13-07-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/07/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-مسألة ( 428 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
والأنسب التمسّك بالروايات التالية التي ثلاث منها لمعاوية بن عمّار:-
الرواية الأولى:- صحيحة معاوية بن عمّار قال:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر، فقال:- ليس عليه شيءٌ كان في طاعة الله عزّ وجل )[1]، وتقريب الدلالة:- أنّ هذا الإنسان الذي زار البيت وكان مشغولاً حتى طلع الفجر توجد فيه احتمالات ثلاثة، فيحتمل أنّه ذهب قبل الغروب بساعةٍ مثلاً واشتغل بالعبادة حتى طلوع الفجر، ويحتمل أنّ يكون المقصود أنّه ذهب من منى إلى مكة بعد الغروب بساعةٍ، ويحتمل أن يكون قد انشغل بالعبادة منذ بداية الغروب، والنافع لنا هو الاحتمال الثالث.
إن قلت:- إنّ الأول والثاني نافعان أيضاً.
قلت:- أمّا الأوّل فلعلّ التواجد قبل الغروب بساعةٍ للعبادة له تأثيرٌ فيكون نافعاً ومجدياً دون التواجد من الغروب، فلا يمكن أن ننتفع من هذا الاحتمال، وهكذا الاحتمال الثاني فهو لا ينفعنا لاحتمال أنّ التواجد في منى حين الغروب له تأثيرٌ وخصوصيّة . وعلى هذا الأساس لا أولويّة ولا استلزام لا على مستوى الاحتمال الأوّل ولا على مستوى الاحتمال الثاني، فلا ينفعنا إذن إلّا الاحتمال الثالث، ولكن كيف نثبته ؟ يمكن إثباته بترك الاستفصال بأن نقول:- إنه عليه السلام لم يستفصل - أي لم يقل ( هل ذهب من قبل الغروب أو من بعده ؟ ) - وعدم استفصاله يدلّ على أنّه حتى في الاحتمال الثالث لا بأس ولا محذور.
إذن دلالة الرواية على عدم وجوب المبيت في منى في هذه الحالة في حقّ هذه الطائفة الثانية وجيهة ولا محذور فيها.
نعم هناك مشكلة تواجهنا:- وهي أنّ الوارد بالشكل الذي أشرنا إليه - يعني ( عن رجل زار البيت فلم يزل ... ) - قد ورد في نقل الشيخ والصدوق، بيد أنّه ورد في نقل الشيخ الكليني هكذا:- ( وسألته عن الرجل زار عشاءً فلم يزل في طوافه ودعائه .. )[2]، ووجه المشكلة هو أنّ كلمة ( عشاءً ) ماذا تفسّرها ؟ إنّه إمّا أن تفسرها بتفسيرنا المعاصر يعني بعد المغرب بساعة مثلاً، أو أن نفسّر العشاء بمعنى العِشِيّ والعِشِيّ في لغة العرب يطلق على فترة ما بعد الظهر، فعلى كِلا التقديرين لا تنفعنا ؛ لأن الأوّل - أي زار عشاءً يعني بعد الغروب بساعة - هو الاحتمال الثاني المتقدّم وقد قلنا هو لا ينفع لاحتمال أنّ التواجد أوّل الوقت في منى له الخصوصيّة، وإذا كان المقصود من العشاء هو العِشِيّ - يعني بعد الظهر - فهذا هو الاحتمال الأوّل المتقدّم وقد قلنا هو لا ينفع لاحتمال أن التواجد قبل الغروب في مكة بساعةٍ أو أكثر له الخصوصيّة والميزة.
أذن سوف يضرنا نقل الشيخ الكليني، وبهذا الاعتبار يصير التمسّك بالرواية مشكلاً.
الرواية الثانية:- وهي الصحيحة الثانية لمعاوية عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( إذا فرغت من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبيت إلّا بمنى إلّا أن يكون شغلك في نسكك .. )[3]، وهل يمكن التمسّك بهذه الرواية ؟ نعم لا بأس بذلك فإن الإمام عليه السلام أوجب المبيت بمنى ثم استدرك وقال:- ( إلّا أن يكون شغلك في نسكك ) يعني فترة المبيت - يعني من أول الغروب إلى طلوع الفجر - فدلالتها تامّة ولا بأس بها، فالظاهر أنه لا مشكلة في هذه الرواية.
الرواية الثالثة:- وهي الصحيحة الثالثة لمعاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( لا تبت ليالي التشريق إلّا بمنى فإن بِتَّ في غيرها فعليك دمٌ فإن خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلّا وأنت في منى إلّا أن يكون شغلك نسكك .. )[4]، وتقريب الدلالة نفس التقريب السابق فإن الامام أمر بالمبيت بمنى ثم قال فإن خرجت أوّل الليل من منى فلابد وأن تبيت النصف الثاني فيها حيث قال:- ( فلا ينتصف الليل إلّا وأنت في منى )، ثم استدرك وقال لا حاجة إلى أن تأتي إلى منى قبل انتصاف الليل مادمت مشغولاً بالنسك - يعني في مكة مثلاً - . إذن دلالتها قد يقال بأنها تامّة.
