39/05/03


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.

ثم إنه ربما يقال:- إنَّ هذه الرواية تدل على التحريم حيث قالت ( إنَّ البيع في الظلال غش والغش لا يحل ) يعني حرام ، فعلى هذا الأساس سوف تثبت الحرمة ونحن نريد أن نثبت الكراهة دون الحرمة ، فإذن كيف التوفيق بين المدّعى وبين الدليل فإنه توجد منافاة بينهما ؟

والجواب:- إنَّ البيع في الظلال ليس غشاً حقيقةً فإنه لا يحتمل ذلك ، فلابد أن يكون المقصود هو المبالغة وليس بيان ذلك على وجه الحقيقة.

وإذا قلت:- إنَّ هذا تنزيل منزلة الغش ، فإذا كان ذلك تنزيلاً فحينئذٍ تثبت له حرمة الغش باعتبار أنه نُزّل منزلة الغش ، فإذن لا نحمله على المبالغة وإنما نحمله على النزيل ، وإذا حملناه على التنزيل فسوف يكون فرداً تنزيلياً من الغش فتثبت له حرمة الغش وبالتالي يلزم أن تكون الحرمة ثابتة لذلك حقيقةً.

قلت:-

أوّلاً:- إنه كما يحتمل التنويل تحتمل المبالغة فإذا كان ذلك من باب المبالغة فحينئذٍ لا يمكن أن نستفيد الحرمة ، إنما نستفيدها فيما إذا كان المورد مورد التنزيل ، وحيث إنه مجمل فيحتمل هذا ويحتمل ذاك فتصير الرواية مجملة من هذه الماحية ، فلا يمكن أن نثبت بها الحرمة.

ثانياً:- هناك ارتكاز متشرّعي في جميع أذهاننا على أنَّ البيع في الظلال ليس غشاً ولا محرّماً ، فلأجل هذا الارتكاز لابد من حمل الرواية على محامل أخرى ، يعني يتعيّن حملها على المبالغة وليس على التنزيل لأجل هذا الارتكاز.

إذن هذه الرواية بعد ثبوت هذا الارتكاز على عدم كون هذا من مصاديق الغش ولا يحتمل وجود الحرمة فلابد وأن تحمل على المبالغة وأنَّ الحكم كراهتي.

ثم إنه ربما يضاف لإثبات الحرمة والاستدلال لها:- بأن الذهاب به في الظلال مظنّة ستر العيب ، ويظهر التمسّك بهذا الوجه من الشيخ النراقي(قده) حيث قال:- ( لأنه مظنة ستر العيب ولصحيحة هشام )[1] ، فهو قد تمسّك بدليلين.

ولكن يمكن أن يقال:- إنَّ مجرّد كونه مظنّة ستر العيب لا يستوجب الحكم بالكراهة ، يعني أن الفقيه لا يمكن أن يحكم بالكراهة لأجل مظنّة ستر العيوب ، نعم من المناسب أن يحكم بالرجحان العقلي فيقول ( من الراجح أن لا يكون البيع في الظل ) أو ( مرجوحاً أن يكون البيع في الظل ) خوفاً من ستر العيوب ، وهذه مرجوحية عقلائية أو عقلية لا أنها تصير منشأ للحكم الشرعي.

اللهم إلا أن يقول:- إنه مادام مظنة ستر العيب فهو غش ، وبهذا رجع ذلك إلى رواية هشام بن الحكم ولم يصر وجهاً مقابلاً له ، وإنما صار توضيحاً له - يعني لماذا بيع السابري في الظلال ؟ لأنَّ هذا غش - فهذا توضيح له وهو لأنه مظنة لستر العيوب لا أنه يصير وجهاً في مقابله كما توحي به العبارة.

الأدب الخامس:- يكره الربح على المؤمن زائداً عن مقدار الحاجة.

