34-07-22


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/07/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- الواجب الخامس من واجبات حج التمتع - وهو الثاني من أعمال منى في اليوم العاشر- ( الذبح أو النحر في منى ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 الرواية الثانية:- صحيحة معاوية بن عمار الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( رجل نسي أن يذبح بمنى حتى زار البيت فاشترى بمكة ثم ذبح ، قال:- لا بأس قد أجزأ عنه ) [1] بتقريب أنها قد دلّت على أن الناسي للذبح في منى لو اشترى هدياً في مكة وذبحه فيها أجزأ وهذا لازمه أن الذبح لا يتعيّن أن يكون في منى بل يجوز في مكة أيضاً.
 وفيه:-
 أوّلاً:- إنها واردة في مورد خاص - أعني الناسي - ولعلّ هذا حكمٌ يختص به فمن نسي يجب أن يذبح في مكة المكرّمة أما الملتفت فلا يمكن أن نسرِّي إليه هذا الحكم واحتمال الخصوصيّة موجودٌ فلا معنى آنذاك للتعدّي.
 وثانياً:- إن الرواية هي من الأساس لم تدلّ على أن هذا الشخص الناسي قد ذبح في مكّة وإنما هو قد اشترى الهدي في مكة أمّا أين ذبحه ؟ تلك قضيّة مسكوتٌ عنها ولعلّه أحال على ما هو المعهود - يعني ذبح في منى -.
 وإذا قلت:- إذن فلماذا سأل مادام الذبح صار في منى وقد تحقق فيها فلا مشكلة إذن فلماذا سأل ؟
 كان الجواب:- إنه حصل تقديم وتأخير لأنه قد أتى بأعمال مكّة مثل الطواف والسعي قبل أن يذبح فالمشكلة التي يسأل عنها يحتمل أنها من هذه الناحية وأنه ناظر إلى ذلك بعد فراغه عن كون الذبح في منى ، وعليه فمن هذه الناحية لا يمكن التمسك بهذه الرواية لإثبات إجزاء الذبح في مكة.
 الرواية الثالثة:- صحيحة اسحاق بن عمار:- ( إن عبّاد البصري جاء إلى أبي عبد الله عليه السلام وقد دخل مكة بعمرة مبتولة [2] وأهدى هدياً فأمر به فنحر في منزله بمكة فقال له عبّاد نحرت الهدي في منزلك وتركت أن تنحره بفناء الكعبة [3] وأنت رجل يؤخذ منك ؟ فقال له:- ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله نحر هدية بمنى في المنحر وأمر الناس فنحروا في منازلهم وكان ذلك موسّعاً عليهم فكذلك هو موسّع على من ينحر الهدي بمكة في منزله إذا كان معتمراً ) [4] فإنه قد يدّعى دلالتها على جواز الذبح في مكّة بل وفي المنزل وليس في خصوص فناء الكعبة . إذن بمقتضى هذه الرواية تكون مكة كلها منحر فيجوز الذبح فيها.
 والجواب واضح:- فإنها ناظرة إلى الهدي المستحب إذ في العمرة لا يوجد هديٌ واجب فالهدي المذكور هو هديٌ مستحب وقد يوسَّع في المستحبِّ ما لا يوسَّع في غيره . إذن غاية ما تدلّ عليه هذه الرواية هو أنه في الهدي المستحبّ يجوز ذبحه في مكّة وليس في خصوص فناء الكعبة بل في المنزل فإن ذلك موسَّع ، وعليه فهي أجنبية عن المقام.
 والخلاصة من كل هذا:- إن الوجه في تعيّن الذبح في منى هو الأدلة الثلاثة السابقة التي أشرنا إليها ويؤيد ذلك الروايات الثلاث التي أشرنا إليها سابقاً وأما هذه الروايات الثلاث الأخيرة فلا تصلح للمعارضة.
 النقطة السادسة:- بعد أن عرفنا تعيّن ذبح الهدي الواجب في منى نسأل أنه إذا تعذّر الذبح فيها كما هو الحال في زماننا حيث لا يمكن ذلك وصار المذبح في وادي محسِّر فما هو الحكم ؟
 فصّل(قده) بين حالتين بين ما إذا لم يمكن الذبح في منى على مدى خط الزمان - يعني في جميع ذي الحجّة - بحيث لو أراد أن ينتظر إلى اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع يكون الأمر كذلك - يعني يتعذر الذبح - وبين حالة ما إذا أمكن الذبح فيها إذا تأخر إلى اليوم الثاني أو الثالث - يعني بحيث تمكن أن يذبحه في شهر ذي الحجّة في منى [5] - فذكر(قده) أنه إذا كان التعذّر مستمراً فيذبح في المذبح الفعلي بوادي محسِّر ويجزئ ذلك من دون إشكال ويأتي بالأعمال بعد ذلك كاملةً كما لو كان قد ذبح في منى.
