشبهين بالنساء وبالعكس فيتمسّك بإطلاق التشبّه ، فكل تشبّه حرام ومن أحدها التشبّه في اللباس ، وهذا ما صار إليه الحاج ميرزا علي الايرواني(قده) والسيد اليزدي(قده) ، بل ربما صار إليه السيد الخوئي(قده) أيضاً كما سوف نذكر.

ولو غضضنا النظر عن السند فهل يمكن التمسّك بدلالتها ؟ الجواب:- تارةً نبني في باب الاطلاق على كونه وسيعاً كما هو المعروف ، وأخرى نأخذه في درجته الضيّقة كما هو على مبنانا في الاطلاق.

فإن بنينا على الأوّل فبناءً عليه فسوف فتكون الاحتمالات في قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( لعن الله المتشبهين والمتشبهات ) ثلاثة: فأما أن يراد منه الاطلاق بدرجته الوسيعة جداً ، فكل تشبّه من الرجال بالنساء يوجب اللعن أمثال كون الرجل يطبخ الطعام أو يغسل الثياب وما شابه ذلك ، وهذا الاحتمال باطل جزماً فإنه لا يوجد فقيه يحتمل حرمة مثل هذا ، بل بالعكس فإمامنا أمير المؤمنين عليه السلام - وهو قدوتنا - كان يعمل في البيت ، ففي الرواية عن الامام الصادق عليه السلام:- ( كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس وكانت الصديقة الزهراء عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز )[1] ، وفي رواية أخرى:- ( دخل النبي صلى الله عليه وآله وكنت انقّي العدس ) ، فإذن الإطلاق بعرضه العريض لا يحتمل أن يتمسّك به فقيه.

وعليه فيدور الأمر بين أن نأخذ بالإطلاق في درجته الثانية - أي في غير هذه الأمور التي أشرنا إليها - ونبقي ما سوى ذلك كالتشبّه بالملابس والتشبّه بمعنى تأنّث الذكر وتذّكر الأنثى فهذه هي المرتبة الثانية ، فإذن يدور الأمر في الإطلاق بين الأخذ بالمرتبة الثانية وبين الأخذ به بالقدر المتيقن وهو تأنّث الذكر وتذّكر الأنثى ، وحيث لا معيّن للمرتبة المتوسطة الثانية في مقابل الثالثة فيلزم الأخذ بالقدر المتيقن وهو تأنّث الذكر وتذكّر الأنثى.

وانما قلنا لا تعيّن للثانية باعتبار أنَّ ظاهر اللفظ لو أخذنا به فهو يعيّن الاطلاق بالدرجة الأولى الوسيعة ، ولكن المفرض أنه باطل فلا يعود هناك معيّن للإطلاق بمرتبته المتوسطة إذ هو يحتاج الى دليل ولا دليل فيتمسّك حينئذٍ بالمرتبة المتيقنة وهي تأنّث الذكر وتذكّر الأنثى ، وبذلك لا تنفعنا هذه الرواية في اثبات حرمة التشبّه من جهة اللبس.

وهذه القضية ينبغي أن يشار إليها في باب الاطلاق من علم الأصول ولكن لم يشر إليها هناك وذلك لأنها عنوان عام وهو أنه لو فرض أنَّ الاطلاق بدرجته الوسيعة لا يمكن الالتزام به فهل المدار على الأخذ بالمرتبة الثانية أو على المرتبة المتيقنة الثالثة ؟ فهذه من المسائل التي ينبغي أن تبحث في باب الاطلاق من علم الاصول ، وكما قلت إنَّ المناسب هو الأخذ بالمرتبة الثالثة حيث لا معيّن للمرتبة الثانية بعد تعذّر الأخذ بالمرتبة الأولى الوسيعة ، فإن ظاهر اللفظ يساعد على المرتبة الأولى ولكننا نعلم من الخارج بأنها غير مرادة جزماً فلا معيّن للمرتبة الثانية فيعود الكلام مجملاً فيتعيّن الأخذ بالقدر المتيقّن ، وبالتالي هذا ليس في صالح العلمين - أي الميرزا الايرواني والسيد اليزدي - وإنما تكون النتيجة هي حرمة التشبّه بمعنى تأنّث الذكر وتذكّر الأنثى ، هذا كله لو أخذنا بالإطلاق من باب مسلك القوم.