وقد اختلفت عبارات الفقهاء في بيان هذا الحكم - يعني في أخذ القيود في هذا الحكم وأنه بم نقيّد الكراهة - ؟ وسبب اختلافهم هو الروايات فإنها على طوائف أربع:-

الطائفة الأولى:- ما دل على أنَّ الربح على المؤمن ربا ، وهو رواية فرات بن احنف ، والتي رواها البرقي في محاسنه[2] عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( ربح المؤمن على المؤمن ربا )[3] ، كما راها الشيخ الصدوق(قده) في عقاب الأعمال بسند ينتهي إلى فرات بن أحنف أيضاً ولكن بهذه الصورة:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام:- ربح المؤمن ربا )[4] ، يعني ليس فيها عبارة ( على المؤمن ) ، وهنا يحصل ظنّ بل الاطمئنان بأنهما واحدة لأنَّ الراوي وحد والراوي عن الراوي واحد أيضاً حيث إنَّ الراوي هو محمد بن سنان عن فرات بن أحنف في كلتا الروايتين.

الطائفة الثانية:- ما دل على أنَّ الربح على المؤمن حرام في زمان ظهور الامام القائم عجل الله تعالى فرجه ، وهو ما وراه محمد بن علي بن الحسين الصدوق بإسناده عن أبي الحسين محمد بن جعفر السدي عن موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي عن علي بن سالم عن أبيه[5] في حديث قال:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخبر الذي روي أنَّ ربح المؤمن على المؤمن ربا ما هو ؟ فقال:- ذاك إذا ظهر الحق وقام قائمنا أهل البيت فأما اليوم فلا بأس بأن تبيع من الأخ المؤمن وتربح عليه )[6] .

الطائفة الثالثة:- ما دل على أنه إذا فرض أن الشراء كان أكثر من مائة درهم فاربح عليه ، أو بلسان ( إذا كان للتجارة فاربح عليه بمقدار حاجتك ) ، وهي رواية واحدة تجمع بين هذين ، وهي ما رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن اسماعيل بن بزيع عن صالح بن عقبة عن سليمان بن صالح وأبي شبل جميعاً عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( ربح المؤمن على المؤمن ربا إلا أن يشتري بأكثر من مائة درهم فاربح عليه قوت يومك أو يشتريه للتجارة فاربحوا عليهم وأرفقوا بهم )[7] .

فإذن هذه الرواية دلت على أنَّ الربح على المؤمن يكون رِباً ويكون حراماً فيما إذا لم يشتر بأكثر من مائة درهم أو لم يشتر للتجارة أما في هذين فيجوز الربح عليه ، ولكن ما مقادر الربح عليه فهل يكون بمقدار قوت اليوم أو بمقدار الحاجة ؟ قد فصّلت الرواية في ذلك بين ما إذا كان للتجارة وبين ما إذا كان أكثر من مائة درهم.

الطائفة الرابعة:- رواية ميسر[8] ، قال:- ( قلت لأبي جعفر عليه السلام:- إنَّ عامة من يأتيني اخواني فحُدَّ لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلى غيره ؟ فقال:- إن ولّيت[9] أخاك فحسنٌ وإلا فبعه بيع البصير المداق )[10] .

إنها دلت على أنَّ المرحلة الأولى هي أنه من الراجح أن تبيعه بيع التولية - أي من دون ربح - وإلا إذا أردت الربح فبعه بيع البصير المداق بناءً على أنَّ الاضافة إلى المفعول وليس إلى الفاعل ، لأنه إذا صارت الاضافة إلى الفاعل فسوف يكون المعنى هو أنك صِر بصيراً مداقاً ، وإذا كان هذا هو المقصود فحينئذٍ سوف تبيعه بالربح الأكثر ، ولكن هذ ليس مقصوداً ، وأما إذا قلنا إنَّ الاضافة من باب المفعول يعني بعه كبيعٍ على شخص دقيق وذكي فحينئذٍ سوف يصير الربح أقل ، فنحن فسّرها من باب الاضافة إلى المفعول ولعلّ هذا هو الراجح ، لأنه لا يحتمل أنَّ يكون المقصود هو الأول فإنه لعلّه من ذوق الشريعة يكون هذا بعيداً ، فلعل الثاني يكون هو الأرجح ، وسوف تصير النتيجة هي أنه من المناسب حينما تبيع على المؤمن أن لا تربح عليه وإذا كنت تريد الربح فاربح عليه ربحاً قليلاً.