 واستدل(قده) على ذلك بما حاصله:- أنه يوجد عندنا نحوان من الأدلة:-
 الأول:- ما دلّ على لزوم الهدي وأنه واجبٌ على المتمتع وهذا يوجد له اطلاق فإنه لم يخصص بحالة دون أخرى كما سوف نلاحظ.
 والثاني:- ما دلّ على أن الذبح يلزم أن يكون في منى.
 وإذا لاحظنا النحو الثاني لم نجد فيه اطلاقاً بل غاية ما يدلّ عليه هو أن الذبح لازمٌ في منى عند القدرة وأما مع عدمها فلا دلالة له على تعيّن منى . إذن هو خاصّ بحالة القدرة.
 وبعد هذا نقول:- مادام قد تعذّر امتثال النحو الثاني من الأدلة - يعني لم يمكن الذبح في منى - فيسقط هذا الوجوب لأنه وجوبٌ مشروطٌ بالقدرة أو القدر المتيقن منه القدرة وحيث لا قدرة فيسقط وجوب الذبح في منى ولكن يبقى الأمر الأوّل على حاله ولازم ذلك وجوب ذبح الهدي ولكن من دون تعيّنٍ أن يكون في منى بل يجوز في أي موضعٍ آخر ومن أحد مصاديق الموضع الآخر هو وادي محسِّر فيجوز الذبح فيه من باب أنه يجوز الذبح في أي مكانٍ أمكن وهو من أحد المصاديق ذلك.
 يبقى من حقنّا أن نسأل عن تلك الأدلة من النحو الأوّل والأدلة من النحو الثاني حتى نرى أن الأمر كما ذكر (قده) أو لا ؟
 أما بالنسبة إلى النحو الأول من الأدلة فقد ذكر آيتين كريمتين ورواية:-
 أما الآيتان الكريمتان فهما:-
 الآية الأولى:- ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) [6] فإنها دلت على أن المتمتع إذا لم يكن محصوراً فيلزمه ما استيسر من الهدي وهي مطلقة لم تعيّن مكاناً .
 الآية الثانية:- ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فأذكروا اسم الله عليها صوافّ فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) [7] فإنها دلّت على وجوب الهدي أيضاً باعتبار أنها جعلت البدن من شعائر الله - يعني من أعلام الدين - وهذه مطلقة كسابقتها.
 وأما الرواية:- فهي صحيحة زرارة:- ( في المتمتع:- وعليه الهدي ، قلت وما الهدي ؟ قال:- ... ) [8] فإنها دلّت على وجوب الهدي حيث قالت ( وعليه الهدي ) وكلمة ( عليه ) يستفاد منها الإلزام عرفاً وهي مطلقة أيضاً.
 وأما النحو الثاني من الأدلة فقد ذكر روايتين:-
 الرواية الأولى:- صحيحة منصور المتقدمة عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( رجل يضلّ هديه فيجده رجل آخر فينحره ، فقال:- إن كان نحره بمنى فقد أجزأ عن صاحبه الذي ضلّ عنه وإن كان في غير منى لم يجئ عن صاحبه ) [9] ، وهي قد دلت على لزوم الذبح في منى ، ولكن لا يوجد فيها اطلاق فإنها لم تُسَق لبيان الذبح في منى فلو كان عليه السلام يقول ( عليه الذبح في منى ) أمكن أن نستفيد منها الاطلاق حيث نقول إنه لم يقيّد بحالة الإمكان فيتضح أن ذلك شرطٌ مطلقٌ وإنما سُئِل عمّن فقد هديه وذبحه شخص آخر وأجاب عليه السلام بأنه مادام في منى فيجزئ وإذا لم يكن في منى فلا يجزئ وحكم الامام عليه السلام بذلك هو من باب أنه في تلك الفترة كان يمكن الذبح في منى . إذن لا يمكن أن نستفيد من هذه الرواية أن الذبح شرط لازم مطلقاً حتى يلزم من ذلك سقوط أصل الذبح حينئذٍ ويكون ليس بلازمٍ لأن المطلوب هو الذبح في منى فإذا لم يمكن فيسقط آنذاك أصل الذبح ، كلا إنه لا يستفاد منها ذلك بل قلنا إن القدر المتيقن هو حالة القدرة فيبقى إطلاق ذلك الدليل - أي النحو الأوّل - على حاله فنأخذ به.