أما لو أخذنا بالإطلاق على مبنانا حيث أضفنا مقدّمة جديدة الى مقدّمات الحكمة وهي أن شرط انعقاد الاطلاق هو أن يكون مستهجناً عرفاً الاطلاق عند ارادة المقيّد واقعاً ، فيقال له إذا كنت تريد المقيّد واقعاً فلماذا أطلقت ولم تقيد فإنَّ اطلاقٌ مستهجن ومعيب ؟! ، اذن اذا كان يستهجن فينعقد الاطلاق كما في ( اعتق رقبة ) فاذا كان مراده المقيّد واقعاً فيستهجن الاطلاق منه ويقال له لماذا لم تقيد ؟

وأما إذا كان لا يستهجن الاطلاق منه فلا ينعقد الإطلاق وذلك لأنك تقول إنَّ اطلاقه غير مستهجن وإن كان يريد التقييد ، وهذه أمور قياساتها معا ، فهو لا يقال له لماذا لم تقيد ؟ لأننا فرضنا أنَّ اطلاقه غير مستهجن وعليه فكيف ينعقد اطلاق ؟!! بل نحن نحتمل أنَّ مراد القوم هو ما ذكرت وإن لم يصرّحوا به ، وذلك لأنها أمور قياساتها معا كما قلنا.

وعلى كلّ حال لو قبلنا بهذا فسوف نخرج بنتائج أخرى ، منها ما لو قلت لك زوجني امرأة فهذا غير مقيّد ، فجئتني بامرأة دينها ضعيف وثقافتها ضعيفة وليست بجميلة وقلت لي أنت اطلقت فقلت زوجني امرأة فلماذا لم تقيد ؟! هنا في الحقيقة لا يستهجن اطلاقي ولو كان مرادي الواقعي هو المقيّد ، وإذا كان لا يستهجن فلا ينعقد الاطلاق . إنك قد تقول في هذا المورد يوجد انصراف فهذا لا بأس به ، ولكن لو لم يكن في البين انصراف فهذا ينفعنا.

ثم تعال الى موردنا فالرواية قالت لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء وبالعكس فلو ظهر المتكلم وقال إنَّ مقصودي هو تأنّث الرجل وتذكّر المرأة فهل يستهجن منه الاطلاق ؟ فاذا قلنا لا يستهجن منه وأنَّ هذا معنى جميل كنا غافلين عنه فحينئذٍ لا ينعقد الاطلاق . نعم قد نختلف في الصغريات وأنه هل يستهجن هنا أو لا فهذه قضية صغروية ، ولكن لو اتفقنا على أنه لا يستهجن الاطلاق فلا ينعقد آنذاك الاطلاق ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق هنا لأجل أنَّ المتكلم لو كان يريد المقيّد واقعاً لا يستهجن منه فلا ينعقد حينئذٍ الاطلاق خلافاً للحاج ميرزا علي الايرواني والسيد اليزدي.

ومن جملة الآثار التي تترتب على هذا المسلك أيضا مسألة الرؤية في اثبات الهلال فهل يلزم أن تكون الرؤية بالعين المجرّدة أو تكفي حتى بالعين المسلحة ؟ قد يقول البعض بكفاية الرؤية بالعين المسلّحة ، وذلك باعتبار أنها رؤية والرواية قالت ( صم للرؤية ) وهي مطلقة ، فعلى الذي ذكرناه لا يمكن وذلك لأننا نقول لو ظهر المتكلّم وقال إنَّ مقصودي واقعاً هو الرؤية المجرّدة فلا يلام وذلك لأنَّ الحالة العامة في ذلك الزمان هي الرؤية المجرّدة فالتقييد لا حاجة إليه والاطلاق منه غير مستهجن فلا تكفي حينئذٍ الرؤية بالعين المسلّحة.