وماذا نصنع لهذه الطوائف ؟

أما الطائفة الأولى:- فلابد من حملها على بعض المحامل ، لأنه لا يحتمل فقيه أنَّ الربح رباً محرّم وإلا يلزم في البلدة المؤمنة أن يترك الشخص التجارة ويغلق حانوته ، فإذن لابد من توجيهها إما بحملها على زمان الامام القائم عليه السلام بقرينة الطائفة الثانية ، لأنَّ الطائفة الثانية ناظرة إلى الطائفة الأولى لأنَّ السائل يقول للإمام إنَّ الخبر الذي يقول ( ربح المؤمن على المؤمن حرام كيف هو ؟ ) فقال له الامام عليه السلام إنَّ هذا في زمان حضور القائم عليه السلام ، فعلى هذا الأساس تكون الطائفة الثانية مفسّرة للطائفة الأولى ، فلا تعود عندنا مشكلة[11] .

أو أن نحملها على أنَّ المقصود من ( ربح المؤمن على المؤمن حرام ) هو الكناية عن الربا ، يعني أنَّ خصوص البيع الربوي هو الحرام لا مطلق البيع مع الربح ، وهذا احتمال وجيه ، ولكن إذا وجد ما يدعمه فسوف يصير أوجه وإلا فهو مجرّد احتمال.


[2] ونحن الآن نغض النظر عن السند لأن هذه احكام كراهتية لأن الكراهة يكفي فيها ولو السند الضعيف على مستوى العمل وليس على مستوى الفتوى.
[5] والسند ليس بمهم.
[8] وقد قرأنا هذه الرواية في رجحان التسوية بين المتبايعين من دون أن يفرّق بينهما لأجل المماكسة فهناك بمناسبة ذكرنا هذه الرواية.
[9] اي بعته بيع التولية اي بالمساوي.
[11] ولكن يبقى سؤال خارج عن موضوعنا:- وهو أنه لماذا اتبع أئمتنا عليهم السلام هذه الطريقة ؟ يعني أنهم يأتون بألفاظ مطلقة لا يمكن الالتزام بالإطلاق فيها مثل ( ربح المؤمن على المؤمن ربا ) فإنَّ هكذا استعمال لا نقوم به نحن في استعمالاتنا لكن الأئمة عليهم السلام كانوا يفعلون ذلك وكان متداولاً عندهم فما هو سببه ؟ والجواب:- إني أريد أن أقول إنَّ هذا واقع موجود كالمطلقات والمقيدات فإنَّ ظاهرة المطلقات والمقيدات موجودة عندنا وهم يصرّحون بأنَّ في كلامنا ناسخاً ومنسوخاً ومطلقاً ومقيداً وغير ذلك، ولكن هل لأجل تدريجية التشريع ؟ أو لأجل أنه حتى تبقى الحاجة بالرجوع إلى الامام عليه السلام ؟ أو لغير ذلك ؟، إنك كيف تفسّر هذه الظاهرة ليس مهماً لي، ولكني أريد التأكيد على أنه يوجد في كلماتهم هذه الظاهرة، مثل هذه الرواية ( ربح المؤمن على المؤمن ربا ) فلذلك سأل الراوي من الامام عليه السلام بأنَّ هذا كيف يصير فأجابه الامام عيله السلام بأنَّ هذا يكون في زمان ظهور القائم عليه السلام، فحتماً توجد نكتة لذلك فإنَّ عرفناها ولو على سبيل الاحتمال فبها وإن لم نعرفها فهذا ليس بمهم لنا وإنما يلزم علينا الخضوع والتسليم ويكون هذا هو الأصل الأوّلي لنا كما هو واضح.