21-06-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/06/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- المبيت بمنى.
ثم إنه هل المقصود من اتقاء النساء خصوص الجماع أو كلّ محرم يرتبط بهنَّ ؟ وهذا السؤال قد طرحناه في اتقاء الصيد أيضاً وأن المقصود هل هو خصوص قتل الصيد أو الأعم من ذلك ؟ وذكرنا هناك أن التقييد يحتاج إلى دليلٍ فالمناسب هو العموم تمسّكاً بظاهر اللفظ، وهذا الكلام نفسه يأتي هنا فإن التقييد يحتاج إلى دليل.
أجل قد يقول قائل:- إن هناك انصرافاً في كلا الموردين، فحينما يقال لا يجب المبيت في ليلة الثالث عشر لمن لم يتّق الصيد وإذا اتقى جاز له النفر الأوّل فالمنصرف يعني قتل الصيد، وهكذا في هذا الموضع فالمقصود هو اتقاء مجامعة النساء، ودعوى الانصراف شيءٌ ليس بالبعيد، وعلى هذا الأساس المناسب أن يكون المصير في التعميم ليس على سبيل الفتوى بل على سبيل الاحتياط الوجوبي.
من لم يتّق المحرمات الأخرى:-
إذا فرض أن الحاج اتقى الصيد والنساء ولكن لم يتّق بعض المحرمات الأخرى للإحرام كالنظر في المرآة أو كإزالة الشعر أو كالتظليل أو ما شاكل ذلك فهل يجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر كمن لم يتّق النساء والصيد ؟
والجواب:- هناك أقوالٌ أربعة في هذا المجال:-
القول الأوّل:- الجواب الايجاب وأنَّ من لم يتّق أحد محرمات الاحرام لا يجوز له النفر الأوّل، وقد نسبه في الجواهر[1] إلى ابن سعيد . وما هو المستند في ذلك ؟ إنه أحد أمرين إمّا الرواية أو اطلاق الآية الكريمة.
أما اطلاق الآية بأن يقال:- إن مقتضى إطلاق قوله تعالى ( لمن اتقى ) هو الشمول والسعة لاتقاء جميع محرّمات الاحرام فالآية دلّت على أن من تعجّل في يومين ومن لم يتجّعل لا محذور لكن لمن اتقى فلا محذور لمن اتقى ولم تقيّد بمن لم يتّق الصيد أو النساء فنأخذ بسعتها فتشمل جميع محرّمات الاحرام.
وجوابه:- إنه إذا أردنا أن نأخذ بإطلاق الآية فالمناسب أن نفسّر الآية بما هو أوسع من ذلك، يعني بأن يكون المقصود هو لمن اتقى الله عز وجل فإنها لم تقيّد لمن اتقاه في الحج ففي الحج وفي الاحرام ليست مذكورة فالتخيير إذن ثابتٌ لمن اتقى الله يعني مطلقاً بأن يفترض أنه لا يستغيب ولا يكذب ولا يسرق ولم يرتكب أيّ محرم يعني العادل في مصطلحنا، فالمتقي هو العادل الذي لم يرتكب أيّ ذنب من الذنوب، فإذا كان البناء على التمسّك بالإطلاق فالمناسب أن يكون الاطلاق بهذا الشكل فإن الآية لم تقيّد ولم تقل ( لمن اتقى الله في إحرامه ) بل قالت ( لمن اتقى ) وهذا مطلقٌ فحينئذٍ يلزم أن يلتزم ابن سعيد بأن المدار على تقوى الله وترك المحرّمات أيّ محرّمٍ كان بما في ذلك الكذب وغيره لا خصوص محرّمات الاحرام، وحيث إن هذا المعنى الوسيع لا يحتمل في حقّ فقيهٍ ان يلتزم به لأن لازمه أن جميع الحجيج لا يكونون مشمولين لذلك لأن المتّقي بهذا المعنى - أيّ الذي يكون عادلاً ولم يرتكب أي ذنب من الذنوب - من اين تأتي به ؟! إن هذا غير محتمل في حدّ نفسه، فعلى هذا الأساس الاطلاق بعرضه العريض كما يقتضيه ظاهر اللفظ لا يحتمل أن يكون مراداً، والاطلاق بالدرجة الثانية ليس هو ظاهر اللفظ حتى يصار إليه وتبقى جميع المراتب محتملة فيصير اللفظ مجملاً ويلزم آنذاك الاقتصار على القدر المتيقّن أعني من اتقى خصوص الصيد مثلاً، فالمناسب أن يكون الأمر كذلك لا أنّ المدار على من اتقى محرّمات الاحرام.