اللّهم إلّا أن يقال:- إنّها ناظرة إلى الدم والكفارة، فالإمام عليه السلام هو بصدد التحدّث عن الدم حيث قال:- ( فإن بِتَّ في غيرها فعليك دم ) ثم استمرَّ بالحديث فقال:- ( فإن خرجت أوّل الليل .. ) . إذن الحديث فيها حديث عن الدم، ولا نريد أن نجزم بذلك ولكن الذي نريد أن ندّعيه هو أنّه يحتمل أنّ الحديث عن الكفّارة، فهي مجملةٌ لا ظهور لها من هذه الناحية.
هذا مضافاً إلى إمكان المناقشة بشكلٍ آخر:- وهو أن قوله عليه السلام:- ( إلا أن يكون شغلك نسكك ) يحتمل عوده - ويكفينا الاحتمال - إلى قوله:- ( فإن خرجت أوّل الليل ) يعني أن الخروج أوّل الليل يجوز لكن بأحد شرطين إمّا أن ترجع قبل منتصف الليل أو أن تكون مشغولاً بالنسك وهذا معناه أنّه قضّى شطراً من الليل وهو في منى فلا ينفعنا ذلك، وهذا يكون إشارة إلى الطائفة الثالثة دون الطائفة الثانية التي هي محلّ كلامنا، فإذن التمسّك بهذه الرواية مشكل.
والمهمّ إذن هي الرواية الثانية.
إن قلت:- إن الرواية الثانية لو كانت وحدها من دون وجود الأولى والثالثة لكانت جيّدة ولكن وجود الأولى والثالثة يزعزع حجيّتها وذلك باعتبار أنّ الناقل لهذه الروايات الثلاث شخصٌ واحد وهو معاوية بن عمّار، ومن البعيد أو لا أقل من الوجيه أنّ الرواية واحدة وليست متعدّدة وهذا تعدّدٌ في النقل دون نفس الصادر من الإمام عليه السلام فالصادر من الإمام واحدٌ ولكنّ النقل صار بأشكالٍ ثلاثة، وحيث لا نشخّص ذلك الصادر وأنّه ما هو ولعله هو الرواية بالنقل الثالث ولعلّه هو الأولى فلا تنفعنا إذن الرواية الثانية أيضاً بعد احتمال كونها عين الرواية الثالثة أو عين الرواية الأولى.
قلت:- نحن فيما سبق كنّا نبدي هذا الاحتمال فيما إذا فرض وجود سؤالٍ من معاوية بن عمّار بأن يقول:- ( سألته عن هذه القضيّة وهي من أراد أن يزور البيت ) فهنا يأتي ما أشرنا إليه سابقاً من أنّه من البعيد أنّ معاوية بن عمّار - الذي هو كالحاسوب في باب الحج - أن يسأل قضيةٍ واحدةٍ ثلاث مرات، فحينئذٍ يكون احتمال أنه سأل مرّة واحدة ولكن الاختلاف صار في طريقة وشكل النقل يكون احتمالاً وجيهاً، ومعه لا نجزم بانعقاد السيرة بعد وجاهة الاحتمال المذكور على الحكم بالتعدّد لأن مدرك الحكم بالتعدّد ليس إلّا الاسيرة والسيرة مع احتمال وحدة الصادر بدرجةٍ وجيهةٍ لا نجزم بانعقادها فيكفينا عدم الجزم بانعقادها، وهذا بخلافه في المقام فإنه لا يوجد هناك سؤالٌ من قبل معاوية بل قال ( سمعت الإمام الصادق هكذا قال ) ولعلّ هذا قد تكرّر في مجالس مختلفة من الإمام عليه السلام وهو قد سمع ذلك في تلك المجالس فلم يكن هناك سؤال في هذه الروايات الثلاث حتى يأتي هذا الاحتمال ويكون وجيهاً.
إن قلت:- إنّ النقل الأوّل فيه لفظ ( سألت أبا عبد الله ).
قلت:- نعم ولكن النقل الثاني والثالث ليس فيه ذلك . وعلى هذا الأساس من الوجيه أنّ النقل الأوّل كان بسبب سؤال معاوية أمّا النقل الثاني والثالث فلم يكن بسبب سؤاله فهو لم يقل ( سألته ) وإنما سمع ذلك من الإمام عليه السلام في المجلس، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نقول من الوجيه أن تكون هذه الروايات الثلاث هي واحدة، فصحيحٌ أنّ هذا احتماله موجودٌ ولكن ليس احتمالاً وجيهاً يزعزع من التمسّك بالسيرة.
