12-07-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/07/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-مسألة ( 428 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
هذا وقد يستدل على جواز مبيت الطبيب في غير منى بالروايتين التاليتين:-
الرواية الأولى:- ما رواه مالك بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام:- ( إنّ العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله أن يبيت في مكة ليالي منى فإذِنَ له من أجل سقاية الحاج )[1]، بتقريب:- أنّه صلى الله عليه وآله قد أَذِنَ له وعلّل بأنَّ ذلك من أجل سقاية الحاج، وحينئذٍ نتعدّى إلى الطبيب لعدم الخصوصيّة فإن سقاية الحاج قد أَذِنَ بها النبي صلى الله عليه وآله من باب حاجة الحجيج لذلك ومعلومٌ أنّهم كما يحتاجون إلى من يسقيهم كذلك يحتاجون إلى من يطبّبهم . إذن لا نحتمل الخصوصية لسقاية الحاج من هذه الناحية فالتعدّي إلى الطبيب يكون شيئاً وجيهاً.
والسيد الخوئي(قده) في مسألة أخرى لا ربط لها بمسألتنا - وهي مسألة أنَّ الساقة - ذكر هذه الرواية وقال إنّه قد يتمسّك بها على أنّ من يسقي الحجيج جاز له ذلك وهو مستثنى من وجوب المبيت بمنى[2].
وأشكل عليها:- بأنها قضيّة شخصيّة - أو بالأحرى ما نعبر عنه بأنها قضية في واقعة - ولا نعرف الملابسات، فلا يوجد كلامٌ مطلقٌ حتى نتمسّك به، فلعلّ هناك ملابسات خاصّة هي التي استدعت إِذنه صلى الله عليه وآله لعمّه العباس في أن يبقى في مكّة دون منى . نعم لو فرض أنّه لم يكن التعبير كما جاء في الرواية حيث إنّ الذي جاء فيها هكذا:- ( إنّ العباس استأذن الرسول فإذن له )، إنه لو كان التعبير ليس هكذا وإنما كان بعبارة ( أُذِنَ للسقاة ) أو ( أنَّ السقاة مرخّصون في ترك المبيت ) لأمكن أن نتمسّك بإطلاقه ونقول حينئذٍ كلّ من يسقي الحجيج يجوز له أن لا يبيت في منى، ولكنّ هذا إِذْنٌ لخصوص العبّاس ولعلّه لوجاهة العبّاس لأن سقاية الحاج كانت بيده أو غير ذلك ولا نعلم ما هي الملابسات، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستفيد أنّ كلّ من يسقي الحجيج هو مستثنىً من وجوب المبيت في منى، فهذه قضيّة واقعة لا يمكن التمسّك بإطلاقها . وقلت إنّ هذه المناقشة ذكرها(قده) في مسألة السقاة فإذا تمّت هناك فلا يمكن التعدّي بعد هذا إلى الطبيب إذ الحكم لم يثبت لكلّ ساقٍ حتى نتعدّى لهذا الطبيب وإنما الحكم ثبت لهذا الساقي وليس لكلّ السقاة حتى نلغي خصوصيّة السقي ونتعدّى إلى كلّ من يحتاج إليه الحجيج.
ولكن يمكن أن يدفع ذلك:- بأنَّه يوجد في الرواية تعبيرٌ يساعد على أنّ تمام الملاك هو السّقاية حيث قالت:- ( فأَذِنَ له من أجل سقاية الحاج )، فالإمام الباقر عليه السلام يقول ( فإذن له من أجل سقاية الحاج ) وهذا معناه أنّ تمام النكتة هي سقاية الحاج ولا توجد خصوصيّة لسقاية العبّاس بخصوصه . إذن هذا الاحتمال الذي أشار إليه(قده) منفيّ.