بل حتّى إرادة المتّقي في محرّمات الاحرام أيضاً يلزم منه تخصيص الكثير لأنه في كثيرٍ من الاحيان المحرم يرتكب ما يرتكب من محرّمات، فهذا الكلام يرد عليهم أيضاً يعني قد يقال إن إرادته أيضاً هي مستبعدة لأن المحرم عادةً يرتكب بعض المحرمات كالنظر في المرآة أو الجدال أو ما شاكل ذلك فهذه تتحقّق فيلزم استثناء الكثير الذي هو بعيدٌ أيضاً.
وأمّا الرواية:- فهناك رواية لسلام بن المستنير التي رواها الشيخ الصدوق بإسناده إلى ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال:- ( لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم عليه في إحرامه )[2]، ودلالة الرواية المذكورة واضحة حيث قال عليه السلام ( وما حرّم عليه في احرامه )، والمقصود من قوله ( لمن اتقى الرفث ... ) لا يبعد أنه تفسير لـعبارة ( لمن اتقى ) الواردة في الآية الكريمة وقد فسّر بها العموم أي بإرادة ما حرّم عليه بإحرامه.
ولكن المشكلة في السند فإن سلام بن المستنير لم يذكر في كتب الرجال أيضاً، نعم هو قد ورد في تفسير القمّي فبناءً على وثاقة كلّ من ورد في التفسير المذكور تثبت وثاقته، ولكن نحن لا نبني على ذلك، والوجه في عدم بنائنا على وثاقة كلّ من ورد في تفسير القمّي ليس هو أن العبارة التي ذكرت في المقدّمة - أعني قوله ( ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي الينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم وأوجب ولايتهم ) - لم يثبت أنها من القمّي(قده) بتقريب أنه ذكر في هذه المقدّمة عبارة أخرى توحي بأن المقدمة ليست بأجمعها إلى القمّي حيث جاء في اثنائها هكذا:- ( قال أبو الحسن علي بن ابراهيم الهاشمي القمي فالقرآن منه ناسخ منه منسوخ .. )، إن هذه العبارة ربما تدلّ على أن ما سبق من كلامٍ - ويحتمل ذلك وجيهاً ولا نجزم به - لم يكن للقمّي وإنما الكلام الذي هو للقمي في المقدّمة يشرع من عبارة ( قال أبو الحسن )، وحيث أن العبارة المهمّة التي هي محلّ بحثنا - أعني ( ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي .. ) - هي قد ذكرت قبلُ فإذن لا مثبت لكون العبارة المذكورة هي جزء من كلام علي بن إبراهيم ولعلها جزءٌ من كلام ذلك الشخص الذي يتكلّم والذي لا نعرفه ولعلّه تلميذ عليّ بن إبراهيم، وعلى هذا الأساس هذه العبارة المذكورة في المقدّمة يصعب الركون إليها من هذه الناحية التي ذكرناها، هكذا قد يتوهّم.
ونحن نقول:- إنَّ توقّفنا ليس من هذه الناحية فإن هذه الناحية يمكن التغلّب عليها باعتبار أن صاحب الوسائل(قده) له طريقٌ إلى تفسير القمّي وهو طريقٌ معتبرٌ وقد ذكر هذه العبارة بالسند الذي ينتهي إلى القمّي، فصاحب الوسائل ذكر هذه العبارة وتمسّك بها لإثبات وثاقة الكتاب المذكور والاعتماد عليه . إذن بعد وجود طريقٍ معتبرٍ إلى القمّي والقمّي من خلال هذا الطريق ينقل تلك العبارة المهمّة فلا مشكلة من هذه الناحية.
ولكنّي استدرك وأقول:- إن هذا الذي ذكرته يتمّ بناءً على أن طرق صاحب الوسائل معتبرة، يعني أنها طرق إلى النسخة وليست طرقاً إلى نفس الكتاب، وأمّا إذا كانت إلى أصل علي بن إبراهيم دون هذه النسخة فقد يشكل الأمر من هذه الناحية.