إذن اتضح لحدّ الآن أنّ الرواية السالمة هي الرواية الثانية من روايات معاوية.
الرواية الرابعة:- صحيحة صفوان، قال:- ( قال أبو الحسن عليه السلام:- سألني بعضهم عن رجلٍ بات ليالي منى بمكة فقلت لا أدري . فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال عليه السلام:- عليه دم شاة إذا بات، قلت:- إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنومٍ ولا لذّةٍ أعليه مثل ما على هذا ؟ قال:- ما هذا بمنزلة هذا وما أحبّ أن ينشقّ له الفجر إلّا وهو بمنى )[5].
وقبل أن نقرّب دلالة هذه الرواية قد يشكل:- بأنّ الوارد فيها هكذا:- ( فقلتُ لا أدري ) والظاهر بل أكثر من الظاهر أنّ التاء في كلمة ( فقلتُ ) ترجع إلى الإمام عليه السلام، وحينئذٍ كيف نأخذ بهذه الرواية والحال إنّها مخالفة لما نعتقده في منصب الإمامة ؟!! فالرواية مردودة من البداية.
قلت:- أيّ مانع من حملها على التقيّة ؟!! فإنه عليه السلام :- ( سألني بعضهم ) ولم يقل ( سألني بعضٌ ) فهو يعني بعض أفراد الخط الثاني فتكون حينئذٍ صادرة على سبيل التقيّة باعتبار أنّ بعضهم قد لا يوجب ذلك - على ما ينقل عنهم -، وعلى أيّ حال لا موجب لردّ الرواية بعد إمكان حملها على التقيّة.
وهناك قرينة ثانية:- وهي أنّ صفوان لم ينكر على للإمام ويقول ( سيدي كيف تقول لا أدري ؟ ) بل سكت ولم يقل شيئاً وهذا معناه أنّه فهم شيئاً طبيعياً وما هو إلّا أجواء التقيّة ولذلك لم يسأل شيئاً . وعلى هذا الأساس لا مشكلة من هذه الناحية.
ومحلّ الشاهد هو قوله:- ( فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ )، وهذا شاهدٌ ثالثٌ وهو ( إنّك قلتَ لا أعرف جواب المسألة والحال أنّك تجيب عنها الآن ؟!! )، أو أنّ صفوان عندما قال الإمام لا أدري فكيف تأتي وتقول له ( ما هو الجواب ؟ ) وهذا معناه أنّه كان واضحاً أنّ القضيّة كانت قضيّة تقيّة، والشاهد هنا هو قوله:- ( ما تقول فيها ؟ فقال:- عليه دم شاة إذا بات، فقلت:-  إن كان إنما حبسه[6] شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنومٍ ولا لذةٍ أعليه مثل ما على هذا ؟ قال:- ما هذا بمنزلة هذا )، يعني أنَّ هذا ليس عليه شيءٌ، ثم قال:- ( وما أحبّ أن ينشقّ له الفجر إلّا وهو بمنى ).
هذا وقد يناقش في دلالة هذه الرواية:- بدعوى أنها ناظرة إلى الكفّارة حيث أنّ صفوان سأل عن ذلك فقال:- ( أعليه مثل ما على هذا ؟ ) يعني من دم الشاة فأجاب عليه السلام وقال:- ( ما هذا بمنزلة هذا )، فإذن هي ناظرة إلى مسألة الكفّارة وليست ناظرة إلى الحرمة التكليفيّة وأنّه هل يحرم عليه أو يجوز له المبيت في مكّة للطواف والسعي، فمادام قد بقي مكة للطواف والسعي فلا كفّارة عليه، أمّا أنّ هذا جائزٌ له أو أنه فَعَل حراماً حيث ترك المبيت في منى ولكن لا توجد كفّارة في حقّه مادام قد اشتغل بالطواف والسعي فقد يقال بأن دلالتها عليه ليست بتامّة.
ولكن نجيب ونقول:- توجد قرينة في الرواية تدلّ على أنَ مقصود الإمام عليه السلام ما يشمل كِلا المطلبين - يعني أنّ الإمام ناظر إلى مسألة الكفارة وأنه ليس عليه كفّارة وفي نفس الوقت هو ناظر إلى جواز المبيت وأنه جائز له - وتلك القرينة هي قوله عليه السلام:- ( وما أحبُّ أن ينشقّ له الفجر إلّا وهو بمنى ) فإن هذا الكلام لا داعي إليه إذا كان النظر إلى الكفّارة فقط، فلابد وأن يكون نظره عليه السلام إلى مسألة جواز المبيت أيضاً الذي هو محلّ كلامنا الآن.
وعلى أيّ حال دلالة هذه الرواية على الجواز لا بأس بها.