ولعلّ الأنسب أن يشكل بإشكالٍ آخر على التمسّك بهذه الرواية:- وهو أنّه من المحتمل أنّ هذا إِذْنٌ خاصٌّ صدر منه صلى الله عليه وآله فإنه صاحب الولاية وله الحقّ في أن يقول لشخصٍ أنت ابقِ ويقول للآخر أنت اذهب، لا يحقّ للطرف الآخر أن يعترض عليه ويقول يا رسول الله لماذا استثنيت هذا ولم تستثنني ؟ فإن هذا الاعتراض ممنوعٌ أيضاً لأن هذا الحق أعطاه الله تعالى له، إنّ هذا الاحتمال موجودٌ ومادام موجوداً فإذن هذا إِذْنٌ خاصٌّ لعمّه العبّاس ولا يتعدّى منه إلى كلّ من يحتاج إليه الحجيج في غير منى.
نعم قد أَذِنَ له كرامةً لمنزلته وأنّه صاحب الساقية أو لأنّه عمّه أو غير ذلك ولكن بالتالي هذا إِذْنٌ خاصٌّ، يعني أن الرسول صلى الله عليه وآله لا يريد أن يأذن لكلّ أحدٍ بل يأذن لخصوص العبّاس ونكتة الإذْنِ هي أنّه صاحب هذا المنصب، فحينئذٍ لا يمكن أن نستفيد من ذلك الشموليّة والتعدّي إلى كلّ صاحب سقايةٍ حتى نتعدّى إلى مقامنا - وهو الطبيب -.
هذا كلّه من حيث الدلالة.
يبقى الكلام من حيث السند حيث يمكن أن قال:- إنّ مالك بن أعين مردّد بين شخصين هما مالك بن أعين أخ زرارة بن أعين وهذا لم يرد في حقّه توثيق، وهناك مالك بن أعين الجهني وهو قد رود في أسانيد كامل الزيارات فإذا أريد البناء على توثيقه فلا بد وأن يكون من هذه الناحية بناءً على أنه الجهني، ولكن حيث لم يثبت هذا المبنى عندنا فعلى هذا الأساس تكون الرواية ساقطة سنداً.
الثانية:- صحيحة سعيد بن يسار :- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغلٍ، فقالك- لا بأس )[3]، بتقريب:- أنها تدلّ على أنه من كان له شغلٌ فالمبيت في حقّه ليس بلازمٍ، وحيث إنَّ الطبيب صاحب شغلٍ فلا يكون المبيت لازماً في حقّه.
والجواب:- إنَّ الإمام عليه السلام لم يقل ( من له شغلٌ فلا بأس أن لا يبيت في منى )، فلو كان يقول هكذا فيثبت بذلك أنّه الطبيب حيث أنَّ له شغلٌ فلا يلزمه المبيت بمنى، ولكن المفروض أنَّ السائل سأل وقال ( فاتتني عن شغلٍ ) فالسائل جاء يسأل بعدما فاته المبيت بمنى وانتهى وواضحٌ أنَّ من فاته المبيت وانتهى لا نقول له إنّ حجّك باطل بل نقول له لا بأس بذلك، فيحتمل أنّ يكون المقصود من ( لا بأس ) يعني لا بأس بعدما فاتك، يعني لا يتأثر ولا يتصدّع حجّك، وهذا إن لم يكن هو الظاهر فلا أقل من أنّ الرواية محتملة لإرادته - يعني ليس لها ظهور في معنىً معين - فتصير مجملة فلا يصحّ التمسّك بها.
هذا مضافاً إلى أنّ الوارد فيها هو ( فاتتني من شغلٍ ) وكلمة ( شغلٍ ) مطلقة وهل تحتمل أنّ كلّ شغلٍ هو يُجَوِّزُ ترك المبيت في منى، فلو فرضنا أنه كان لي بعض الأصدقاء موجودين في غير منى وكانوا يحبّون الجلوس معي فهذا شغلٌ فهل تلتزم بهذا وما شاكله ؟ فكلمة ( شغل ) مطلقة وتصدق على أدنى الشغل فهل نلتزم  بإطلاق الرواية ؟!!