إنّا نتجاوز عن هذه القضيّة ونقول:- نحن لا نريد أن نشكك من هذه الناحية في تفسير القمّي وإنما نشكك فيه من ناحية أنه لو رجعنا إليه لوجدنا بعض التعابير التي تشير إلى أنّ التفسير المذكور خليطٌ من كلام القمّي وغيره حيث يقول في مواضع متعددة:- ( رجعٌ إلى تفسير علي بن ابراهيم )، أو يقول في بعض الموارد الأخرى:- ( رجعٌ الى رواية علي بن ابراهيم )، وفي مورد ثالث يقول:- ( رجع الحديث إلى عليّ بن ابراهيم )، وفي مورد رابع يقول:- ( في رواية علي بن ابراهيم )، إنّ هذه التعابير توجب التشكيك وأن هذا الكتاب ليس المتكلم فيه هو علي بن ابراهيم فقط وإلا فما معنى هذه التعابير ؟! فيحصل حينئذٍ علمٌ إجماليٌّ بوجود زيادات فيه، أمّا ما هي تلك الزيادات ؟ إنه لا يمكن تشخيصها فيسقط الجميع آنذاك عن الاعتبار . مضافا إلى ما أشرنا إليه أكثر من مرّة من أنّ علي بن إبراهيم نسلّم أن له كتاباً معتبرا أو للنجاشي والشيخ الطوسي وغيرهما طريق معتبر إليه ولكن من قال إنّ هذا الكتاب المتداول بأيدينا هو عين ذلك ؟ فلعلّه مغايرٌ بعض المغايرة لذلك الكتاب وإذا لم يحصل اطمئنانٌ بالوحدة وأنه عين ذلك الكتاب فكيف نعتمد عليه ؟!!، وهذه الشبهة كما قلنا لا ترد في مثل الكتب الأربعة وما شاكلها لأن الجهود والأنظار كانت متوجهة إليها منذ ذلك الزمن وإلى يومنا هذا فالجميع ينظر في هذه الكتب الأربعة فلو كانت هناك أدنى مغايرة لبانت واتضحت لأنها محطّ الأنظار، وهذا بخلاف تفسير القمّي فإنه ليس محطّ الأنظار.
وعلى أيّ حال يشكل الاعتماد على الكتاب المذكور بعد التسليم أنّ القمّي له مثل الكتاب المذكور إلا أن الرجال الموجودين وأنهم حقّاً مذكورين في تفسير القمي فهذا أوّل الكلام، فمن قال إنّ هؤلاء ذكروا فيه ؟ فلعلّهم ذكروا زيادةً ولم يذكروا في تفسير القمّي.
وبهذا اتضح أنّ القول الأوّل محلّ مناقشة من حيث الآية والرواية.
القول الثاني:- ما نقله في الجواهر[3] أيضاً عن ابن إدريس من أن المدار هو على ارتكاب أيّ محرّم من محرّمات الاحرام بشرط أن يكون عليه كفّارة، فالمدار على محرّمات الاحرام التي ثبت على مخالفتها الكفارة.
والإشكال عليه واضحٌ:- فإنه لا دليل على ذلك.
القول الثالث:- ما نقله في الجواهر ايضاً[4] عن الغنية والكافي من أن الصرورة كغير المتّقي، يعني من لم يتّق فيجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر والذي يحج صرورةً أيضاً حكمه ذلك - يعني يجب عليه المبيت -، وقال صاحب الجواهر ( لا أعرف شاهداً له ) . والأمر واضح.
ولعله يمكن أن نضيف:- بأن الروايات السابقة شاهدٌ على الخلاف، والآية الكريمة أيضاً شاهد على الخلاف، لأن الآية قيّدت بمن اتقى، كما لا توجد رواية ضعيفة تدلّ على ذلك، فمن أين جئتم بقيد الصرورة ؟!! إنه غريب.
الرأي الرابع:- ما يلوح من الشيخ النائيني(قده) فإنه ذكر في متن دليل الناسك من أن :- ( الأولى بل الأحوط أن كلّ من اقترف كبيرةً من الكبائر ولو لم تكن من محرّمات الاحرام لا ينفر النفر الأوّل )[5].
وكأنه أخذ بإطلاق الآية الكريمة ولكن لا بشكلٍ كاملٍ إذ هي لم تقيّد بالكبيرة وهو قيّد بها فلو صار البناء على الأخذ بإطلاق الآية الكريمة فالمناسب أنّ من اقترف كبيرةً أو صغيرةً لا يجوز له النفر الأوّل فلماذا يقيّده بالكبيرة ؟!!
وعلى أيّ حال هو لم يصر إلى ذلك بنحو الفتوى ولا الاحتياط الوجوبي وإنما هو مجرد أولويّة واحتياط استحبابي . نعم هو يحتاج إلى شاهدٍ وكما قلنا إنّ الشاهد على خلافه فيلزم أن لا يبقى حينئذٍ مصداقٌ للآية الكريمة فإن من اتقى إما أن يبقى بلا مصداقٍ أو أن المصداق نادر.
النقطة الخامسة:- وهي تشتمل على أحكام ثلاثةٍ وهي إن من اتّقى يجوز له أن ينفر في اليوم الثاني عشر ولكن بعد الزوال لا قبله، والحكم الثاني هو أن من لم يتّقِ ووجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر لا يلزم أن ينفر بعد زوال اليوم الثالث عشر بل يجوز له أن ينفر قبل الزوال أيضاً، والحكم الثالث هو أنّ من لم ينفر النفر الأوّل وتساهل إلى أن حلّ عليه المساء وجب عليه المبيت فيصير حكمه حكم من لم يتّقِ فليزمه المبيت.


[1]  جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج20، ص36.
[3]  جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج20، ص36.
[4]  جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج20، ص20.