وقد يشكل عليّ البعض ويقول:- إنه بناءً على هذا فسوف نترك الكثير من الاطلاقات ، فمثلاً ( يجب الوضوء بالماء ) فالإطلاق بعرضه لا يشمل الماء المقطّر الموجود في زماننا لعدم وجوده سابقاً ، فاذا قال المتكلّم إنَّ مقصودي هو الماء المتعارف دون المقطّر فلا يستهجن منه ذلك الاطلاق ، فيلزم البناء على عدم جواز الوضوء بالماء المقطّر ، وهكذا على منواله الكثير ؟!

قلت:- يوجد ما نركن إليه وهو الجزم بإلغاء الخصوصية عرفاً ، فلو قال ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه )[2] فاذا أصاب العمامة وليس الثوب فالعرف يلغي الخصوصية للثوب ، فإذن لا نواجه مشكلة من هذه الناحية.

والخلاصة من كل ما ذكرناه:- ان التشبه في مسألة اللباس لا دليل على تحريمه فإنَّ رواية جابر التي هي أقوى الروايات قابلة للمناقشة من حيث اطلاقها بالبيان الذي أشرنا اليه.

نعم هناك رواية أخرى وهي الرواية الثانية والتي قيدت التشبّه باللبس حيث قالت:- ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء وينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها ) [3] ، وهي واردة في خصوص اللباس ، ولكن المشكلة في تعبير ( يزجر ) و ( ينهي ) فانهما اخباريان وليسا انشائيين والنهي والزجر الاخباري أعم من الحرمة ، لذا فهو يوجب التوقف من حيث الدلالة. وأما السند:- فهي مرسلة كما قلنا.

فإذن لا دليل على حرمة التشبّه في اللباس ، وإذا قلت:- نصير الى الاحتياط في الحرمة ، فأقول:- حتى الاحتياط لا داعي إليه لعدم وجود عبارةٍ عند القوم تدل على عدم الخلاف في الحرمة مثلاً حتى نستند إليها ونحتاط من هذه الناحية . نعم هناك عناوين ثانوية لابدّ من مراعاتها كما في لبس المرأة للبنطلون الضيّق المثير فهذا يمنع من حيثية الاثارة لا من حيثية التشبّه بلبس الرجال.

ملاحظات في المقام:-

الملاحظة الأولى:- إنَّ السيد الخوئي(قده) في تقرير درسه المسمّى بـ( المستند في شرح العروة الوثقى للشيخ البروجردي(قده) في مبحث لباس المصلي[4] قد قبل بإطلاق رواية جابر المتقدّمة ووافق بذلك الميرزا الايرواني والسيد اليزدي ، ولكنه ناقش بمناقشتين:-

الأولى:- إنها تشتمل على عمرو بن شمر.

الثانية:- هي خاصة بقصد التشبّه فمن قصد اتشبّه فسوف تشمله ، وذلك لأن التشبّه مأخوذ به القصد ، وإذا لبست المرأة لباس الرجل لا بقصد التشبّه وإنما كلباسٍ استظرفته وحسب فحينئذٍ لا يصدق عنوان التشبّه وتكون الرواية منصرفة عنه.

ولكنه أنكر كلا المطلبين في مصباح الفقاهة فأنكر اعتبار القصد في التشبّه فقال:- ( وقد علم مما تقدم أيضا أنه لا وجه لاعتبار القصد في مفهوم التشبه وصدقه ، بل المناط في صدقه وقوع وجه الشبه في الخارج مع العلم والالتفات ..... ودعوى أنَّ التشبّه من التفعّل الذي لا يتحقق إلا بالقصد دعوىً جزافية لصدقه بدون القصد كثيراً )[5] .

فإذن يوجد تنافٍ من هذه الناحية حيث قال في المستند باعتبار القصد وأما مصباح الفقاهة قال بعدم اعتباره.

كما أنكر في مصباح الفقاهة[6] الاطلاق الموجود في رواية جابر.

فإذن يوجد تنافي بين التقريرين من جهتين ، ووقوع أمثال هذا كثير وليس امراً غريباً.