فإذن لابد من توجيه الرواية وتأويلها، ولا تأويل أحسن ممّا أشرنا إليه وأنّ المقصود بعدما حصل الفوات بسبب شغلٍ ما لا يؤثر ذلك على حجّك لا أنّه يجوز لك أن تترك المبيت بمنى لأجل الشغل .
إذن هاتان الرويتان لا يمكن التمسّك بهما.
ولعل الأجدر التمسك بوجه ثالث وذلك بأن يقال:- إنّنا لا نحتمل أنّ الشرع لا يجيز للطبيب أن يترك المبيت في منى مع حاجة المرضى الماسّة إليه - يعني يقول له اترك المرضى واذهب إلى منى للمبيت فيها -، إنّنا لا نحتمل ذلك في حقّ الإسلام، بل يحصل لنا القطع أو الاطمئنان بأنه يجوّزُ له الإسلام ترك المبيت في منى - ولا أدري أنّ مثل هذا الدليل ماذا نصطلح عليه ؟ فهل نصطلح عليه بذوق الشريعة أو روح الإسلام أو غير ذلك ؟ إنّه لا تهمّنا التعابير ولعلّ ترك التعبير أولى فإن في بعض التعابير حساسية -، فمادام يحصل للفقيه قطعٌ بأنّ الإسلام لا يرضى بالمبيت في منى مع حاجة المرضى المؤمنين  إليه - الحجيج أو غيرهم - فهذا يكفي دليلاً على الجواز.
نعم هذا ليس مطلباً يمكن اثباته بالبرهان والدليل العلمي - يعني لا يمكن إقامة دليلٍ علميٍّ على أنّ الشارع يرضى - وإنما هو قضيّة وجدانيّة، فالفقيه الذي يحصل له هذا لقطع فحينئذٍ يسير على طبقه.
ويجدر الالتفات إلى أنّ هذا نحوٌ آخر من الاستدلال، فالاستدلال المتعارف هو أنه يستدلّ من الكتاب أو السّنّة أو الإجماع وهذا طريقٌ آخر وهو أن يقطع الفقيه بذلك.
ونظيره ما يقال في مسألة المحافظة على النظام فإنه لا يجوز الإخلال بالنظام بأن يفترض أن هذا يسحب الكهرباء بلا مجوّزٍ وذاك يفعل ذلك فهذا في الحقيقة يورث الفوضى وعدم التنظيم والناس لا يتمكّنون العيش كما يرام.
وهكذا حينما يأتي كلّ إنسان ويجلس في أرضٍ كيفما اتفق، إنّ هذا يورث الفوضى وهذا لا يجوز، فلذلك من حقّ الفقيه أن يمنع ويقول لا يجوز هذا، أمّا ما هو المدرك ؟ إنّه لا يوجد مدركٌ من الكتاب أو السنّة وإنما تمام المدرك هو أنّا نقطع بأن الإسلام لا يريد الفوضى بل يريد أن يعيش المؤمنون بهدوءٍ، أفهل تشكّ في ذلك ؟!! فإذا فرضنا أنّ شخصاً شكّ في ذلك فلا كلام لنا معه ولا ردّ لنا عليه سوى القطع فنقول له نحن نقطع ببطلان هذا أمّا أن نقيم دليلاً علمياً له فلا يوجد عندنا، فكما نقول في مسألة المحافظة على النظام أنّها لازمة فإنا نقطع بأن الإسلام يريد حياةً هادئةً لا هرج فيها ولا مرج كذلك شبيهه نقوله في المقام وهو أنّه لا نحتمل أنّ الإسلام يقول للطبيب ابقَ في منى واترك الناس رغم أنهم بحاجة ماسّة إليك - في المستشفى أو غيره - ولا يجوز لك أن تذهب إلى تطبيبهم، إنّ هذا شيءٌ غير محتمل . وقلت إن هذا ينفع من حصل له القطع أو الاطمئنان بذلك، أمّا من لم يحصل له ذلك فهذا لا ينفعه.