 الرواية الثانية:- موثقة زرعة المفسِّرة للآية الكريمة:- ( سالته عن رجل أحْصِرَ في الحج ، قال:- فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه ومحلّه أن يبلغ الهدي محلّه ومحلّه منى يوم النحر إذا كان في الحجّ وإن كان في عمرة نحر بمكة ) [10] وهي قد دلّت على لزوم الذبح في منى ، ولكن لا يوجد فيها اطلاق فإنها ناظرة إلى الرجل المحصور وأنه متى ما وصل الهدي إلى المحلّ تحلّل هذا المحصور والمحلّ هو عبارة عن منى أما أن هذا محلٌّ مطلقاً أو فقط في حالة القدرة فالإمام ليس في مقام البيان من هذه الناحية فلا يمكن آنذاك التمسك بالإطلاق فنقتصر على شرطيّة هذا الشرط - أعني الذبح في منى - على حالة القدرة وأما في حالة عدم القدرة فنتمسك بإطلاق النحو الأوَّل من الأدلة.
 والخلاصة:- إنه مادام يوجد لدينا دليلان أحدهما يدل على لزوم الهدي والآخر يدلّ على أن هذا الهدي يلزم ذبحه في منى وهذا النحو الثاني حيث إنه لا اطلاق فيه فتنمسك في حالة عدم القدرة على الذبح في منى بإطلاق الدليل الأوّل . وهذا منه(قده) تطبيق للقاعدة الأصوليّة وهي أنه كلما كان عندنا دليلان أحدهما مطلق والآخر مقيِّد له فنقتصر في تقييده بحالة القدر المتيقن ويعود الاطلاق مرجعاً في غير حالة القدر المتيقن كما لو فرض أنه قال ( أكرم كل فقير ) وبعد ذلك قال ( لا تكرم الفقير الفاسق ) وشك في أن الفاسق هل يراد به من ارتكب الكبيرة فقط أو يعمّ من ارتكب الصغيرة أيضاً ؟ إنه هنا نجزم بالتقييد بلحاظ فاعل الكبيرة ففاعل الكبيرة خرج من ذلك العام أو المطلق جزماً فلا يجوز التمسّك بذلك العام أو المطلق وأما فاعل الصغيرة فيشك في خروجه من ذلك الاطلاق - يعني المورد يكون من موارد الشك في أصل التكليف - فنتمسك آنذاك بإطلاق ذلك المطلق وتكون النتيجة هي أنه يجب الهدي ويجزي ذبحه في أي مكان شاء.
 ومن هنا يمكن أن ننسب إليه(قده) - وإن لم يصرح هو بذلك - أنه يرى جواز الذبح في أهله - أي في النجف الأشرف مثلاً - لأن نتيجة كلامه هو هذا لأن الدليل الثاني الذي يقول يجب الذبح في منى القدر المتيقن منه حالة القدرة وهذا المكلف ليست لديه القدرة الآن فيبقى الدليل الأوّل وهو مطلق فيجزئ الذبح في أي موضعٍ شاء.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص156، ب39من ابواب الذبح، ح5، آل البيت.
[2] أي مفردة.
[3] هناك منطقة يسمونها ( الحَزْوَرَة ) مقابل الكعبة كان يذبح فيها الهدي.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج13، ص99، ب52 من كفارات الصيد، ح1، آل البيت.
[5] وواضح أن الحالة المهمة هي الأولى لأن الواقع الخارجي هو ذلك - يعني ان التعذر تعذر مستمر وليس مؤقتاً.
[6] سورة البقرة، الآية196.
[7] سورة الحج، الآية36.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص101، ب10 من أبواب الذبح، ح5، آل البيت.
[9] وسائل الشيعة ، الحر العاملي، ج14 ، ص137، ب28 من أبواب الذبح، ح2، آل البيت.
[10] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج13، ص182، ب2 من أبواب الاحصار والصد، ح2، آل البيت.