وعلى هذا الأساس نفتي بجواز أن لا يبيت الطبيب في منى لأجل هذه للنكتة ونقيّد بما إذا كانت هناك حاجة ماسّة إليه فيجوز له ترك المبيت بمنى، وليست النكتة هي كونه طبيباً بعنوانه وإنما النكتة هي الحاجة الماسّة إليه من قبل المرضى.
هذا كلّ حديثنا عن الطائفة الأولى فإنّا ذكرنا في البداية أنّ الذين استثني لهم جواز المبيت في غير منى طوائف أربع على ما ذكر السيد الماتن(قده) والطائفة الأولى كانت هي أصحاب العذر وتكلّمنا بالتبع عن الطبيب الذي يعالج أصحاب الأعذار.
الطائفة الثانية:- وأقصد بها من اشتغل تمام الليل بالعبادة في مكّة المكرّمة فإنّ مثله يجوز له ترك المبيت في منى .
ولعل المشهور هو ذلك، قال في الجواهر:- ( كما هو المشهور )[4]، وقال النراقي(قده):- ( عليه عامة المتأخرين )[5].
هذا وتوجد عبارة في الشرائع في هذا المجال حيث قال:- ( .... فلو بات بغيرها كان عليه عن كلّ ليلة شاةٌ إلّا أن يبيت بمكة مشتغلاً بالعبادة )، فقد يستشهد بقوله ( ألّا أن يبيت بمكة مشتغلا ًبالعبادة ) على أنّ صاحب الشرائع(قده) يجوّز ترك المبيت بمنى لمن اشتغل في مكة بالعبادة تمام الليل.
ولكن يمكن أن يقال:- إنّ هذه العبارة ناظرة إلى مسألة الكفّارة وليست ناظرة إلى مسألة جواز ترك المبيت ونحن كلامنا الآن ليس في مسألة الكفارة وإنما في مسألة الجواز التكليفي وعدمه.
وقد يستدلّ لذلك بالأولوية حيث يقال:- إنّه سوف يأتي في الصورة الثالثة أنّ من كان في منى وخرج منها بعد دخول الليل وذهب إلى مكّة مشتغلاً بالعبادة باقي ليليته جاز له الخروج وترك المبيت في منى، فإذا جاز هذا فبالأولى يجوز ذلك لمن اشتغل تمام ليلته بالعبادة في مكة، فإن اشتغل بالعبادة في مكة في شطرٍ من الليل - لأنَّ هذا قد خرج من منى إلى مكّة بعد دخول الليل ولعله يحتاج في طريقه إلى ساعةٍ أو ساعتين - فهو لم يشتغل بالعبادة من أوّل الليل حتى الفجر، فإذا جاز لهذا الخروج جاز في الصورة الثانية بالأولويّة حينئذٍ لأن تمام الليلة  هو يشغلها بالعبادة في مكة المكرّمة.
والجواب:- إنّ الأولويّة باطلة، وذلك لاحتمال أنّ التواجد في منى شطراً من الليل ولو بمقدار ربع ساعة أو أكثر أو أقلّ هو يسدُّ مسدَّ البقاء في مكّة تمام الليل، فمادامت هذه الخصوصيّة موجودة، فيحتمل أنَّ هذه الصفة لها خصوصيّة، وهذه الخصوصيّة مفقودة في حقّ من لا يكون في منى أوّل الليل وكان من أوّل الليل في مكّة، فمن كان أوّل الليل في مكّة لا يجزي منه ذلك ولا يجوز له، أمّا هذا فيجوز له لأنّه فعل شيئاً يسدُّ مسدَّ أيّ نقصانٍ وهو إنّه كان أوّل الليل موجوداً في منى . إذن هذه الأولويّة باطلة، بل لابد من توخي أدلةٍ ورواياتٍ أخرى.